نحن لا نكره أمريكا!"2"
نحن لا نكره أمريكا!
"2"
بقلم الأخت نوال السباعي
ورثت شعوبنا كراهيتها لسياسات الولايات المتحدة ضمن ماورثته خلال حقبة التحرر والكفاح العالمي ضد الهيمنة الرأسمالية على دول العالم الثالث خلال الستينات , ناهضت جماهيرنا حرب فيتنام التي شنتها الإدارة الأمريكية منتصف القرن العشرين , ولكنه كان جلياً احترام هذه الجماهير ودعمها "محمدا علي كلاي" المواطن الأمريكي الذي فضّل أن يدخل السجن على أن يذهب إلى حرب ظالمة غير عادلة , ورثت الجماهير في المنطقة العربية رفضها لسياسات الولايات المتحدة مع ماورثت من سوء ظن في الاستعمار وحقد على مؤامراته على المنطقة , ورغبة في التحرر بعد أن انتقلت قيادة الحركة الاستعمارية العالمية من بريطانيا العظمى الى ابنتها الشرعية الولايات المتحدة .
إنها كراهية تاريخية ليست على علاقة بهوية الولايات المتحدة الثقافية أو الحضارية أو الدينية بقدر ماهي مرتبطة مباشرة باسم "الاستعمار " في العالم , والذي ينبغي أن يتم تصحيحه في أروقة الأمم المتحدة ليسمى "بالتدمير " والاستدمار , وهو شيء يعرفه التاريخ وتشهد له الجغرافيا , ويؤكده علم الاجتماع , لم يدخل "الاستدمار" قرية ولابلدا إلا ودمرها وجعل عاليها سافلها وحاول أن يكسر رُكب وسيقان أهلها بحيث لايستطيعون من بعده الوقوف على أقدامهم , إنها كراهية تتعلق بطبيعة العلاقة بين المستعمر وولاته الذين يسلمهم مقاليد الأمور في البلاد التي يدمرها ليحافظوا له على شلل الركب والسيقان , وليكرس لهم تلك الحال بين المواطنين فلاهو يسمح لأحد بالوقوف على قدميه ولاهو يعطي تصريحا بصناعة أرجل اصطناعية تعين الناس على المشي , ولاهو يمكنهم من استيراد كرسي عجلات يستطيعون من خلاله بلوغ مقاصدهم .
مهمة الحاكم بأمر المستعمر كانت دائما في تاريخ البشرية القضاء على كل أمل لدى الشعوب المستعمرة بالوقوف على قدميها لتستشرف رؤية الشمس وهي تشرق , والابقاء عليها كسيحة مكسورة جريحة تزحف في مستنقعات الانبطاح والاستسلام لأقدارها.
* * *
لكن السؤال الذي يفرض نفسه : إذا كانت هذه الشعوب تكره الولايات المتحدة فلماذا تنزح زهرة شبابها بالمئات والآلاف لطلب العلم والمعرفة والحياة في الولايات المتحدة؟! الشئ الذي تغير بالطبع بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر ؟!.
كيف يمكننا القول بأن شعوب المنطقة تكره الولايات المتحدة إذا كنا نأكل على الطريقة الأمريكية , ونحتفل بالحب المحرومين منه كعرب وفقط يوم القديس " بالانتين " على الطريقة الأمريكية , ونلبس الكاوبوي مثل الأمريكان ونتحدث الانجليزية باللهجة الأمريكية في أسواقنا وشوارعنا ومحافلنا , ويسمع شبابنا الأغاني الأمريكية حتى دون أن يفقهوا أحيانا كلمة منها , إذا كنا نتهافت على الأفلام الأمريكية ونعرف عن ممثلي أمريكا في هوليودها أكثر مما نعرف عن مؤسسة الصناعة المصرية المتعفنة المتآكلة , والتي ثبت وللعار أن 70% من أفلامها لم تكن إلا نسخاً رخيصة جداً ورديئة جداً عن أفلام أمريكية شهيرة في قديمها وحديثها , بل وحتى المسلسلات الفكاهية التي بدأت بغزو القنوات التلفازية العربية ليست إلا نوعا من أنواع محاولات تقليد غبي مغرق في الحماقة للمسلسلات الأمريكية الفكاهية التربوية , التي لم يفهم منها العرب إلا الضحك الأبله نتيجة عمليات الترجمة بالغة الرداءة, وعمليات الاستنساخ المشبوه التي لم يكلف مقترفيها أنفسهم مجرد عناء قراءة نصوصها الأصلية الأدبية والفكرية التي اشتقت عنها مثل هذه الأعمال الفنية التربوية التوجيهية المذهلة في جودتها كما المذهل استنساخها الردئ عربياً !.
