ثلاث رسائل خاصة إلى الإمام علي

رياض الأسدي

[email protected]

الرسالة الأولى لم تؤرخ كتبت على ورقتين مخطّطتين انتزعتا من وسط دفتر مدرسيّ:

بسم الله الرحمن الرحيم(وسط الصفحة)والدي العزيز(بخط عريض وبقلم ماجك اخضر)بداية سطر، وبقلم رصاص : السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وعلى من يجلس معك الآن، من آل البيت والصحاب الكرام، سلام الله عليكم جميعا في هذه الساعة وفي كلّ ساعة. اسمح لي ان ابكي الآن لم أعد أستطيع. 

أحبكم أيها الساكنون في الشرفات العاليات، هناك، تحيط بكم أطواق الياسمين والزهور والفراشات الملونة لا احد مثلكم سادتي : تضحكون وفي نفوسكم الفرح. أراكم جيدا كأنما شاشة سينما كبيرة. لكننا. نحن. هنا. يا والدي لا نرى شيئا! كلّش والله، أصبحنا عميانا تقريبا؛ نسينا كلّ شيء يبعث على السرور في هذا العالم. والله العظيم لم يدخل السرور قلبي مذ رأيت والدي في ذلك المطبخ الطيني.. قالوا: سوف تشبعون سرورا وراحة هناك فاصبروا وصابروا. لكن حتى الصبر صار وحشا. والله. وأنا معكم. لم تفارق عيناي وجوهكم. لست ادري ما الهدؤ عندكم سادتي: لذا سأقول لكم : سلام من أهل الأرض لكم ورحمة وبركات. أحبائي الوحيدون. أود أن أخبركم أنتم، لا  غيركم، وأنتم خير العارفين بأحوالنا: أن لا سلام عندنا، ولا هدؤ، ولا أمان، ولا شيء يحيط بنا منذ زمن طويل؛ بالنسبة منذ ولدت عام 1961، كان الزعيم يخطب وأنا نزلت إلى الدنيا، يا أبناء شعبي الكريم!، يووووه! انا لم أر الزعيم. يقولون. وكلّ شيء مخيف، ومبهم، وغريب(بكى الجميع في يوم إعدام الزعيم عبد الكريم، وغاب أبي: يقولون وضعوه تحت الرولة، سحقوه سحقا، وامي جنت وماتت في المجيديه(*) وأنا لم أبك كنت صغيرة جدا ألعب بالطين وأعلك بعلك بستج) شيء لا معنى له ولم أفهمه أبدا؛ أنتم وحدكم بقيتم لي لتفهموني ما كان لنا، ولم نحن نكتال من بحر الأحزان الأسود دائما؟ هل كتب علينا ذلك؟ لكن: لماذا نحن يا أبي من دون الناس؟

لا احد لي غيركم. فهل ترون يا سادتي ما يُفعل بنا الآن؟  طبعا ترون.. هل ترين يا أماه يا فاطمة الزهراء - عليك سلام الله- ما يحلّ بنا؟ ترين ذلك جيدا، وربما تبكين من اجلنا، فأنت أولا وأخيرا أم.. أمنا جميعا، طبعا، مثل مريم العذراء، فافعلي شيئا – أنت وصاحبتك مريم وأنتما تجلسان في شرفة ظليلة واحدة- من اجل أطفالنا الرضع الذين يتطايرون في الهواء بسبب هذه المفخخات.. لست ادري لم القلوب قاسية هكذا على الأطفال هنا؟!

أما حبّك يا أبي العظيم - أنت وحدك- فشيء مختلف لا يوصف. والله العظيم. أبدا لا شيء مثله هنا في عالمنا الزفت هذا. بابا إمام علي، نور عيني أنت، لولاك لما استطعت الحياة ولولا كلماتك لي عن الصبر والجلد وتقبل القدر لما عشت ساعة. لا أحد لي غيرك الآن، وحق العباس أبو فاضل! لماذا يغادرني الجميع؛ جميع من أحببت وجميع من قلل وحشة اليتم عني: قسم ماتوا ميتة الله، وقسم قتلوا على السواتر او في الخنادق، أو في الشوارع، وقسم هاجر او هجّر ولم أعد أسمع عنه شيئا. أنا تعبت يا أبي. لماذا يحدث كلّ ذلك لي – لنا- يا أبي؟ ضاعت مني الأسئلة كلها؛ لم تعد مهمة أبدا. 

