رواية الإعلام ... ورواية الميدان
صلاح حميدة
جسامة الحدث تفرض نفسها على وسائل الاعلام حتى لو حاولت إغماض عينيها، جريمة دولة الاحتلال بحق أسطول الحرية وقتلها للمتضامنين بدم بارد فرض نفسه على وسائل الاعلام الدولية والعربية، بل كان الكثير من ممثلي وسائل الاعلام على متن هذه السفن وهم في عداد الأسرى الآن.
يكاد يجمع الجميع أنّ الدولة العبرية فشلت في معركة الاعلام، وأنّ إدانة شعبية وحقوقية دولية واسعة تنصبّ على المجرمين قراصنة البحر الرّسميين، وترافق مع هذه الحملة الشعبية والحقوقية بعض من الإدانة الدّولية التي اتسمت بشكل عام بالنّفاق واللا مبدئية.
حرص قراصنة البحر المتوسط على تشويش وحجب البث الفضائي وصادروا كافّة التّصاوير من المتضامنين والصّحفيين، بل لا زالوا جميعاً محرومين من قول روايتهم أمام النّاس وعلى الملأ، ولا زال القراصنة يبرزون روايتهم فقط عبر وسائل الاعلام بمؤتمرات صحفية متتابعة، إضافة لتسريب متعمّد لأشرطة فيديو مجتزأة تحاول دعم الرّواية الرّسمية للقتلة، وتظهر هذه التّصاوير المتضامنين الدّوليين وكأنّهم هم المعتدين على قوات الكوماندوز المدعومة بالطّائرات والبوارج وكل أنواع الاسلحة، وأنّ من اقتحم السّفن في المياه الدّولية واعتدى على من فيها وسرق محتوياتها وسجن وقتل له الحق بخرق كل القوانين الدّولية والانسانية، بينما من المحظور على من يتعرض للقرصنة والقتل في عرض المياه الدّولية أن يدافع عن نفسه حتى بكرسي أو بعصا؟!.
في ظلّ اللهفة الكبيرة لكل صورة ولكل خبر عن ما جرى ويجري للأسطول التّضامني ومن فيه، عمدت الدّولة العبرية للتسريب الاعلامي بشكل انتقائي وبما يعزّز روايتها هي فقط، بل بدأ بعض من الصحافيين العنصريين الذين رافقوا عملية القرصنة بالترويج لفبركات وقصص متناقضة تحتوي من الكذب الكثير حول تعرّض قراصنة المتوسط لهجوم كاسح من المتضامنين المسلّحين وأنّ القراصنة اضطروا للدفاع عن أنفسهم؟!. وكأنّ المتضامنين هم من أتى بالطّائرات والبوارج والمسلّحين وقتلوا وأطلقوا النار على الآمنين في وسط البحر؟! وكأنّ هذه السفن لم تفتّش عشرات المرّات من قبل الأمن التركي والأوروبي قبل انطلاقها؟! وكأنّ هذا السّيل من المتضامنين من كل دول العالم ليس فيه عدد مهم من العملاء لأجهزة دولية متعددة تريد معرفة كل ما يدور فوق هذه السّفن؟!.
حرص القراصنة على بث أنباء متضاربة عن إصابة أو مقتل الشّيخ رائد صلاح، وبقي إعلامهم يتلاعب في كل وسائل الاعلام المحلية والدّولية حول مصيره حتى أظهروا هم صوراً له سليماً معافى، فهل كانوا لا يعرفون مصيره حقاً؟ وهل كانت هذه عمليّة جس نبض للجمهور الفلسطيني؟ أم أنّهم اعتقدوا أنّهم قتلوه فيما هم قتلوا شبيهه ثم اكتشفوا أنّهم قتلوا الشخص الخطأ؟ كلّها تساؤلات سيجيب عنها المتضامنون الذين رأوا عملية إعدام شبيه الشّيخ صلاح على متن السّفينة التركية.
دلّت السّياسة الاعلامية التي اتبعها القراصنة أنّ النّية لارتكاب المجزرة والسّيطرة على تداعياتها كانت مبيّتة، فلو كانت النّوايا فقط للسيطرة على السّفن بلا ارتكاب مجزرة، فما الذي كان سيضيرهم إذا لم يشوّشوا على البث الفضائي والاتصالات ويمنعوا المتضامنين والصحفيين القادمين مع الأسطول من قول روايتهم؟.
