ممنوعون حتى من حرية النباح

الشيخ خالد مهنا

[email protected]

كان يا مكان في سالف العصر والزمان امة لها في كل أرض صَولة وتحت قبة كل سماء جولة.. 

كانت سادة الدنيا وشامتها تعمل له الإمبراطوريات السائدة ألف حساب وحساب وترتعد فرائصها من مسافة عام..

ودفعة واحدة لم يبق في دفاترنا لا سيف ولا حصان، تساقط الفرسان عن سروجهم.

معظمهم تخنثوا.. تكحلوا.. تمكيجوا.. تمايلوا أغصان خيرزان حتى تظن سيفاً سوزان، وخديجة ، ومريم عدنان ومروان...

وما كان يدعى تل الربيع يوماً صار في الجغرافية يدعى تل أبيب..

وما كان يدعى بيت المقدس صار يدعى"يهود ستان"...

دفعة واحدة لبست مدننا وعواصمنا لون الموت ولم يبق سوى فلسطين تلبس كل صباح لامه وقلنسوة وخوذة المحارب كفناً وتشعل الأرض إصراراً وعنفوانا ..

دخلوا جحورهم وإستمتعوا بالمسك والريحان وعقدوا صلحاً مع الهوان .. 

وهل هناك هوان أعظم من أن نؤلب على بعضنا البعض ونعلن العداوة والبغضاء من أجل لعبة أو جلدة دقت فيها طبول الحرب والثار وكدنا من أجلها نعيد ايام داحس والغبراء كما حصل قبل أشهر عقيب مباراة تصفيات كأس العالم بي مصر والجزائر.

وبدل أن يقف شعراؤنا ليضفوا بسمة على واقعنا إنصرفوا بكل ما لديهم من سحر بيان ليدفعوا دمعة وها أحدهم يقول:

" لا بارك الله في لعبه تعادي إخوان

ويصير فيها كما بين العرب قد صار

عار نخلي المشاعر بيننا تنهان

عار يصير التفاهم بيننا بالنار

دام كل شي فيه كسبان وفي خسران

لش زوبعه من حماس تنقلب إعصار

لجل التأهل نخلي ضحكة الشيطان

تعلى ويفرح ويزرع بيننا الأشرار

ما بين اخواننا ما كان بالحسبان

فكل شعب يهدد شعب باسم الثار

كاس الغضب كم نسي في شربه الغضبان

إن الغضب في طريقه كل شي ينهار

الصمت أضعف مراتب تحسب الإيمان

وإعلامنا زاد في حشوه على الأخبار

المونديال عاصفة رايح بها الغلبان

باليتنا عاصفه هدت وطن جبار

يالله ادعوك يا عالم بكل الشأن

تهدي ألأحبه وتصلح بين أهل الدار

ويعود حبل التواصل مثلما قد كان

ونخزي إبليس وأعوانه من الأنصار

نرمي الضغينه ونطوي صفحة الأحزان

فأهل الجزائر واهلك مصر بالأخيار

ما أجمل العفو ترسم لونه الأحضان

سلام يا أهل مصر زينة الأقطار

مصر الحبيبة ومنبع خيرة الفرسان

جزائر الخير مليونة بالشرف مقدار

بمثلهم نعتلي ونطاول البنيان

بمثلهم قد بلغنا بالشرف مقدار

سبحان من قد وهبنا نعمة النسيان

والعفو شيمه بها كل الرضى مدرار

بسمه من اثنينكم في حضرة الإحسان

بسمه تسامح وننهي للجفا مشوار

فابلغ من الليل صبح واضح التبيان

بجذب جماله ويسحر برقه الأبصار

أخوة الدين جنه صدرها بستان

وأجمل غصون الأخوه تاجها الأزهار

شعب الجزائر وشعبك مصر في عنوان

شعبين ما يكسره عاصف ولا تيار"

تحكي لنا القصص:

ذات يوم طلب الولد من والده المثقل بأعباء الحياة العربية بعد أن أعطاه علبة ألوانه أن يرسم له عصفوراً فما كان من الوالد إلا أن غمر وغط فرشاة الرسم باللون الرمادي ورسم له مربعاً عليه قفل وقيود وقضبان فقال له ابنه والدهشة تملأ عينيه "...ولكن هذا سجن.. إلا تعرف يا أبي كيف ترسم عصفوراً..."