من هذا الذي يدّعي أنه يكره أمريكا وأسماء بناتنا في بعض العواصم العربية صارت تنحت من أسماء الأمريكيات الشهيرات , ولانقصد هنا "مادالين أولبرايت" ولا"كونداليسا رايث " ...ولكن "سلمى الحايك " , و "نيكول كيدمان" .. ولارا , وتمارا!.
كيف تتهم هذه الشعوب بكراهية أمريكا , والحلم الأمريكي جزء من وجودها وحياتها وتطلعاتها , والكعبة الأمريكية هي الوجهة الاجبارية لكل شاب يتطلع الى مستقبل علمي أو اقتصادي ايجابي في حياته.
النازحون نحو الولايات المتحدة لاتتجاوز نسبة الهاربين منهم من أوضاعنا السياسية الخمسة في المائة وقد تبلغ نسبة المهاجرين لأسباب اقتصادية الثلاثين بالمائة أما البقية فإنهم يمموا شطر العالم الجديد لأنهم يريدون تطوير قدراتهم العلمية والفكرية أو أنهم يريدون الخلاص من الوضع الاجتماعي المأزوم في بلادنا طلبا للحرية الانسانية والفردية التي يمنحها المجتمع الأمريكي للمواطن والمقيم كي ينمو ويطور من قدراته وإمكانياته ومواهبه .
الولايات المتحدة ليست مجرد دولة من هذه الدول المتقدمة التي شهد القرن العشرين ولادتها أو نهضتها المدنية الصناعية المذهلة وحسب , الولايات المتحدة تمثل الذروة التي وصل إليها المجتمع البشري كله في سعيه نحو بناء مدنية صناعية تقنية هي القمة في كل ماحققه الانسان من تقدم علمي واجتماعي واقتصادي في القرن العشرين , لم تكن مدنية وتقدم الولايات المتحدة منتجاً إنسانياً أمريكياً باستثناء , بل كان تقدماً وتحصيلاً صنعه البشر جميعاً بكل أجناسهم وأعراقهم وانتماآتهم الدينية والقومية والوطنية , الصيني والهندي والعربي والروسي , النصراني والبوذي واليهودي والمسلم , الاوربي والآسيوي والافريقي , كل بني البشر كانوا هناك في الولايات المتحدة يعملون في أجواء الحرية والكرامة الانسانية والمساواة حتى استطاعوا أن يبلغوا بهذه المدنية عنان السماء , ولذلك فإن الذين دكّوا برجي نيوورك يوم الحادي عشر من سبتمبر لم يفعلوا مافعلوه إلا وهم يعلمون تماما أنهم إنما يضربون رمز هذا الصرح البشري العظيم .
من هنا استنبط كثير من المراقبين أن هجمات نيويورك لم ينفذها أفراد وإنما مؤسسات دولية تقف وراءها قوى عالمية جديدة تريد أن تغير النظام العالمي بضربة قاصمة ...وقد فعلت!!.
* * *
اتهام شعوب المنطقة العربية بكراهية الولايات المتحدة اتهام فيه افتراء وظلم كبير , فلايوجد مواطن فيها إلا ويتمنى أن يهاجر إلى الولايات المتحدة وأن يتزوج من امرأة أمريكية تريحه مما يعتقد أنه "غباء المرأة العربية " !! , معظم شباب العرب يحلمون بالعيش في الولايات المتحدة وأن يتعلم كل منهم هذه الطريقة في الحياة الحرة الكريمة التي تزينها لنا معظم أفلام هوليود عن الولايات المتحدة .
كلنا نجلس مشدوهين أمام هذه الدعاية الضخمة التي تغزو أفكارنا وقلوبنا عن طريقة في الحياة لاتكاد تختلف كثيرا عن بعض أوجه طريقة حياة وتفكير كثير من الناس في صدر الاسلام !!, هذا العنفوان الشعوري بالكرامة الانسانية , هذا التحرر من قيد العادات والتقاليد وأثقال المجتمع وأعراف القبائل , هذه الحرية التي يتمتع بها الانسان بالطول والعرض والارتفاع , هذه القدرة على التفكير والتعبير الحرّ الكريم والارتقاء والنمو وصقل المواهب , وتحويل الارادة الى عمل .
