ومضات من أسطول الحريّة
صلاح حميدة
كتب عن مجزرة أسطول الحرية ما لا يعدّ ولا يحصى من المقالات والتحليلات، وتحدّث الإعلاميون والسياسيون عن تبعات ما جرى على العلاقات البينية والإقليمية، بل زاد المحللون والسياسيون بأنّ هذه المجزرة أعدّت الساحة الدولية والإقليمية لمرحلة جديدة، قد نستطيع وصفها بمرحلة الحرية.
إشارات كثيرة من المهم ملاحظتها في هذه المرحلة، ولا يمكن غضّ النّظر عنها وكأنّها لم تحدث، فمن الإشارات المهمّة لمرحلة الحرية أنّها أبرزت دور المرأة المسلمة على نطاق دولي في صناعة الحدث التاريخي، بل وضعتها في قلب هذا الحدث وباتت من صانعيه وفي محور تداعياته، فقد لفت النّظر العدد الكبير من النّساء العربيات والمسلمات على متن أسطول الحريّة، وبرز الكثير منهن مثل الشّهيدة المغربية (كنزة) وكذلك الصّحافيات والمتضامنات الجزائريات والأخت السّورية والمقاتلات الكويتيات وزوجة الشّهيد التركية، ورأس الحربة أخت الرّجال حنين الزّعبي التي وقفت شامخة أمام عاصفة العنصريين في قلب الكنيست ولم يرمش لها جفن.
الإشارة القويّة فيما يخصّ النساء في مرحلة الحريّة، كانت أنّ النّساء المحجّبات دخلن البرلمان التركي لأول مرة بدون ضجة ولا استنكار ولا حتى اعتراض من غلاة العلمانية، فمن راقب المشهد في البرلمان أثناء كلمة رئيس الوزراء التركي، لاحظ العدد الكبير من المحجّبات الموجودات في البرلمان، بل سلّطت كاميرات الصحفيين الوقت الكثير عليهنّ، وحتى هذا الحيّز المهم والطّويل من التّغطية الإعلامية لوجودهنّ في البرلمان لم يثر أيّ اعتراض لاحق، وهذا بحد ذاته إنجاز غير مسبوق.
أثار الوجود المكثّف للنّساء المحجبات وذوات الاتجاه الاسلامي على متن أسطول الحرّية ودورهن المركزي في الحملة البحرية لكسر الحصار غزة، أثار إعجاب الكثيرين بالخطوة المهمة التي خطتها الحركة الاسلامية العالمية نحو إبراز دور المرأة المسلمة في صناعة أحداث تاريخية، فالمرأة المسلمة الحركيّة كانت تتهم بأنّها تابعة للرجل وخانعة وذليلة له و متمسكنة مضطهدة لا دور لها، وأنّها عبارة عن تابع لا يصنع حدثاً ولا دور لها في المجتمع والسّياسة، ولكن وجود نساء وبنات وأخوات لقادة كبار في الحركة الاسلامية وقيادات نسائية في الحركة الإسلامية العالمية، أعطى صورة مغايرة عن الصورة النّمطية للمرأة في الحركة الإسلامية، وأعاد صورة خولة بنت الأزور التي تقود المسلمات و تقتحم حصون الأعداء لتنقذ المسلمين من أسر أعدائهم.
أعطت مرحلة الحرية إشارات مهمّة لمن يؤمنون بما يعتبرونه القدر الأمريكي على الأمة وعلى مسار التاريخ، وبيّنت لهم جميعاً أنّ الإرادة الأمريكية ليست قدراً على الأمّة، وبينما كان هؤلاء يجهدون أنفسهم لإجبار النّخبة الفلسطينية المقاتلة على الرّضوخ للإرادة الأمريكية، أثبتت مرحلة الحريّة أنّ الصّمود والصّبر على المحن والحصار والحروب والقمع يؤتي أكله إيجابياً في النّهاية، وأنّ الحصار على وشك الإنكسار وأنّ الأحزاب على وشك الإندحار بلا رضوخ لأيّ مطلب من شروط الرّباعية، والمطلوب الآن إحسان استثمار اللحظة التاريخية للبناء عليها مستقبلا.
أعطت مرحلة الحريّة إشارات واضحة على الدّور المحوري الّذي لعبته الحركة الإسلامية في العالم في تنظيم والمشاركة في الحدث، وخاصّة جماعة الإخوان المسلمين، كما بيّنت هذه المشاركة الواسعة محورية فلسطين في التّفكير الإستراتيجي للحركة الإسلامية، وقدرة الإسلاميين على إدارة معركة نضالية سلمية من كل العالم في خدمة القضية الفلسطينية، بالتوازي مع دورهم المحوري في دعم القضية في جوانب أخرى مالية وخيرية وإعلامية وسياسية وغيرها.
