الدولة العبرية تجلد رفات بلفور

محمد فاروق الإمام

محمد فاروق الإمام

[email protected]

بعد قرن من الزمان تقريباً من الوعد المشؤوم الذي قطعه وزير الخارجية البريطانية اللورد جيمس آرثر بلفور لليهود بأن بريطانيا ستؤسس (وطناً قومياً للشعب اليهودي في فلسطين) تجلد اليوم الدولة العبرية رفاته، وتسقي بريطانيا حنظل الكأس المر تنكراً لليد التي انتشلت اليهود من القبور وجعلت منهم أمة وشعباً تنبض في عروقهم الحياة بعد موات لنحو ثلاثة آلاف عام!!

ففي ردة فعل صهيونية هستيرية على استدعاء الخارجية البريطانية للسفير الصهيوني في لندن وطرد دبلوماسي صهيوني (رئيس فرع الموساد في لندن)، وجه ميخائيل بن آري عضو الكنيست الصهيوني أقذع الشتائم إلى البريطانيين ووصفهم بأنهم ليسوا أوفياء لإسرائيل ومعادون للسامية والصهيونية. ‏

وقال: (إن الكلاب صديقة ووفية لمن يرسلها.. لكن البريطانيين ليسوا أوفياء لنا، هم أوفياء لظاهرة معاداة السامية والصهيونية، وللأسف حكومة إسرائيل وبعض دبلوماسييها يواصلون اللعب لمصلحة هؤلاء).

ولم يتوقف الأمر عند شتائم ميخائيل بن آري، فهذا آرييه ألداد عضو الكنيست الصهيوني يصف البريطانيين بالرياء والنفاق فيقول: (إن البريطانيين يتصرفون بالرياء والنفاق ولا يحق لهم الحكم على إسرائيل) داعياً إلى (الرد بحزم وطرد الملحق العسكري البريطاني الموجود في إسرائيل وأنه يجب التعامل مع الرياء البريطاني بنفس الطريقة).

وقال ألداد شاتماً: (البريطانيون يتعاملون مثل الكلاب تماماً بل وأكثر، حتى الكلاب نفسها تعرف كيف تحافظ على الأمانة، ولا تعرف أن تتعامل بوجهين)، ويتساءل بتهكم: ( ومن هم أصلاً حتى يحاكموننا، ومن عينهم في موضع القاضي لكي يراقبوا تحركاتنا ويمنعوننا من محاربة الإرهاب – على حد زعمه - ).

لم يكن استخدام الموساد لوثائق وجوازات سفر بريطانية في تنفيذ جرائمه حول العالم هي المرة الأولى، ففي عام 1987 تعهد الإسرائيليون لبريطانيا بأنهم لن يستخدموا جوازات سفر بريطانية في أي عملية سرية وذلك في أعقاب قضية العثور على جوازات سفر بريطانية تم التعرف على شخصية أصحابها وهم عملاء للمخابرات الصهيونية الموساد داخل كابينة هاتف في ألمانيا الغربية. وقد اتخذت رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر قراراً بإغلاق مكتب الموساد في لندن بعد اختطاف العالم النووي الإسرائيلي مردخاي فعنونو. ولم تف الدولة العبرية بتعهداتها التي قطعتها لبريطانيا منذ ذلك الحين، فقد استخدمت الوثائق والجوازات البريطانية في تنفيذ العديد من جرائمها.

 ويبدو أن هذه الأحداث وتورط الموساد بمثل هذه القضايا أصبح عادة إسرائيلية ففي عام 2004 غضبت نيوزيلندا من الدولة العبرية بعد أن تم الكشف عن استخدام اثنين من عملاء الموساد جوازات سفر نيوزيلندية ،فاتخذت نيوزيلاندا قراراً حينها بتجميد العلاقات الدبلوماسية .

ولم يقتصر الموساد على استخدام جوازات سفر بريطانية ونيوزلندية لارتكاب جرائمه، فهناك تحقيقات في كل من فرنسا وألمانيا وأستراليا حول استخدام جوازات مواطنيها من قبل الموساد.

ما نشهده اليوم من توتر للعلاقات البريطانية الصهيونية لا يتعدى عثرة من العثرات التي لطالما شابت العلاقات البريطانية الصهيونية على مدى عقود.

تاريخ هذه العثرات قد يعود حتى إلى ما قبل تأسيس الدولة العبرية في عام 1948 فنادراً ما كانت العلاقات بين الطرفين تتسم بالتناقضات والاستياء المتبادل.