الانسان في ظل المدنية الأمريكية كما يروي الذين عاشوا ويعيشون في الولايات المتحدة , وكما تعكسه الصحافة والاعلام الأمريكيين , وكما يظهر في هوليود - باعتبار الفن إحدى مرايا كل مجتمع ينتجه - الانسان يبدو حراً كريماً مستقلا ً , يختار حياته , يصنع طريقه , قادر على اتخاذ القرار بنفسه لنفسه , يبكي عندما يريد أن يبكي لأنه يريد أن يبكي , ويحبّ عندما يحبّ لأن قلبه خفق لهذا الحب , عظيم بإنسانيته حقير بإنسانيته , كبير بحريته ساقط بحريته , هذه الصورة عن هذا الانسان هي التي جعلت العالم يسقط على ركبتيه أمام الولايات المتحدة الأمريكية , لقد غزت الولايات المتحدة الأمريكية قلوب شعوب العالم بصورة هذا الانسان والدعاية له قبل أن ترتكب الحماقات التاريخية البالغة فتغزو بلاد هذا العالم بدباباتها وأباتشياتها وبحارتها الأشداء المتوحشين !.
صعب على المواطن الذي يعيش في المنطقة العربية كما في غيرها من المناطق التي تعاني من الهزيمة النفسية والثقافية في عالم التلفزيون والسينما أن لاينبهر بهذه الدعاية , صعب عليه أن لاتستعبده هذه الصورة المذهلة عن المواطن والمقيم في أمريكا واللذين يستطيعان سباب الرئيس والضحك منه والسخرية من أفعاله وانتقاده وتفنيد سياسته وكل شاردة وواردة في حياته الشخصية دون أن يتعرض إليهما أحد ..صعب على المواطن العربي المقهور أن يكره هذه الصورة الدعائية المشرقة عن عالم الناس الذين ولدتهم أمهاتهم أحرارا , عن عالم البشر السواسية كأسنان المشط , عن عالم كل مافيه جميل وخيّر ونافع ومثير ومسلٍ وحرّ !!.
هذه هي الكلمة السحرية بالنسبة للمواطن العربي "الحرية " التي ينام وينهض وهو يحلم بها , حرية الرجل وحرية المرأة وحرية الانسان وحرية المواطن والأوطان , حتى لو كانت أفلاما سينمائية دعائية لمؤسسة يهودية يعرف كل العرب هويتها وولاءها .
لايمكن للعرب أن يكرهوا الولايات المتحدة الأمريكية , ولكنهم مصابون بانفصام حاد في الشخصية فهم لايعرفون ماذا يفعلون ولاكيف يفكرون ولامن يحبون ولامن يكرهون , إنهم يحبون "ماما أمريكا" ولكنهم يكرهون "بابا رئيسها " , يحبون الرمز الأمريكي ويكرهون المتسلط الأمريكي , يحبون الثقافة والدعاية وطريقة الحياة التي تمثل آخر ماتمخض عنه العقل البشري اليوم من خلاصة تجارب البشر في توفير فرص أفضل لحياة أكرم للانسان , ولكنهم يكرهون هذا الذي تمخضت عنه شهوة سلطان القوة في خلاصة حماقات البشر في استعمال هذه القوة لاستعباد الآخرين , وإعادة نفس الأخطاء التاريخية التي وقع فيها كل من استهوته القوة حتى اتخذها إلهاً فأعمته وأصمته حتى عن مجرد قراءة تاريخ الذين سلكوا ذات الطريق من قبله!.
كراهية العرب لأمريكا ليست كراهية جنس بشري يعيش في تلك الارض , ولاطريقة حياة أولئك الناس الذين يشكلون أصلا مجموعة كاملة من كل أنواع البشر الذين يعيشون على هذه الارض في هذه الحقبة من التاريخ , ولارفض لقيم الديمقراطية الأمريكية والغربية وطريقة تصورهما للحياة كما يدعي الرئيس الأمريكي "بوش الابن " وأتباعه من الاوربين راكبي الموجات - من أمثال رئيس الحكومة الاسبانية المطرود من الحكم والذي كان قد جرّ على اسبانية الويلات في زجه هذا البلد في حرب العراق - , مدّعين أن أعداء أمريكا إنما يعملون لدكّ صرح حضارة الغرب وقيمه الثقافية والدينية , وهذا من أعظم أنواع الافتراآت الحمقاء على التاريخ وعلى الانسان .