بيّنت مرحلة الحريّة أنّه بالقدر الذي فيه فلسطين مقيّدة ومحتلة، فإنّ تركيا أيضاً ترزح تحت قيود كثيرة منذ قرن من الزّمان، فلا زالت تركيا تعاني وتحاول بشعبها ونخبها السّياسية إحسان استثمار اللحظة التاريخية لتحقيق أفضل النتائج والتّخلّص من قيود القرن الماضي، ولذلك لا يثقلنّ أحد على تركيا بالإتهام فيما يغرق هو في بحر من الآثام، ولا يبالغنّ أحد في المأمول وسرعة تحقيقه، فالثّمار بحاجة لوقت حتى تنضج، فغلال قرن من الزّمان لا يمكن تحطيمها في بضع سنوات، فالإنجازات التاريخية ضد الكيانات العنصرية الكولونيالية الإحلالية تعتمد على مبدأ مراكمة الإنجازات ولا تؤخذ بالضّربة القاضية، وفي هذه اللحظة التاريخية الأتراك بحاجة لمن يستثمر في الإيجابي ويساعدهم في التّخلّص من السّلبي ومراكمة الإنجاز تلو الإنجاز حتى تحين ساعة الحريّة، ولمن يستعجل عليه بدراسة تجربة القضاء على الممالك الصليبية ( الفرنجة) في فلسطين حتى يدرك ما أقول.
أعطت مرحلة الحريّة إشارات واضحة إلى الثّقل الكبير والدّور المحوري لفلسطينيي أوروبا وفلسطينيي الدّاخل الفلسطيني المحتل عام 1948م في صناعة الحدث المحلّي والإقليمي والعالمي، وتمثّل هذا في تنظيم الأسطول من قبل الحملة الأوروبية ومواصلة اعتقال أحد قادة فلسطينيي أوروبا من قبل الإحتلال وهو أمين أبو راشد، الذي يعتبر من أعمدة كاسري حصار غزة البحري، والذي نجح قبل ذلك في خرق الحصار البحري في سفينة غزة الحرة، إضافةً إلى الدّور المحوري والمركزي للشيخ رائد صلاح ولجنة المتابعة العربية وحنين زعبي وغيرهم ممّن أشارت مشاركتهم الفاعلة المقدامة إلى استحالة تقسيم الشّعب الفلسطيني وتغييب قضيته العادلة، وأنّ هذا الشّعب وحدة واحدة لا تتجزّأ، وأنّ معركته مع الإحتلال ولا أحد سواه، بوصلتة واضحة الوجهة يجتمع عليها الفلسطينيون بكافّة توجهاتهم الفكرية وأماكن تواجدهم الجغرافية.
المشاركة المتنوعة في أسطول الحرية أعطت إشارات واضحة للكثيرين بأنّ المعركة الكبرى مع الإحتلال و العنصريّة والاضطهاد وقمع الشعوب ومنعها من اختيار ما تريد و العيش كيفما تريد، له أنصار وجنود كثر تتنوع دياناتهم وأعراقهم وتوجّهاتهم الفكرية والسياسية، وهذا ما بيّنه التّضامن الدولي الكبير والواسع مع المحاصرين والمقتولين في قطاع غزة، هذه الحقيقة تضع مسؤوليات كبيرة على صنّاع القرار في المقاومة الفلسطينية لإيجاد آليات مناسبة للتّواصل مع هؤلاء النّاس، الذين هبّوا لنصرة الشعب الفلسطيني ومقاومته فيما خذلها بعض الأقربين.
أشارت حنين زعبي وغيرها من قادة الفلسطينيين في الدّاخل الفلسطيني في كلمتها في أمّ الفحم - بعد الإفراج عن الشيخ صلاح - إلى قضية هامّة لم تدركها هي ولا غيرها من قبل بصورتها الحقيقية، وهي أنّ المشاركة في هذا الأسطول أعطت قيادات الفلسطينيين في الدّاخل الفلسطيني الفرصة لاكتشاف بعضهم البعض ومنحتهم فرصة للمكاشفة، وأذابت الكثير من الحواجز السياسية والإنسانية بينهم عندما وقفوا أمام عظم الهدف وخطورة ودقّة المرحلة، ومن المؤكّد أنّ مرحلة الحريّة ستشهد فتح صفحة جديدة من التّعاون والتّواصل والوحدة والتنسيق بين قيادات وقواعد الدّاخل الفلسطيني، وهذا أعطى صورة واضحة لكل مراقب بأنّ الفلسطينيين لا يوحّدهم إلا مقاومة الإحتلال، ولا يفرّقهم إلا الدّخول معه في لعبة المفاوضات اللامنتهية.
إشارات كثيرة هي التي بالإمكان استخلاصها من مرحلة الحرية، والتي ستحدد معالم المستقبل المشرق في منطقتنا، ولكن من الممكن أن تكون هذه الإشارات السّالفة الذّكر من أهمّ ما ميّزها.