أعرف بابا أعرف!، آمنة!! تدرّعي بحب الله سورك وحصنك، واصبري من جديد. مو ليش بس آني بابا.. لييييش؟ أمونه بنيتي..؟ أأصبر حتى تخلص روحي.. مو خلصت روحي بابا ولم أعد استطيع الاحتمال. والله أنت تعرفني أكثر من نفسي؛ أنت تعرف ابنتك آمنة جيدا: مؤمنة صابرة علوية محتسبة، فأنت يا بابا العارف بكل نشأتي وشؤوني وظروفي مذ ولدت إلى يومي الأسود هذا؛ بالضبط منذ أن جئت يا والدي العزيز ووجدتني أبكي بحرقة في ذلك المطبخ المكون من غرفة طين صغيرة، كنت وحيدة وحزينة ويائسة، يومئذ أصبح النور في كلّ أركان المكان، نور أزرق عجيب لا يوجد مثله في الأرض أبدا؛ ظهرت لي كما هو أنت في الصورة الصغيرة المعلقة على جدار "الحوش" بكوفيتك الخضراء، وعينيك البراقتين، ولحيتك المعطرة بالمسك (لم أشمّ رائحة مثلها أبدا)  وسيفك الكبير ذو الفقار يآآآآآه لحظتها قلت لي: لا تبكي يا بنيتي لأن أباك ميت وأمك ميتة، أنا، أعتبريني، من هذه اللحظة؛ أباك وأمك، هل تقبلين يا آمنة؟ -إي بابا إي إي!- وأنا المسؤول عنك حتى تبلغين سن الرشد، وحتى بعد أن تتزوجي ويرزقك الله بابن الحلال، فأنا طبعا لن أتخلى عنك وسأبقى أبوك إلى الأبد. هل رأيت أبا تخلى عن ابنته بعد زواجها؟ فهل ترضين أن تكوني ابنتي دائما؟ إي إي إي. هسه أريني ضحكتك..أيباه!.. شنو هلأسنان اللؤلؤ الجميلة.. أسنان لبنية حلوة.. بعدين القيها لشمس الله ليمنحك أسنانا دائمية. أي بابا. عفيه بالشطوره. أضحكي الآن ولا تخبري أحدا بما رأيت تذكري إن أباك هو الإمام علي. حييييل! راح أطير من الفرح بابا. طيري طيري ولا تخافي. ما أجمل هذا الشعر وهذه العيون السود. عراقية أصيلة وردة. دعيني أقبلك على جبهتك الآن، اقتربي ولا تخافي..هاأها.. يا أجمل البنات في أرض السواد: ماذا أعني بأرض السواد؟ هوووو أنها أرض العراق يا حبيبتي وسميت هكذا لكثرة الخيرات فيها. لا تخشي شيئا يا آمنة مادمت أباك: الآباء يموتون وتلك سنة الله في خلقه يا بنيتي إلا إن أباك الذي هو أنا، حيّ من الشهداء، كما ترين، لا ترتعبي من رؤية الدم السائل من رأسي: هكذا هم الآباء الشهداء دائما. فأحسني السيرة وتعلمي الحكمة حتى تلتحقي بي. زين؟. زين بابا. وناديني بابا بابا! أحضر فورا، كما تنادي كلّ البنات آباءهن. زين؟ زين بابا زين. عفيه حبّابه. وحينما تحتاجين إلى شيء تعالي إلي، تعرفين مكاني مو؟ إي إي!. القبة الذهبية الكبيرة هناك. إي إي إي!. وبعد أن تتعلمي القراءة والكتابة بالمدرسة – ادرسي جيدا واحترمي معلماتك- يمكنك أن تكتبي لي الرسائل.. لا تكلف كتابة الرسائل كثيرا من الجهد مو؟ زين بابا إمام علي. جنبذه آمنة. هناك رسائل كثيرة تصلني من أناس أحبهم ويحبونني من الغربية ومن الشمال ومن الأكراد ومن الجنوب، عرب وغير عرب مسلمون وغير مسلمين وصابئة، وسود وبيض وصفر، من العالم كله، يشكون لي ظروفهم فارفعها إلى الله سبحانه وتعالى. كلّ أولئك يشتكون أليك؟ كلهم بلا استثناء فانا كما تعلمين أبا للجميع هنا: أناس فقراء ومعذبون ومطاردون في كلّ أنحاء الأرض. وعندما تكبرين ستعرفين الكثير عن العراق بلدك الأكثر مظلومية في هذه الدنيا، فاصبري صبرا جميلا وتذكري أنك لست ابنة رجل عادي: أنت يا آمنة ابنة أمير المؤمنين!، هل تفهمين؟ مفهوم بابا مفهوم. وأحبي العراق لأني أحببته قبلك، وجسدي راقد فيه منذ أكثر من ألف عام. حييييل! أكثر من ألف عام!

والدي الكريم: إنه أول طلب لي منذ زمن طويل. تعلمت القراءة والكتابة كما أمرت ولا طلبته منك، وقلت يومها: أريده منك، وحدك، أن يكون لي زوجا، فوافقت؛ يمآآآآآآآ كم هو قلبك كبير يا بابا. وكم هي منزلتك عند الله كبيرة: حقيقة لا أستطيع أن أخبر أحدا بعلاقتي بك. صعب بابا صعب. وعندما اكتب إليك رسائلي أخفيها عن أعين البشر كلهم. فما أن ندبتك برسالة حتى أصبح كلّ شيء ممكنا.. وحلت كل المشاكل بعد أن تدخلت أنت.. كم هو رائع أن يكون لبنت يتيمة مثل هذا الأب الرؤوف؟ 

رسالة كتبت بتاريخ 16/12/ 1986 بقلم جاف أسود على ورق صقيل:

يا ربي ساعدني لكي القي بهذه الرسالة ولا يشاهدني احد. يقولون ممنوع كتابة الرسائل للإمام علي عليه السلام. والعيون هنا ثاقبة نارية تلتقط  كل شيء. من يصدق إني اكتب رسالة لوالدي. توكلت على الله.