الناس _ في المنطقة العربية وخارج المنطقة العربية _ لايكرهون الولايات المتحدة الأمريكة ولكنهم يكرهون تصرفات زعمائها المنافقين الكذبة , الذين تبهر ثقافة بلادهم أحاسيس البشرية عن طريق انتاجاتها الهوليودية الضخمة التي تستند إلى أدب عظيم وعلوم مذهلة وفن راق متطور , بينما تنكمش سلوكياتهم الحقيقية لتترجم أفعالا وضيعة خسيسة حيوانية ساقطة , شهد العالم بأسره بعضاً منها في سجن "أبو غريب " , وفي معتقل "غوانتانامو" ! كما كان يشهد يومياً ماتقوم به إسرائيل محمية الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة العربية من قتل وذبح وسحل للفلسطينيين بمباركة ومساعدة ودعم الولايات المتحدة , من هذا الذي يمكنه أن يفهم كيف يمكن لدولة أن تقصف بالصواريخ رجلا في السبعين من عمره قعيد كرسي عجلات ؟! ومهما طبلت وزمرت أجهزة الاعلام الغربية بنعته بأنه "شيخ الارهاب" في العالم ؟ من هذا الذي يمكنه أن يفهم كيف تمّ اعدام محمد الدرة أمام مرأى ومسمع من هذا العالم ؟! من هذا الذي يستطيع أن يفهم لماذا تقتحم قطعان المستوطنين اليهود كل حين باحة المسجد الأقصى بمثل الوحشية والصلف الذي تفعله والولايات المتحدة أبدا صامتة داعمة واقفة الى جانب إسرائيلها؟.
عندما تسكت حكومات الولايات المتحدة الأمريكية على " كل ماتفعله "اسرائيل " بالفلسطينيين , عندما يشوه الإعلام الأمريكي الحقائق ويسمي الأشياء بغير أسمائها فيجعل المظلوم ظالما والحق باطلا , وعندما تواصل هذه الحكومات المتعاقبة على البيت الأبيض دعمها للكيان اليهودي دون قيد أو شرط , وينحني رئيسها "بوش الابن " ليقدم لضيفه السفاح "مجرم الحرب شارون" التشوكولا المغلفة بالعلم الاسرائيلي , فهو يقدم مع ذلك ولاءه ورضاه بكل ماتفعله هذه الدولة الصنيعة بالشعب الفلسطيني الأعزل , الذي لم يكفيه مايعانيه , حتى خرجت الولايات المتحدة ومعها "اسرائيل" على العالم بالصرعة السياسية الجديدة مطلع القرن الواحد والعشرين , خلطة إعلامية متفجرة تضع وتصنف الكفاح الفلسطيني بأنه من فئة الارهاب العالمي .. حيث يصبح النضال ضدّ المستعمر في فلسطين والعراق نوعا من الاجرام العالمي المنظم المنضوي تحت عنوان الارهاب !..يُجَرَم ليس كل من يقوم به فحسب , بل كل من يعتقده حقا مشروعا لكل شعب أبيّ مستعمر مقهور مظلوم معتدى عليه في هذا العالم..عالم الولايات المتحدة في القرن الواحد والعشرين ..عالم الغاب!.
هذا فيض من غيض الممارسات الأمريكية الغير هوليودية , مما يفر ّ أو لايفرّ من قبضة الآلة الاعلامية الأمريكية الجبارة القادرة على وضع المساحيق السحرية حتى على أقبح وجه شيطاني عرفته البشرية في تاريخها , وهو وجه عفريتة الحرب الغولية الشمطاء لتجعله وجها أقل قبحاً عن طريق وصف عمليات القتل والابادة والقصف والانتقام للكرامة الأمريكية الجريحة في الحادي عشر من سبتمبر بإلقاء أمهات وآباء القنابل التي تزن آلاف الكيلوغرامات فوق رؤوس الأبرياء , تصفها بأنها مجرد عمليات جراحية مختارة ! , ولم لا؟ إنها السياسة الاسرائيلية –الأمريكية بامتياز , سياسة العقوبات الجماعية وضرب الأبرياء بوحشية بالغة لردع كل من تسول له نفسه أن يثور أو يقاوم أو يرفض .
