ما بين "محمد البرادعي" و"محمد علي"

د. نيفين عبد الخالق

ما بين "محمد البرادعي" و"محمد علي"

هل هناك وجه شبه؟؟؟

د. نيفين عبد الخالق

[email protected]

الأستاذة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ــ القاهرة

حينما نفتح تاريخ رواد العمل الوطني في مصر تبهرنا سيرهم الحافلة بالبطولة و التضحية و يبرز بوضوح أن مصر لم تكن أبدا في يوم من الأيام تفتقر إلى شخصيات عظيمة ورجال أفذاذ ، فكم من بطل ولدته مصر وكم من قائد عظيم قدمه تاريخ الكفاح الوطني لهذا الشعب العظيم.

وإذا ركزنا البحث و التنقيب في تاريخ مصر الحديث منذ الحملة الفرنسية التي عادت من حيث أتت بفضل بطولة هذا الشعب وكفاحه المجيد، بعد أن مكثت في مصر ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، و شهدت مصر في أعقابها فراغاً سياسياً جعلها مسرحاً لقوى متصارعة تتنازع على السلطة (الأتراك العثمانيين - أمراء المماليك – محاولات الإنجليز لملأ هذا الفراغ)، نجد أن هناك قوي أخرى غير هذه القوى الثلاث كانت أخذ طريقها إلى مسرح الأحداث. تلك هي الإرادة الشعبية التي برزت واكتسبت ثقة في نفسها خلال المقاومة التي صاحبت الحملة الفرنسية، والتي كانت بمثابة قوة أخرى تنمو وتكتسب مزيداً من الثقة والفاعلية. وقد عرف تاريخ الكفاح الشعبي للشعب المصري ثورة العهد الأعظم عام 1795م التي مثلت حركة احتجاج قوية أرغمت الوالي و المماليك على كتابة عهد أو حجة تبين الحقوق و الواجبات بين الحاكم و الرعية. وتلك الثورة تؤكد أصالة الفقه الاحتجاجي و الحراك الاجتماعي و السياسي لهذا الشعب العظيم. و كان من أهم أسباب ثورة الشعب المصري عام 1795م سوء الأحوال المعيشية، وغلاء الأسعار، وكثرة الضرائب، وازدياد المظالم، وانتشار الفساد، وفقدان الأمن والأمان وهي أسباب لا تزال تفعل فعلها في الحراك الشعبي و الفقه الاحتجاجي.

والتجأ الشعب إلي النخبة التي كانت ممثلة في ذلك الوقت في علماء الدين و رجال الأزهر حيث قاد الشعب الزعامات الدينية وفي مقدمتهم السيد عمر مكرم الذي كان عالماً من علماء الدين ومتفقهاً في اللغة العربية، وكان له دور كبير في تكريس مفهوم حكم الشعب وقيم الديموقراطية في المجتمع المصري، فهو أول من قاد ثورة شعبية في تاريخ مصر العثمانية، وجعل الشعب يختار حاكمه بإرادته ويفرض ذلك على الخلافة العثمانية التي كنت بمثابة القوة العظمى التي تتبعها مصر في ذلك الوقت.

ويذكر التاريخ أن الإرادة الشعبية انتصرت بقيادة عمر مكرم وأوصلت "محمد علي" إلى حكم مصر. وهنا عند الحديث عن "الإرادة الشعبية" يكمن عنصر الربط ووجه الشبه بين الحراك الشعبي الذي أوصل "محمد علي" إلى سدة الحكم، والحراك السياسي والاجتماعي الذي تشهده مصر حالياً بخصوص الجدل حول مستقبل الحكم في مصر. فهل تنجح الإرادة الشعبية في إيصال من ترغبه إلى سدة الحكم؟؟

إن الإجابة على هذا السؤال وإن كانت ضرباً من ضروب الغيب إلا أن قدر المفكرين والباحثين أو من اصطلح على تسميتهم "بالمثقفين" أن يجهدوا الذهن في تلك الحوارات وقد تجري الأمور بشكل مخالف تماماً لكل ما قد يثار من جدل وتكهنات.

إلا أن الأمر المثير للانتباه حقاً في خضم تلك الحوارات هو تلك الرغبة الدفينة في المخيال الشعبي والثقافي لدينا في البحث عن "بطل" أو "منقذ" يأتينا ويهبط علينا؟ لقد توسم الشعب المصري في شخص محمد علي ذلك "البطل" المنشود. وهنا سؤال يفرض نفسه لماذا لم تختر النخبة التي قادت الكفاح الشعبي واحداً من داخلها؟ ولماذا لم يتقدم أحد منها ليقوم بهذا الدور وليكن الزعيم عمر مكرم الذي يذكر التاريخ أن الفضل يعود له في قيادة الحركة الشعبية التي أوصلت محمد علي إلى سدة الحكم في مصر؟

إن سيرة عمر مكرم تشهد له كرائد من رواد العمل الوطني، عاصر أحداثاً حاسمة وآلمه ما يعاني منه الشعب المصري من أحوال تسير من سيء إلى أسوأ، وارتباك اقتصاد البلاد، وانتشار الأمراض والأوبئة التي جعلت الشعب ناقماً على حكامه، كل ذلك دفع بعمر مكرم أن يكرس حياته في مواجهة كل صور الظلم والتعسف وأن يكون حاضراً في كل الثورات والاحتجاجات التي عمت البلاد في حياته.

