مباراة رياضية ..

وخيبات حضارية !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

عندما كان النيل بطعم الجوافة ، وكان الطمي ينتج أعذب الخضروات والبقول والمحاصيل والثمار ، كانت وسيلة المواصلات الرئيسية وربما الوحيدة هي المراكب أو القوارب الشراعية ، وكنا قبل خمسين عاما تقريبا ، نسعد حين يسبق القارب الذي نستقله القارب الآخر الذي يبدو أقل استعدادا  وإمكانات فشراعه صغير وجسمه ثقيل ، وقائده محدود الخبرة والتجربة ..

تذكرت ذلك بعد نصف قرن من الزمان بسبب المباراة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها بين مصر والجزائر ، فحسبت أن القيامة قد قامت، وانطبقت السماء على الأرض ، وأن يوم الحساب قد أزف .. ولا غالب إلا الله!

الفوز والسبق طبيعة بشرية ، يسعد الفائز أو السابق بفوزه أو سبقه ، ويغضب الخاسر أو المتأخر ، ولذا يقتل بعض الناس أنفسهم بحثا عن الشهرة بأي ثمن ، بوصفها نوعا من السبق أو الفوز على الآخرين ، وكثيرا ما يسعى بعضهم إلى الفوز السطحي أو الهامشي أو الدعائي ، لإشباع رغبته أو غريزته في السبق والتميز ، ولكنه في النهاية لا يحصد إلا الحصرم المسموم ، لأن الدعاية لا تحقق لصاحبها كسبا حقيقيا ملم يكن الكسب قائما على  تميز أساسي أو جهد عميق يحسب لصاحبه على مر الأيام والأزمان .

تذكرت النيل بطعم الجوافة بعد انحسار الفيضان كل عام ، حيث كنا ونحن أطفال نسعى إلى أشجار الجوافة على حافة النهر لنشتري منها بالقروش القليلة بعض الثمرات ، فكان طعمها يومئذ من ألذ ما ذاق الأطفال ، وكنا نسعد بالقوارب في تنافسها البريء الذي يثير من الضحك أو الفرح الحقيقي ما نفتقده في هذا الزمان .. تذكرت ذلك والقوم يشحنون شعوب الأمة كلها حتى العرب في المهاجر ، من أجل مباراة كرة قدم بين الجزائر ومصر للصعود إلى كأس العالم واللعب ضمن الفرق المتنافسة والحصول عليه . وصل الشحن إلى درجات من العار والأسى ، حتى قالت بعض الوكالات الأجنبية إنه لقاء الكراهية ! وماهو بذلك .. ونقلت الصحف أخبارا عن خلافات نشبت بين أزواج مصريين وزوجاتهم الجزائريات أو أزواج جزائريين وزوجاتهم المصريات ، وتمزق الأطفال بين الطرفين .. وتدخلت قيادات على المستوى السياسي والشعبي لتهدئة الأمور.. وأعلنت دولة الغزو النازي اليهودي شماتتها السافرة في الشقاق الذي تعمق بين الشقيقين العربيين الكبيرين .. وعاث المرتزقة فسادا في القنوات الفضائية والصحف التي تحولت إلى صفراء فاقع لونها لا تسر الناظرين .. وصار الباحثون عن سبوبة يجدون في المباراة الغريبة مجالا خصبا للحصول على المزيد من الأموال المنهوبة والنقود الحرام ،وهبطت لغتهم وأسفت وتدنت إلى درجة غير مسبوقة .. وكل ذلك من أجل صراع على العهن المنفوش والعصف المأكول !

السعيد في هذه المأساة العجيبة كان الحكومات والأنظمة العربية على امتداد العالم العربي من المحيط إلى الخليج ، كانت الشعوب البائسة مشغولة بالمباراة من يفوز ومن يخسر ، وما يتعلق بالخسارة والفوز ، وخاصة أن الناس عاشوا مرحلة من اللهو غير مسبوقة في التاريخ نسوا فيها خيباتهم الحضارية الثقيلة في الحريات والعمل والفكر والثقافة والتعليم والصناعة والزراعة والإدارة وحقوق الإنسان ,, .. و .. , و... نسوا كل ذلك وانشغلوا بالمباراة ، بينما الحكومات والأنظمة – حماها الله – تضحك في كمها وتزغرد ؛ لنجاح خططها في إلهاء الناس وإشغالهم بتوافه الأمور ، فلا هي الرياضة التي علمت الناس الأخلاق الرياضية ، ولا هي الرياضة التي أفادت الشباب وحسنت قدراتهم الجسمية والعقلية .. إنها التعصب والصراخ والهتاف المجنون في سباق غير مفهوم ولا طائل من ورائه إلا تبذير أموال الشعوب البائسة لحساب عصابات بلا ضمير ولا أخلاق ولا قيم ، وإبقاء الناس في حالات التخلف المزري وشرب المياه الملوثة وانتشار البطالة والأمراض الفتاكة والجهل الأعمى .. ومع كثرة القنوات الفضائية والصحف الورقية والضوئية ، رأينا محللين استراتيجيين يخططون للمعركة الفاصلة ، ويقررون النتائج المحتملة ، وماذا سيفعل الخصوم في حالتي الفوز والخسارة ، ورافق ذلك إذاعة أغاني وأناشيد معركة حرب رمضان والعبور إلى سيناء  ، وكأن المباراة قتال بين جيشين لدودين يستعد كل منهما لتمزيق الآخر وتدميره والقضاء على قواته وإسكاته إلى الأبد ، بينما العدو الحقيقي رابض في فلسطين يهين الأمة كلها ويركلها ، ويضربها على قفاها في الصباح والمساء ، ويجاهر بنيته في تدمير المسجد الأقصى ، أو تقسيمه بين المسلمين واليهود في أفضل الأحوال ، والعرب والمسلمون لا يستطيعون أن يجيشوا المشاعر والحناجر من أجل الأقصى أو فلسطين أو كرامتهم مثلما جيشوها لحرب المباراة الهازلة !

