الأفاعي الصهيونية في أعالي النيل

علي عبد العال

صحفي مصري/ القاهرة

[email protected]

 بينما نحن منشغلون بمعارك وهمية: مع الجزائر على خلفية مباراة لكرة القدم، ومع قطر بسبب قناة "الجزيرة"، ومع "غزة" المحاصرة إرضاء لأمريكا و(إسرائيل)، فضلاً عن عملية التجييش التي تجري على الساحة الداخلية من قِبل الحزب الحاكم استعداداً لتزوير إرادة الشعب، إذا بنا نستيقظ على كابوس مروع حرَّكت خيوطه في أعالي النيل عصابات الاحتلال الصهيوني التي تركناها تمرح فوق أرض فلسطين بلا حساب، حتى صارت تُهددنا في أعز ما نملك "نهر النيل"، المورد الوحيد للمياه العذبة في مصر، وصاحب أول درس كانت أعيننا تتفتح عليه في الصغر "مصر هبة النيل".

ليس مصادفة أن يكون وزير خارجية (تل أبيب) المتطرف، (أفيغدور ليبرمان)، الذي هدد علانية بتدمير السد العالي وإغراق مصر بمياهه، هو نفسه الذي يقود جهود هذه المؤامرة مع حلفائه في دول حوض النيل، حتى ليستطيع أن يقول (ميليس زيناوي)، بفضل جهوده وفي جرأة غير معهودة: "أن مصر لن تستطيع أن توقف إثيوبيا أو تمنعها من بناء السدود على النهر"، بل "لا ينبغي لمصر أن تحاول إيقاف ما لا يمكن إيقافه"، معتبراً أن الظروف التي كانت سائدة في السابق "تغيَّرت وإلى الأبد"؛ تلك الظروف التي هدد بمقتضاها الرئيس أنور السادات بضرب إثيوبيا عام 1978 إذا لم تتوقف عن بناء أحد السدود، ثم لم يكن بوسع أديس أبابا إلا أن ترضخ.

كانت مصر خارجة "منتصرة" لتوها من معركة أكتوبر، فعلَّق السادات في خطابٍ له على تصريحات الزعيم الماركسي (منجستو)، قائلاً: "الرجل بتاع إثيوبيا يقول إنه سيُقيم سداً على منبع نهر النيل، بما يعني إعلان حرب، وأنا أقول له لن يُقام سد على النيل، ومن يرشنا بالدم نرشه بالنار"، إذ كان الموقف من القضايا المصيرية محسوماً في الماضي، قبل أن تنشغل مصر بقضايا تافهة بينما المخططات تجري من وراء ظهرها!!

فالكيان الصهيوني لن يغفل عن العرب والمسـلمين مهما غفلوا عنـه، والمؤامرات التي يُحيكها ضدهم لا يمكن أن تتوقف، والتآمر هنا ليـس تهمـة توجـه جُزافا إلى (تل أبيب) بل صار واقعاً مُعاشـاً ومسـلسـلاً مسـتمراً لا تنتهي حلقاتـه... وإلا ما الذي يضطر مجموعة من الدول المثقلة بمشاكل لا نهاية لها إلى اختلاق أزمات والدخول في مواجهة بهذا الحجم مع مصر والسودان ومن وراءهما العالم العربي ما لم تكن مدفوعة بإغراءات لا سقف لها؟! خاصة في ظل انعدام حاجة هذه الدول للمياه التي دخلت الصراع تحت لافتتها!؟

فبينما تعتمد مصر على مياه النيل في سد إحتياجاتها بنسبة 95%، تُمثل هذه النسبة لإثيوبيا 1%، وكينيا 2%، وتنزانيا 3%، والكونغو 1%، وبوروندي 5%، حيث تملك هذه الدول ما يزيد عن حاجتها من المياه نظراً لكثرة البحيرات العذبـة والأنهار وهطول الأمطار فوق أراضيها، إذ يتجاوز إجمالي حجم مياه الأمطار التي تهطل داخل حوض النيل 1660 مليار متر مكعب، حصة مصر منها لا تزيد عن 55,5 مليار متر مكعب، والسودان 18,5 مليار متر مكعب، أي لا يُستغل من هذه الكميات الهائلة سوى 4%، في حين يضيع الباقي دون فائدة نتيجة التبخر أو ضياعه في المستنقعات والأحراش.