فقال له والده هامساً وهو ينظر شمالاً ويميناً يا ولدي لا تؤاخذني فقد نسيت شكل العصافير, فوضع له إبنه علبة أقلامه أمامه وطلب منه أن يرسم له بحراً، فأخذ الوالد قلم الرصاص ورسم له دائرة سوداء فقال لوالده ولكن هذه دائرة سوداء يا أبي، ألا تعرف أن ترسم بحراً؟ ثم ألا تعرف أن لون البحر ازرق؟

فقال له يا ولدي كنت في غابر الأزمان وقديم العصور شاطراً في رسم البحار أما اليوم فقد صادروا صنارتي, وقارب صيدي, وصادروا الشواطئ والتفاؤل, وأبادوا أسماك الحرية..

وضع الإبن كراسة الرسم أمامه وطلب منه أن يرسم له سنبلة قمح.. أمسك القلم ورسم مسدساً فسخر الولد من أبيه لجهله في أبجديات فنون الرسم وقال مستغرباً:

ألا تعرف يا أبي الفرق بين السنبلة والمسدس فقال له والده: كنت أعرف في الماضي شكل السنبلة وشكل الرغيف وشكل الوردة، وشكل القمر، وشكل شروق الشمس، أما في هذا الزمن المعدني الذي انضمت فيه الحقول والبيادر والغابات إلى المليشيات وأصبحت فيه الوردة تلبس السترة المُرقطة..

في زمن السنابل المسلحة والثقافة المسلحة والتدين المسلح، فلا رغيف أشتريه إلا وأجد في جوفه مسدساً، ولا وردة أقطفها من الحقل إلا وترفع السلاح في وجهي، ولا كتاب اشتريته إلا ويتفجر بين أصابعي.

يأخذه إبنه إلى طرف سريره ويطلب من والده أن يسمعه خاطرة أو قصيدة..

تسقط من عيون الأب دمعة على الوسادة فيلتقطها ابنه مذهولاًً... ويقول:

ولكن هذه دمعة، يا أبي وليست قصيدة فيقول له: عندما تكبر يا ولدي،ستعرف أن الكلمة والدمعة شقيقتان، وأن القصيدة العربية المرتجلة ليست سوى دمعة تخرج من بين الأصابع. 

يضع الإبن أقلامه وعلبة ألوانه أمام والده ويطلب منه أن يرسم له وطناً... تهتز الفرشاة في يده ويسقط مغشياً عليه من شدة البكاء حزناً على ضياع الأوطان..

****

هل تعرفون ماذا نحن وإلى أي وضع وصلنا ...مواطنون يخافون أن يجلسوا في المقاهي لكي لا تطلع الدولة من غياهب الفنجان ......

يخافون أن يمارسوا الإيمان حسب معتقدهم كي لا يقول المخبرون السريون أننا كنا مجموعة نتلو سورة الرحمن..

وبعد أن علمنا الكون كيف تمارس الحريات وكيف تحمى، وإذ دفعة واحدة يحتاج دخول المرء العربي في أوطانه المزيفة للحمّام إلى قرار سياسي.. والشمس كي تطلع تحتاج إلى قرار.. والديك كي يصيح يحتاج إلى إذن وقرار.. ورغبة الأزواج في الإنجاب تحتاج إلى قرار، وكتابة الشعر حتى على أوراق الشجر يمنع أن يطير في الريح بلا قرار.. ما أردأ الأحوال يا أحبتي، حيث كل طائر يخاف من بقية الطيور وصاحب القرار يحتاج إلى قرار..

أين هي أوطاننا التي كنا نفخر بالانتماء إليها والبقاء فيها وقد خيطت شفاه الشعراء والمتكلمين واستعذبوا القمع والكبت وإذا ما قدر ومات حكيماً لم يجد من يصلي عليه..