كان الحديث يتردد عن البحث عن فرحة بعد استبداد الأحزان والآلام بالناس ، ولكن أية فرحة يبحث عنها الناس وتتم في لحظات ما يلبث بعدها الواقع المر يفجع الناس بالخزي والذل والاستعباد ؟

في مصر يفتقد الناس الحرية الحقيقية وحقهم في التعبير عن عقيدتهم وإسلامهم ، فالملاحقات مستمرة والاعتقالات لا تتوقف ، واللصوص الكبار يسرقون بالقانون ويتلاعبون في أقوات الشعب والسلع الرئيسية التي يحتكرونها ، ويحرمون الشعب منها ، ولا رقيب ولا حسيب ، والقنوات مسدودة بين الحكام والمواطنين ، لا أمل في حوار أو تفاهم أو وفاق .. السلطة البوليسية تحسم كل لأمور في الجامعات والمدارس والمجالس النيابية الشكلية والمحليات والمرور والحاضر والمستقبل والأحزاب الورقية والصحف الشمولية والثقافة المزيفة والإعلام الكذاب .. لا أمل في شيء مما يدفع الشباب إلى إلقاء نفسه في البحر بحثا عن فرصة عمل في بلاد الفرنجة ، لا تتحقق أبدا لأن الباحث عنها يغرق فطيسا دون أن يبكي عليه أحد ، بل يحرمه المفتي من شرف الشهادة ؟

والحال نفسها في الجزائر التي ضحت بمئات الألوف من أجل الاستقلال . تسلط عليها لصوص من نوع شرس وبشع ، حرموها من الحرية والعقيدة واللغة العربية ، ونزحوا أموالها إلى باريس ومدريد وجنيف ،وجعلوها مدينة بأكثر من خمسين مليارا من الدولارات وهي الدولة البترولية المهمة في العالم العربي ، وأقاموا المذابح لأكثر من مائتي ألف جزائري يبحثون عن إسلامهم وحريتهم ، وأقاموا المعتقلات للأبرياء في جنوب الصحراء الحارقة القاتلة دون ذنب أو جريرة اللهم إلا أن يقولوا ربنا الله ، ولا يتورعون عن الإتيان بحاكم صوري يحركونه كما يحبون و يتحول في أيديهم إلى لعبة ، و يقتلونه في يوم عزته إذا لم ينسجم مع إرادتهم ومشيئتهم ؟

المباراة الرياضية تمثل خيبة حضارية للشعوب التي استسلمت للقهروالعسف ولم تقاوم أو تحتج أو ترفض ، فعز عليها الحصول على الرغيف ، وصار الوقوف في طوابير الخبز من الفجر حتى الظهيرة طقسا يوميا يستغرق معظم النشاط والجهد اليومي ، فلا فرصة لإنتاج ، ولا مجال لتفكير ، وتخرج أبواق الأنظمة المستبدة تسفه الناس وتتهمهم بالتقصير لأنهم لم يعملوا ولم ينتجوا ، في حين أن هذه الأبواق لم تتحدث أبدا عن السبب الحقيقي في التخلف والهوان وهو الحرمان من الحرية الحقيقية على أيدي الجلادين والطغاة الذي يستخدمونهم لتزوير إرادة الأمة ورغبتها .

سهر الناس حتى اليوم التالي بعد فوز مصر بهدفين نظيفين على الجزائر ، وبدأت عملية جديدة لشحن جديدة من أجل المباراة الفاصلة في السودان الشقيق الذي يخطط الأعداء والخونة لتمزيقه وإذلال مصر،ولم يتعظ أحد مما جرى ، ولن يتعظ .. لأن تسطيح الوعي صار الإنجاز الوحيد لفراعنة القرن الحادي والعشرين ، ولا ندري ماذا سيحدث غدا ؟ فا للهم نسألك الرحمة وأنت أرحم الراحمين !

هامش :

بعض القراء الأعزاء يسألونني عن أسماء بعض الأشخاص الذين يرد ذكر كلامهم أو آرائهم في بعض ما أكتب دون تسميتهم . والمسألة التي تعنيني هي الآراء والأفكار لا الأشخاص والأسماء ، فليس بيني وبين أحد عداء شخصي أونزاع عائلي أو خصومة وظيفية أو منافسة مهنية  .. يعنيني أن أناقش ما أراه مختلفا مع فكري وتصوري ، ورأي غيري صواب يحتمل الخطأ ،ورأيي خطأ يحتمل الصواب ، والثابت هو قول ربنا سبحانه وصحيح كلام نبينا صلى الله عليه وسلم .