كل هذا فضلا عما تكشفه آلة الدعاية الأمريكية نفسها - "هوليود"- بين الحين والحين عن تردٍ أخلاقي مذهل يسود بين صفوف المجندين الامريكان في ثكناتهم ووحداتهم العسكرية , صورً يندى لها جبين الانسانية عن تعاملهم مع بعضهم البعض , وعن تعاملهم مع الآخرين , مما ينذر العالم بزحف طاعون من نوع جديد سوف يبتلع الأخضر واليابس , طاعون غير غريب يعيد رسم معالم المنطقة بنفس المنطق ونفس الأسلوب الذي حاولت فيه من قبل القوات العسكرية الفرنسية والايطالية والانكليزية فرض تصوراتها على أرض هذه الأمة فشنقت "عمر المختار" , وسحلت جثث الثوار الأحرار الأبطال الذين دافعوا عن أرضهم وديارهم وأعراضهم , ذهبت ايطاليا ورحلت عن ليبيا , جرجرت فرنسة أذيال خيبتها بعد 130 عاما وأيقنت بأن شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتمي على الأقل في اللغة التي يرتل بها كتابه المقدس , ورحلت الامبراطورية العجوز عن بلادنا , وبقي "عمر المختار " وكل "عمر مختار" حياً في ضمير الأمة ,
ليت الولايات المتحدة تحسن قراءة التاريخ وتتعلم قراءته بالعربية؟!.
لايمكن أن نَفصل في حديثنا عن الولايات المتحدة بين السياسة والإعلام , وبين الأخلاق والممارسات , وبين البيت الأبيض وهوليود , إن الولايات المتحدة هي كلّ هذا النسيج الذي لايمكن لانسان عربي أو غير عربي ولامسلم ولاغير مسلم أن يكرهه بمجمله ولاأن يحبه بمجمله , الولايات المتحدة اليوم هي الوجه الحقيقي لهذه الانسانية التي تعيش اليوم على هذا الكوكب الذي ملئ ظلماً ولابد لدولة كالولايات المتحدة أن تكون على رأس هرمه السياسي لأنها دولة قامت أصلا على الظلم – تجاه سكان أمريكا الشمالية الأصليين - ولكنها وعلى الرغم من هذا الظلم استطاعت أن توفر للانسان الكثير من مظاهر المدنية والانسانية نفسها وبهذا سادت العالم وتمكنت من قيادته.
النفاق والدجل والظلم والكذب المدروسب بدقة ودأب في مجال السياسة والاعلام , هو مايكرهه هذا العالم , وهو مايكرهه ويرفضه العالم العربي والاسلامي وكل إنسان حر نزيه على وجه هذه الارض ولو لم يكن عربيا ولامسلما.
هذا هو مايكرهه المواطن في المنطقة العربية , كما يكرهه كل مواطن حر وإنسان شريف في هذا العالم , الكذب والنفاق والتعامل مع الآخرين وكأنهم متخلفون عقلياً , وكأن البشر يصدقون بمجموعهم ودائما كل الطبخات الاعلامية دون استفسار ولافهمٍ ولااعتراض , وهنا يصدق في السياسة مايصدق في الحياة , وهو أن الشعوب قد تفاجيء جلاديها كما المستهينيين بها بما لايمكنهم تخيله ولاانتظاره , لأن الشعوب كالأفراد لاتحتمل كثيرا ولاطويلا الانتقاص منها وإهانتها.
لاأحد يمكنه أن يقدر أبعاد ردود فعل أمة على الاهانة , وكان على الولايات المتحدة وحلفائها أن يفهموا أن احتمال الأمم له حدود , حتى لو طال صمت أغلبية أبنائها واستكانتهم , حتى لو انبطح كل حكامها تحت أقدام الغزاة , ولكن لايمكن للأمم أن تستكين طويلا ولاأن تسكت إلى الأبد , المخيف أن اجتماع الضغط الخارجي والقمع الداخلي يؤدي ودائما إلى انفجارات لاتحمد عقباها , شدة الضغط تؤدي الى شدة الانفجار , شدة الضغط مع سدّ المنافذ كلها تؤدي لانفجار القدر بما فيها ومن فيها , سنن فيزيائية دقيقة لايمكن تجاهلها في التعاون مع الأمم والشعوب والتاريخ.
التاريخ يشهد والبشر شاهدون على أن الاهانة تنقلب مع الزمن لتصبح سلاحاً للتدمير الشامل , على مستوى الأفراد والأسر والشعوب والأمم والعالم , والذين يُستضعفون في أرض كان حقاً أن يُنصروا في ذات الارض التي استضعفوا فيها ويرثونها من بعد الذين ظلموا وأطالوا فيها الفساد.
