فرنسا الهمجية
فرنسا الهمجية
بقلم: د.عصام عدوان
أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر - جامعة القدس المفتوحة
عندما رفض البرلمان الفرنسي هذا اليوم إدانة الاستعمار الفرنسي أو الاعتذار عما خلّفه الاستعمار الفرنسي من ويلات وجرائم في مختلف المستعمرات الفرنسية في العالم، ولا سيما العربي، فإن العنجهية واللاإنسانية قد سيطرت على العقلية الفرنسية كما سيطرت عليها إبان الاستعمار الفرنسي الغابر.فهل تظن فرنسا أنها أسدت خدمة للبشرية عندما استعمرت في إفريقيا وآسيا؟!، هل أفادت فرنسا باستعمارها أم استفادت هي، وهي فقط؟!!
من قال أن احتلال نابليون لمصر كان فيه أدني إنسانية، ألم يقتل أهلها بلا رحمة، ألم يقصف أبو الهول فجدع أنفه، ولا زال أبو الهول شاهداً على إرهاب فرنسا وهمجيتها التي لا تقدِّر حضارات الآخرين. أم يظن البعض أن المطبعة ومركز الأبحاث اللذين جلبهما نابليون معه إلى مصر كانا لمنفعتها، لقد كانت المطبعة لطباعة منشورات نابليون ونشر الثقافة الفرنسية الغريبة عن مصر، وكان مركز الأبحاث للإطلاع على مكنونات الأرض المصرية والثقافة المصرية لاستغلالها وتوجيهها ضد أهلها.
ألم يقتل نابليون ألفين من جنود الحامية العثمانية في يافا عندما حاصرها ثم أعطاهم الأمان فسلّموا له فأبادهم حتى أصاب جنوده الطاعون من جراء ذلك؟ فأين الحضارة في هذا الفعل اللاأخلاقي، ثم وجّه نداء إلى يهود إفريقيا وآسيا للعمل تحت رايته ليقيم لهم وطناً قومياً في فلسطين، فأين العدالة في ذلك وهو يعلم أن فلسطين للعرب المسلمين كما أن فرنسا للفرنسيين.
لقد مارس الاستعمار الفرنسي أبشع همجية في التاريخ الحديث كله عندما مثّلت القوات الفرنسية بحامية المجلس النيابي السوري في عام 1943م بعد أن نكثت وعودها للسوريين بالاستقلال، ففقأت أعينهم وقطّعت أعضاءهم عضواً عضواً ودفنت بعضهم أحياء وأحرقت الأحياء الدمشقية التاريخية. وفي عام 1945م نفّذت القوات الفرنسية مذبحة قسنطينة التي راح ضحيتها 45 ألف جزائري كانوا يتظاهرون مطالبين بالاستقلال متنكِّرة لكل مساعدات الجزائريين لفرنسا الديغولية ضد حكومة فيشي الألمانية، في مشهد لم نسمع عن مثيله لدى النازية ذاتها.
أوَ لم تتسبب فرنسا بمقتل مليون وستمائة ألف جزائري عبر سنوات احتلالها الهمجي للجزائر، أوَ لم يحرق جنودها ومستوطنوها أرض الجزائر عندما أيقنوا أنهم مغادروها، كي لا ينتفع بها الجزائريون بعدهم؟!!
ألم تمنح فرنسا وعداً لليهود بحقهم في فلسطين كان سابقاً لوعد بلفور المشئوم، حيث أعطى وزير خارجيتها كامبو وعداً لسكولوف ممثل المنظمة الصهيونية العالمية في فرنسا في مايو 1917م؟ ثم اعترفت بقانونية وعد بلفور في فبراير 1918م متواطئة مع حليفتها بريطانيا. ألم تغلق حدود لبنان وسوريا أما المجاهدين إبان ثورة فلسطين الكبرى بين عامي 1936-1939م لمساعدة الإنجليز في القضاء على الثورة؟!
ألم تنهب فرنسا خيرات إفريقيا حتى الرمق الأخير، ولا زالت تسيطر على مناجم الماس والذهب في النيجر والسنغال وغيرها ثم تركتها في فترة الاستقلال الموهوم في ذيل الشعوب والأمم؟ فأي مدنية وحضارة أصابت تلكم الشعوب من جرّاء سيطرة فرنسا عليهم لعشرات السنين؟!!
ألم تهدد فرنسا بعودة قواتها إلى الجزائر إذا فازت جبهة الإنقاذ الإسلامية في انتخابات عام 1990 ثم وجّهت أذنابها من قادة الجيش الجزائري لسفك دماء أبناء شعبهم؟ ألم تتدخل فعلاً في النيجر إبان حركة الانقلاب على الرئيس المخلوع قبل عدة أعوام؟!!
ألم تبادر فرنسا بملاحقة الحجاب الإسلامي في المدارس والمؤسسات الحكومية في بادرة غير مسبوقة ضد الدين الإسلامي ومظاهره الواجبة؟!! ألم يعاني المسلمون والأفارقة الفرنسيين من التمييز ضدهم داخل فرنسا (الديمقراطية) حتى فاض الكَيْل فقاموا بحرق السيارات وإشاعة الخراب انتقاماً وتنبيهاً لحقوقهم؟!
أبَعْدَ كل ذلك – وهو غَيْضٌ من فَيْض – تدعي فرنسا الحضارة والمدنية، وهي منهما براء؟!!، وبكل صفاقة ووقاحة تثني على عهد استعمارها البائد وتأبى أن تدينه، كما طالبت أوروبا من تركيا أن تدين مجازر ارتكبتها الدولة العثمانية سابقاً ضد الأرمن وذلك كشرط من شروط قبول التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي.
فلتعلم فرنسا أن لا أسف على عهدها البائد، عهد الهمجية والإرهاب، ولا أمل لنا ولا للشعوب الإفريقية والآسيوية بصلاح فرنسا التي لا زالت تهيمن عليها عقلية الاستكبار والاستحمار، بل لا بد لكل الشعوب التي عانت من همجية فرنسا أن تلِح وتطالب فرنسا بإصرار بالتعويض المادي والمعنوي، وأن تقدِّم اعتذارها لكل تلك الشعوب التي أذنبت بحقها أيما ذنب عظيم، وأن تدين فرنسا تاريخها المجرم الهمجي وتتبرأ منه إن كانت بنية تصحيح علاقاتها بالشعوب التي عانت منها.