وإذا كان عمر مكرم يتمتع بهذه المكانة الشعبية والتاريخ الحافل، فلماذا لم يقم بحكم مصر؟ أكان ذلك عن زهد في السلطة؟ ولماذا لم يرشحه الشعب هو أو غيره من النخبة التي قادت الحراك السياسي في تلك الفترة من تاريخ مصر؟

لعل الإجابة على هذا السؤال هي التي يمكن أن تفسر لنا ذلك الجدل الدائر والحراك السياسي و الاجتماعي حول شخصية الرئيس القادم لمصر.

فالشعب و النخبة التي قادته وفرضت الإرادة الشعبية التي أوصلت محمد على إلى الحكم، كانت تتمتع بقناعة وذكاء فطري يعلم علم اليقين أن نجاح المطلب الشعبي وقدرته على فرض الإرادة الشعبية يتوقف على اختيار شخص يحظى بالقبول، وإذا كان السؤال هو القبول ممن؟؟ فالإجابة هي القبول من القوة المتحكمة و السلطة العظمى في ذلك العصر التي هي في عصر محمد علي سلطة الخلافة العثمانية. و أبداً لم يكن الشعب ولا النخبة التي قادته يعبرون عن عدم ثقة في القدرات الذاتية أو عدم إيمان بأن بداخل مصر كفاءات يمكنها أن تتولى القيادة. ولكن الذكاء الفطري لهذا الشعب وعى أن السلطة العثمانية ستقبل بهذا الشخص دون غيره، واحسب أن هذا الذكاء الفطري هو الذي يفسر ذلك الحراك السياسي والاجتماعي والجدل الدائر حول "البرادعي" لاسيما وأن البرادعي بدأ بداية لمست مفصلاً مهماً في أي تغيير مستقبلي منشود وهو الخاص بتعديل الدستور.

ويبدو أن الأزمة الحقيقية حينما نفكر في مستقبل الحكم في مصر ليست في شخص الرئيس القادم لمصر، ولكن الأزمة الحقيقية هي في ضعف المؤسسات وعدم مشاركتها مشاركة حقيقية في صنع القرار. واحتكار إرادة الفعل السياسي في شخص الرئيس، فهو وحده الذي يملك القرار السياسي، وتلك هي المشكلة الكبرى.

وأي رئيس يأتي بعد مبارك بدون مؤسسات حقيقية: برلمان، أحزاب قوية، قضاء مستقل، صحافة حرة، إعلام قوي ووا، جامعات ومراكز بحث علمي رائدة، بدون كل ما سبق سيبقى الوضع على ما هو عليه.

فالتغيير الحقيقي الذي يحفظ للمجتمع الأمن والاستقرار ويرسي دعائم النهضة في كل المجالات، ذلك التغيير المنشود ليس بتغيير الأشخاص، بقدر ما هو أن يكون لدينا المؤسسات القادرة على القيام بأدوارها الطبيعية الفاعلة والمعروفة كما هو الحال في أي نظام من نظم الحكم المتعارف عليها في العالم المتقدم. ولكن هل يعني ذلك أن شخصية القيادة ورؤيتها الذاتية ليس لها دور في إحداث التغيير؟؟ إن التاريخ يعلمنا كم قاد التغيير شخصيات وأفراد كان لرؤيتهم و قدرتهم على صناعة التاريخ وإحداث النهضة العامل المحرك لعملية التغيير، وليس من شك أن شخصية محمد علي وذكاءه هي التي ساعدته في الاستفادة من الحراك الشعبي للوصول إلى الحكم أولاً، ثم إحداث النهضة التي حدثت في عصره ثانياً.

وإذا تركنا عصر محمد علي لننظر في عصرنا الحالي عن نماذج للقيادة الإصلاحية، فإن هناك نماذج في دول جنوب شرق آسيا تمكنت من إحداث طفرة اقتصادية مثل "مهاتير محمد" في ماليزيا. الأمر الذي يبعث الأمل و القناعة بأن التغيير المنشود يمكن أن يبدأ بشخص "مناسب" يحمل حلماً في التغيير وتكون لديه من الطاقات و الإمكانات ما يمكنه من تحقيق ذلك الحلم، شريطة أن يسانده حراك سياسي واجتماعي يعبر عن إرادة شعبية، و شريطة أن يحظى في الوقت نفسه بالقبول الإقليمي و الدولي. ويبدو أن مستقبل الحكم في مصر سيكون مرتهناً بتحقيق معادلة التوازن تلك ما بين قوى الدفع من الخارج (الممثلة في الرضا والقبول)، وقوى الدفع من الداخل الممثلة في الإرادة الشعبية القوية التي تحفظ لمصر استقلاليتها وحريتها.