وسائل الاعلام العالمية نقلت مجبرة الصورة الاعلامية التي أرادها القراصنة، بل بعض هذه الوسائل نشرت الأكاذيب وفتحت مساحات واسعة لروايات القراصنة ومؤتمراتهم الصّحافية والمتحدّثين بإسمهم، فيما منع الطّرف المقابل المأسور من قول روايته، والأصل في مثل هذه الحالات أن يرفض نقل وجهة نظر القراصنة مطلقاً، وحتى من باب الموضوعية فلا بد من منعهم من قول وجهة نظرهم إلا بعد السّماح للمأسورين بقول وجهة نظرهم المقابلة، وكانت الصّورة الاعلامية المغطّية للحدث مشوّهة بامتياز، تنقل صور مسرّبة من القراصنة تدعم وجهة نظرهم، وإعلام يتحدّث في أغلبه عن هجوم واعتراض وينسى أنّ هذه قرصنة وعدوان وجريمة، إعلام انشغل بتعداد مواقف الشّجب والاستنكار والإدانة ونسي أن يوجّه الأنظار لكسر الحصار عملياً، وهي الرّسالة الأهم التي حملها من قتلوا على متن الأسطول، إدانة للعنف ولا تدين الحصار ولا تدين الجريمة في المياه الدّولية، ولا تدين القاتل بإسمه وعينه، وحتى الادانات الاعلامية المنافقة لم تتبع بخطوات عملية على أرض الواقع لتحقيق ما أراده المتضامنون من كسر حقيقي للحوار، وليس فتح مؤقت لمعبر بشكل انتقائي يعزز الحصار ولا يكسره.
فطريق الإدانات الدّولية والنّفاق الدّولي والإقليمي واضح لا لبس فيه، وطريقه ونهاياته واضحة المعالم، وهي تفريغ كل التّضحيات من مضمونها وإبقاء الوضع على ما هو عليه، ومكافأة القراصنة على جريمتهم، بل إنّ بعض ممن يحاصرون غزة عملياً بادر واستنكر المجزرة الاسرائيلية بحق المتضامنين أملاً بقطف بعض من الثمار السياسية للحدث وركوب الموجة.
فرواية الميدان المحجوبة تقول وستقول بما لا يدع مجالاً للشك بأنّ الطّريق إلى غزة يجب أن يفتح، وأن ليل حصارها يجب أن ينتهي، ولكن ليس بدفع الثّمن السياسي الذي يطلبه القراصنة وحلفاؤهم، وليس باستغلال الحالة العاطفية والانسانية لقطف ثمرة ما لم يستطعه القراصنة وحلفاؤهم بالحرب والحصار، فمن يحاصرون غزة لا يمكن الوثوق بكلمات وإدانات واستدعاآت للسفراء الصهاينة من قبلهم، فهذه أساليب خبيثة للتنفيس الجماهيري وتحويل القضية عن هدفها الأساس وهو كسر الحصار سياسياً وإنسانياً.
رواية الميدان لم ولن تبقى أسيرة الجدران في سجن بئر السّبع، بل بدأت بالخروج للعلن عبر حنين زعبي ومصور الجزيرة الذي كسر ذراعه أحد القراصنة عندما صوّر العدوان على المتضامنين في المياه الدّولية، بل صادروا أشرطة الفيديو وأجهزة البث والتصوير الخاصة بأكثر من ستين صحافياً، هذا يفسّر التّأخير المتعمّد لإطلاق سراح المختطفين من المتضامنين والصّحافيين، ولكن هذا لن يحجب الحقيقة، وسيخرج هؤلاء وسيبدأ كل واحد منهم يحكي روايته، وستتلقّفهم وسائل إعلام وهيئات شعبية كثيرة محلية ودولية، وسيكشفون ما أراد القراصنة حجبه، بل ستتفاعل رواية الميدان وستخبوا الرواية المضللة المجتزأة التي أرادها القراصنة للاعلام.
وهنا تقع المسؤولية على عاتق الاعلام الحر ليأخذ برواية الميدان ويؤنسنها، يؤنسن رواية الميدان لكل شهيد ولكل جريح ولكل معتقل، فكل له روايته والتي يجب أن يتم ترديدها مراراً وتكراراً، وإعطاؤها حقها الواجب والمأمول، بل لا بد من اختيار المصطلحات الاعلامية التي يستحقّها الحدث، بدل استعمال مصطلحات تسوّق للمجرمين، بل في الحالات المماثلة لا إمكانية للبس لبوس الحيادية والموضوعية، فعندما تخوض المعركة مع عدوّك عليك بتبني وجهة نظر الحقيقة التي تمثّلها أنت لا أن تلجأ لفتح إعلامك للمجرم ليأخذ منبراً ليخاطب العالم، بينما يتجنّد إعلامه من رأسه حتى أخمص قدميه لدعم جريمته.