أغلقت الجماهير آذانها دون الشعر والصداح والمواويل ، ولم يستجيبوا لطلب الشاعر الذي قال:

"قل لسيافك أن يمنحني حرية النباح"

****

كنا في سالف الأيام حديقة الأحلام... كنا أكبر الأوطان...

لم يعد هذا الوطن المربع الخانات كالشطرنج، والقابع مثل نملة في أسفل الخريطة هو الذي قيل لنا أنه موطننا الكبير..

ليس هذا الوطن المصنوع من عشرين كانتونا والمحكوم من عدة بهلوانيين وقراصنة والممسوخ كالصرصار والضيق والغارق في مُستنقع الكلام والمعطل الإحساس والضمير هو وطننا الكبير.. فيا من يصلي الفجر في حقل من الألغام إن كان ذلك في المسجد الأقصى أو مسجد الجزار أو مسجد الاستقلال أو مسجد حسن بيك أو كنيسة القيامة والمهد.. لا تنتظر من عربان اليوم سوى الكلام، لا تنتظر منهم سوى رسائل الغرام، وليس من ورائهم إلا الطين والسخام.... يا هذا الوطن الذي سميته الإباء..

سميته الحناء في أصابع العرائس... المياه، والسنابل..

سميته النوارس البيضاء والأطفال يلعبون بالزنابق..

سميته البرق الذي بناره تشتعل الأشياء... سميناه أرض الشهداء الذي بعد أن يشيعوا ينبثقون من جديد للاستشهاد وحين يأتي الفجر يرجعون إلى مقارهم ...

لقد بتنا مواطنين دون وطن... مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن.. موتي دون كفن.. نبحث عن قبيلة تقبلنا... عن عائلة تعيلنا... نبحث عن ستارة تسترنا وعن سكن، وحولنا أولادنا احدودبت ظهورهم، وشاخوا وهم يفتشون في المعاجم القديمة عن جنة نضيرة.. عن كذبة كبيرة عريضة تدعى الوطن..

مواطنون نحن في مدائن البكاء... قهوتنا مصنوعة من دم كربلاء وبغداد ولبنان، شاينا مصنوع من دم غزة ورام الله... طعامنا... شرابنا... عاداتنا راياتنا وصيامنا... صلاتنا... زهورناً ، جلودنا مختومة بختم دموي.. معتقلون داخل النص.. مراقبون حتى ونحن في ارحام أمهاتنا.. حيث تلفتنا وجدنا المخبر السري في انتظارنا , يشرب من قهوتنا... ينام في فراشنا، يعبث في بريدنا ينكش في أوراقنا، يخرج من سعالنا... لساننا مقطوع ورأسنا مبتور، وخبزناً مبلل بالخوف والدموع.

إذا استنجدنا بحامي الحمى والثغور قيل لنا ممنوع..

إذا تضرعنا إلى السما قيل لنا ممنوع..

وإن هتفنا يا رسول الله كن في عوننا يعطوننا تأشيرة من غير رجوع.

وإن طلبنا قلماً لنكتب شكوانا جففوا منابعها وأدرجوا اسمها في قائمة الممنوعات..

لا تصدقوا إن أحداً من مضر أو بني ثقيف سيعطي للقدس وغزة وبيت لحم وبغداد وكل وطننا الغارق بالنزيف زجاجة من دمه.. 

يا وطننا المكسور مثل عشب الخريف مقتلعون نحن كالأشجار من مكاننا... فلا تصدقوا مهجرون من أرضنا ودورنا وأمانينا وذكرياتنا، عيوننا تخاف من أهدابها.. شفاهنا نخاف من أصواتها لا تثقوا أنّ امتنا العربية الممزقة ستستضيف آلامنا وتخفف لوعاتنا..

إذا ضحكنا اليوم لراعي البادية سيقتلنا غداً راعي المدينة..

لا أحد يريدنا، لا الفاطميون ولا القرامطة، ولا المماليك ولا البرامكة ولا 

ولا بنو شيبان أو قحطان أو عدنان ..

لا أحد يقرؤنا في مدن الملح التي تذبح كل عام ملايين الكتب..