إهانة الأمم كانت نقطة الغباء في السياسة الأمريكية التي اتّبعت خطى حَمقى دولة يهود , الذين بالغوا في إهانة الفلسطينيين والانتقاص منهم حتى انقلب السحر عليهم فأصبحوا هم المحاصرين من قبل الفلسطينيين العزل , المهددون بالقنبلة الديموغرافية , لا فرات عندهم ولانيل إنما يسرقون مياه شرب الفلسطينيين لملئ أحواض سباحتهم على مرأى ومسمع من المحرومين , بعد أن عجزوا عن الاستمرار في الولوغ في دماء الفلسطينيين بعد صبرا وشاتيلا , وإسرائيل ..هي إسرائيل صاحبة الجيش الذي لايهزم .. وهزمه باذن الله حجر بيد أولاد الشوارع الحزينة المرصوفة بالقهر وخطوات الكادحين , وهزمته صورة إعدام طفل يحاول الاحتماء بظهر أبيه , وهزمه كرسي عجلات تفجر بصاروخ أطلقته أباتشية أمريكية ذات فجر فلسطيني !.
لم تتعلم الولايات المتحدة دهاء البريطانيين في استيعاب أعدائهم ودغدغة عواطفهم وابتلاع ثرواتهم ووجودهم في أناقة لاتليق إلا بكبار مجرميها من السياسيين المعروفين تاريخياً , كما لم تتعلم الدروس الثقافية السياسية الفرنسية التي تنازلت فيها امبراطورية نابليون الى درجة تبادل المواقع مع كثير من أعدائها الألداء وإلى درجة لم نعد نعرف فيها من الذي يغزو مَن ؟ هل فرنسا هي التي غزت الجزائر والمغرب أم أن المغرب والجزائر هما اللتان تغزوان أمام سمع العالم وبصره فرنسا اليوم ؟!. لم تتعلم الولايات المتحدة هذه الدروس البليغة في السياسة والثقافة والتاريخ , ولم تتعلم من الدرس الذي لقنه لها التاريخ في فيتنام , لكنها آثرت أن تجلس قبالة هذه الأمة بكل صلف وعجرفة وتمدّ قدميها في وجهها لتكيل لبعض أجرائها فيها الإهانات , لم تفهم أن تلك الاهانات ولو لم تؤثر فيمن سمعها إلا أنها كانت قد وصلت سمع وضمير الأمة كلها , ولايمكن لأمة في الأرض مجتمعة أن تقبل بكل هذا الحجم من الذل وهذه الاهانات.
نحن لانكره الولايات المتحدة الأمريكية في واقع الأمر , ولكننا نكره سياساتها في العالم كما سياساتها في منطقتنا , نكره كذب سياسييها وادعاآتهم المفضوحة , نكره نفاقهم وأقنعتهم المزيفة , نكره حمايتها ودعمها لاسرائيل التي تعيث في أرضنا المقدسة فسادا كأخطبوط يضرب في أحشاء طفل عزيز على أمه وأبيه , نكره صلفها وتكبرها ومعاملة الآخرين معاملة السادة للعبيد , نكره سكوتها عن جلادينا ماداموا يحمون مصالحها في أرضنا , نكره حمايتها للمستبدين في أرضنا حسب مزاجها ومصالحها لاحسب لوائح حقوق الانسان وهيئة الأمم المتحدة , نكره نفاقها وتلونها وتعدد ألسنتها وووجوهها وذلك المكيال الخاسر الذي تكيل فيه بألف معيار ومعيار وفق مصالحها وأهدافها .
نحن لانكره الولايات المتحدة كبلد ولاكشعب ولاكحضارة ولاكثقافة ولاكفن ولاعلم ولاتقنية , بل انها وجهة العالم وقبلة كل متطلع الى غد أفضل , ولكننا نكره كل ماتمثله الولايات المتحدة اليوم في عالم السياسة القذر , وعالم العسكر المتخلف , وعالم الفكر الصليبي الصهيوني الحاقد الذي يظن أن بإمكانه خداع البشرية بالتزييف والكذب والتمويه , أعمته شهوة السلطة وسلطة المال والقوة العسكرية فلم يدرك أن الانسان لايغلب ولايقهر , وأن الحق قط لم يصبح باطلا بقوة السلاح , وأن الباطل أبدا لن يصبح حقا بسطوة القوة.