ظلَّ الكيان الصهيوني يعمل في الخفاء على مدار عقود يتحين خلالها الفرص للتحريض على حصة مصر من مياه النهر، وقد تحرك في هذا الإطار على أكثر من صعيد:

ـ دولياً لتغيير القواعد القانونية المعمول بها في توزيع مياه الأنهار؛

ـ وعالمياً، فأدخلت عبر جهود واشنطن والبنك الدولي مفاهيم جديدة، مثل "تدويل الأنهار" و"تسعير المياه"، أي جعل المياه سلعة تُباع لمن يدفع الثمن، ولو لم يكن من دول حوض النهر كالكيان الصهيوني نفسه؛

ـ وإقليمياً بدفع الدول الأفريقية إلى إلغاء الإتفاقات السابقة مع مصر والسودان، إنطلاقاً من حجج واهية، ثم مدها بالخبرات اللازمة لبناء السدود وتحويل المياه إلى أراضيها لإقامة مشاريع زراعية وتوليد الكهرباء.

فالتآمر الصهيوني على مياه نهر النيل قديم قِدم الأحلام الصهيونيـة بإقامـة دولـة تمتد "من النيل إلى الفرات"، ومنذ مؤتمر بازل عام 1898م اسـتندت الحركـة الصهيونيـة في بناء دولتها إلى إسـتراتيجيـة تضع المياه على رأس أولوياتها، باعتبار أهَمّيَّتها القصوى في هذه المنطقـة الجافـة من العالم؛ فبدون المياه تسـتحيل الزراعـة في المسـتوطنات، ويتعذر تنفيذ برامج اسـتيعاب المهاجرين، وهو ما عبَّر عنه (حاييم وايزمان) ـ أوَّل رئيـس للكيان الصهيوني ـ في رسـالـة كتبها عام 1919 إلى (لويد جورج) رئيـس وزراء بريطانيا قال فيها: "إن مسـتقبل فلسـطين الاقتصادي يعتمد على موارد مياهها للري."

ولذلك وضعت الحركـة الصهيونيـة مخططات مبكرة للسـرقـة والتحكُّم بمصادر المياه في الوطن العربي؛ ففي العام 1903م تقدم (تيودور هرتزل) إلى حكومـة بريطانيا بفكرة توطين اليهود في سـيناء واسـتغلال ما فيها من مياه جوفيـة إلى جانب بعض مياه النيل، فوافق البريطانيون على أن يتم تنفيذ هذا المخطط في سرية تامة، لكن جدت أسباب سياسية تتعلق بالظروف الدولية والاقتصادية جعلت بريطانيا تتراجع عن فكرة التوطين، وبقيت فكرة الاستفادة من مياه سيناء الجوفية إلى جانب مياه النيل قائمة من أجل ري صحراء النقب.

وبينما حفر الكيان الصهيوني بالفعل عدد من الآبار العميقة ( 800 متر من سطح الأرض) على الحدود لسرقة مياه سيناء، طرح أحد المهندسين (اليشع كالي) عام 1974م تخطيطاً لنقل مياه النيل إلى الكيان الصهيوني، نشره تحت عنوان "مياه السـلام"، وكان يتلخص في توسيع ترعة الإسماعيلية لزيادة تدفق المياه فيها، على أن تُنقل هذه المياه أسفل قناة السويس بعد اتفاقيات السلام، إلا أن ذلك لم يحدث حتى الآن، وربما يكون وقوفها خلف هذا التمرد من قِبل دول حوض النيل بمثابة بدء الخطوات العملية لتنفيذ هذا المخطط على الأرض.

وفي العام 1994 برزتْ فكرة إنشاء سوق للمياه في المنطقة في ندوة عُقدت بجامعة (تل أبيب)، وفيها طُرِحت أفكار متعددة حول تكلفة توفير المياه من مصادرها المختلفة، وبينما استُبعدت فكرة تحلية المياه لارتفاع تكلفتها، تناول النقاش جدوى جلب المياه من مصر أو تركيا، وحُسبت تكلفتها من النيل حتَّى قطاع غزة والنقب، وتكلِفَتها من تركيا (الفرات) إلى طبرية، فتبيَّن لهم أن جلبها من مصر أوفر اقتصادياً، وهو ما يمكن تنفيذه من خلال (مشروع ترعة السلام) وهو مشروع كان قد طرحه السادات في صفقة تبادلية مع الكيان الصهيوني مقابل حصول الفلسطينيين على السيادة على القدس الشرقية، لكن لم تتحقق هذه السيادة، لذلك اتجهت السـياسـة الإسـرائيليـة لتركيز جهودها على دول حوض النيل من أجل الالتفاف على الرفض المصري.