بسم الله الذي لا إله إلا هو. الحمد لله. قالوا: مفقود. زوجي الذي حدّثتك عنه يا والدي. الفقير الصائم المصلي؛ الجندي الاحتياط. جميع الناس يحبونه لأنه صاحب واجب وصاحب معروف وصادق. لم يكذب يوما. أنت تدري، قالوا: لا أثر له. تبخر يا والدي تبخر! وترك لي أربعة أطفال: نويره وكريم وبسيمة وعلي الصغير. نذرت نفسي لأجلهم. طبعا. ألم تعلمني الإخلاص والصبر؟ وهاأنذا صابرة. فالرجل الذي اخترته مفقود وربما سيعود هكذا يقولون.. لكن قلبي يحدثني: أنه لن يعود أبدا. الطيبون يغادرون بسرعة بابا. لماذا؟ لست أدري. ماذا يبقى من رجل تحت القصف سنوات وسنوات: جرح أربع مرات ولازال في الجبهة عبالك ماكو غيره.. يقولون: هذه الحرب لن تنتهي وستأكل الأخضر واليابس. طركاعه بابا طركاعه. المهم: هؤلاء الصغار سأسهر كي يكونوا أحسن الناس. حبي لك والدنا العزيز أكتب لك حبيبي لكي أفرج عما في صدري وأتمكن من الحياة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

رسالة غير مؤرخة على شكل وريقات صغيرة ملفوفة:

والدي الكريم: أيها الساكن في روحي دائما. أصبح شعري نهارا كما ترى. والدنيا حصار أسود والناس باعت أغراضها من اجل الطحين. لم أعد تلك البنت الصغيرة التي رأتك في المطبخ فقد لعبت بي الحروب والحصارات لعب! وأنا أبكي أكثر من أي وقت مضى. بابا. تعلمت الصبر منك ولولاك لقتلت نفسي لا احد يتحمل ما تحملته ابنتك آمنة. لكن صبري الآن يكاد ينفد: بابا لم أعد استطيع التحمل أكثر من ذلك بابا. ما مرّ بي شيء يفوق التصور وأنت من تطلع علينا من شباكك المورد كلّ لحظة ترانا ونراك.. كنت أظن أني سأنجز شيئا في حياتي بهؤلاء الأطفال الأربعة، اوووووووو!، لكني أفقد كلّ شيء في أرض السواد باباتي. ليييييش؟

وهذا الشيطان أخو زوجي لا زال يراودني.. ثم تعالي لتتزوجيني. كيف أتزوجه وهو يكتب التقارير على الناس البريئة؟ لا يدري الملعون أنا ابنة من.. وماذا بقي في جسدي: ضلوع ناتئة ووجه ذابل وعينان غائرتان. هل أقتله؟ الوسخ كان مجرد هارب من الخدمة.. ودفع مليون دينار وأعفي من الخدمة العسكرية. من أين آتي لزوجي بمليون دينار لكي يعيش؟ ليييييييييييييييييش بابا لييييييييييييييش والآن: بيوت وسيارات وجاه.. منين؟؟ بابا الدنيا صارت عوجه جدا. أشكو لك ما حدث لأولادي وبناتي:

نويره: تزوجت وهاجرت إلى سوريا ومن هناك ذهبت إلى .. وين بالله.. السويد.. إي ثم انقطعت أخبارها، قالت: هذه بلاد ملعونة ودعيها لك. مشكلة بابا مشكلة. لو كتبت لي ولو ورقة.. بس. وين انتهى بها الدهر أريد أن أعرف.. والله ليس على مود الورق.. لعنة الله على ورق الأمريكان.     

كريم: يشتغل بالسوق، حمال عنده عربانه دفع إيجارها خمسة آلاف دينار باليوم، بالشورجه، كان الولد فيئا لي: قتل في مفخخة بساحة الطيران. شاغت روحي بابا، وشققت زيقي عليه وركضت كالمجنونة بين الناس، وكدت أن القي بنفسي في دجلة لولا إني تذكرت في  اللحظة الأخيرة إني ابنتك..

بسيمه: اختفت: ناس تقول تشتغل راقصة – عفوا!- بعمان، وناس يقولون بفندق       كبير في الإمارات، وناس تقول لا هذا ولا ذاك: قتلت وألقيت جثتها في الزبال..مجهولة الهوية.. ما خليت مكان لم أسأل عنها.. فص ملح  وذاب.

بقى علاوي الصغير: هذا: هو بنظرك: أخذه الاميركان بتهمة باطلة: كتبوا عنه تقرير وسجن في أبي غريب، ثم خرج لي بنصف عقل.. كلامه شيطي بيطي.. هذا ما خرجت به يا أبي من أرض السواد. ساعدني.

              

(*) المجيديه: مستشفى أمراض عقلية قديم ببغداد.