ففي عام 1936 وجدت بريطانيا نفسها مضطرة لإخماد ثورة عربية فلسطينية ولكن الأمر لم يتوقف على ذلك فقد تعرضت قواتها للهجوم من قبل جماعات إرهابية يهودية تريد طرد بريطانيا من فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية (على الرغم من أنه داخل صفوف الجيش البريطاني كان هناك لواء من اليهود البريطانيين) ولم تجد بريطانيا مفراً بعد ذلك، فانسحبت من فلسطين في غضب عارم، على أثر تعرض عدد من جنودها وضباطها إلى الاغتيال من قبل العصابات الصهيونية، إضافة إلى تفجير وتدمير هذه العصابات لعدد من منشآتها العسكرية والإدارية والمدنية.

وكان دافع الصهاينة لارتكاب هذه الجرائم ادعاءهم بأن بريطانيا تراجعت عن تنفيذ وعد بلفور ورفض مفهوم الحل القائم على دولتين وفرضها قيوداً على هجرة اليهود الذين كانوا يتعرضون حينها للقتل على أيدي النازيين.

لسنوات كان من الممكن ملاحظة وجود شبح عداء مستتر بين الخارجية البريطانية وإسرائيل.

فبريطانيا أجلت الاعتراف بالكيان الصهيوني كدولة لمدة ثمانية أشهر أما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي فقد تسابقا في الاعتراف بالدولة العبرية.

نستطيع أحيانا أن نلمح شبح خلافات بين لندن وتل أبيب ولكنها تبقى أشباح فقط وليست سياسة واضحة متبعة وجلية.

فقد شهدت العلاقات بين بريطانيا والدولة العبرية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي تحسناً، فقد كانت بريطانيا وفرنسا هما المصدران الرئيسيان لتأمين حاجتها من السلاح وليس الولايات المتحدة كما هي اليوم.

إسرائيل هزمت العرب في حرب حزيران عام 1967 بطائرات فرنسية ودبابات بريطانية وحتى عندما حاولت الدولة العبرية غزو مصر في عام 1956 تواطأت بريطانيا وفرنسا معها وشاركتها في العدوان.

ثم جاء عام 1973 ليشهد نقطة رئيسية في العلاقات بعد أن وجه رئيس الوزراء البريطاني المحافظ إدوارد هيث صفعة قوية للدولة العبرية بحظر بيع الأسلحة لإسرائيل والدول المشاركة في الحرب ومنذ ذلك الحين حولت إسرائيل وجهتها واعتمدت على الولايات المتحدة الأمريكية في تسليحها.

ولم تعد الدولة العبرية تضع ثقتها في أي حكومة أوروبية منذ ذلك الحين على الرغم من استحسانها لنواياهم.

في الوقت الحالي هناك خلاف آخر على ساحة العلاقة بين لندن وتل أبيب إضافة إلى قضية اغتيال المبحوح في دبي، الخلاف هو أن النظام البريطاني يسمح للقضاة بإصدار مذكرات اعتقال بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وهناك دعاوى جادة لملاحقة واعتقال عدد من قادة الدولة العبرية وعسكرييها الذين أمروا ونفذوا العدوان البربري على غزة، والدولة العبرية تتهم الحكومة البريطانية بأنها كانت بطيئة للغاية لتدارك مثل هذا الوضع، وتغيير مثل هذه القوانين.

أوروبا حالياً تموج بأقصى درجات الغضب والاستياء من الدولة العبرية وبتصرفاتها الحمقاء غير المسؤولة، معرضة أمن وسلامة الرعايا الأوروبيين للخطر، مما دعا العديد من الحكومات الأوربية إلى تحذير مواطنيها من السفر إلى الدولة العبرية لأن جوازاتهم ستصور في مطار (بن غوريون) وسيقوم الموساد باستخدامها لارتكاب جرائمه حول العالم.

من المؤسف أن معظم حكومات العالم ووسائل إعلامها تتفاعل مع ما ترتكبه الدولة العبرية من جرائم وتطاول على سيادة وأمن العديد من بلدان العالم، وتنشر غسيل جرائمها القذرة، نجد أن معظم الحكومات العربية وإعلامها الرسمي في عالم آخر لا يقترب من إثارة هذه الأمور، وكأنها خط أحمر لا يجوز لها تخطيه!!