أخذ التغلغل الإسرائيلي طريقه إلى مفاصل أفريقيا بهدف تطويق المد العربي والإسلامي من الجنوب، والاستفادة من الثروات، والحصول على تسهيلات عسكرية، منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي؛ وذلك بالتزامن مع حصول الدول الأفريقية على استقلالها، وفي هذا الإطار وظَّف الصهاينة أنشطة ومجالات مختلفة: العلاقات الدبلوماسية، والتبادل التجاري، وتوريد الأسلحة، ومجالات الري والزراعة وإدارة المياه، وشركات الأمن، والمساعدات الإنسانية، وتصدير الزهور، واستخراج الذهب والماس، واستغلال الصراعات، حتى أصبحت القارة السـمراء مرتعاً للخبراء والدبلوماسـيين ورجال (الموسـاد) والتجار والعسـكريين الإسـرائيليين.

ومنذ أواخر الثمانينيات ركزت السـياسـة الإسـرائيليـة على ترشـيد توجهاتها الأفريقيـة بالتركيز على مناطق نفوذ محددة، وكان من أبرز تلك المناطق القرن الأفريقي وحوض النيل‏ بهدف الإمسـاك بأوراق ضغط رئيسـيـة في قضيـة المياه.

ولم يكن الكيان الصهيوني ليعبث وحده في مياه النيل لولا مسـاعدة القوى الدوليـة التي زرعتـه من قبل في قلب العالم العربي، والتي تأبى إلا أن تُكمل المشـوار خلف هذا النبت الشـيطاني؛ ففي العام 1964م في الوقت الذي ساءت فيه العلاقة بين جمال عبد الناصر والأمريكيين استخدمت واشنطن مشروعاتِ استصلاح أراضي إثيوبيا؛ كورقة ضغط على مصر، وفي محاولة منها للرد على مشروع السد العالي اقترحت أمريكا إنشاء ما يقرب من 33 سَدَّاً وخَزَّاناً؛ لتوفير مياه الرَّيِّ لإثيوبيا، بما سينعكس مباشرة على الكمية القادمة من النيل الأزرق بنحو 5.4 مليار متر مكعب. وبمساعدة من الولايات المتحدة نجح الكيان الصهيوني في تأمين سيطرته على مشاريع الري في دول الحوض، حيث يقوم بتقديم الدعم الفني والتكنولوجي من خلال الأنشطة الهندسية للشركات الإسرائيلية هناك.

وقد أظهر التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا حجم العلاقات والنفوذ الواسع الذي يتمتع به جهاز الاستخبارات (الموساد) في القارة إثر إنكشاف صفقات السلاح، وعمليات ترحيل اليهود الأثيوبيين (الفلاشا) إلى فلسطين، فضلاً عن الجهود التي بُذلت لإجهاض أي مشاريع قد تُحقق فائدة لدولتي المصب، فعندما سعت مصر والسودان لزيادة حصتهما من مياه النيل بحفر قناة "جونجلي" السودانية التي كانت ستوفر قرابة 15 مليار متر مكعب من مياه النيل تضيع في الأحراش والمستنقعات جنوب السودان، تحركت (تل أبيب) ودعمت حركة التمرد الجنوبية "الجيش الشعبي لتحرير السودان" وأفشلت هذا المشروع بعد ما هاجم المتمردون المهندسين المصريين والسودانيين وأحرقوا حفَّار المشروع.

وأخطر من ذلك ما سـجلـه الدكتور حامد ربيع في كتابـه "الأمن القومي العربي" حيث ذكر أن الكيان الصهيوني يقوم بأبحاث وتجارب حول سـلسـلـة جبال تفصل نهر النيل عن نهر النيجر... فإذا أمكن تفجير هذه الجبال بقنبلـة هيدروجينيـة فقد يتحول مجرى نهر النيل إلى نهر النيجر، وهو ما علَّق عليه بالقول: حتى وإن كانت الفكرة تبدو خياليـة لكن ماذا نحن فاعلون لمواجهـة هذه الأخطار!!؟؟