مسودة الدستور العراقي ترسم: خنفشارية فيدرالية
مسودة الدستور العراقي ترسم: خنفشارية فيدرالية
لتصل إلى محمية Protektorat/Protectorate شعوبية.
عبد الحميد حاج خضر
باحث في الفقه السياسي الإسلامي المعاصر
في الخنفشارية: من أراد أن يجد أصلاً لغوياً لكلمة " خنفشار " وطلب العون من القواميس اللغوية المعتمدة عند أهل الصنعة، كلسان العرب أو القاموس المحيط، فسيعود حتماً بخفي حنين. يقول السادة فقهاء اللغة والبيان في موضوع الخنفشار أنها كلمة زنيمة لا أصل لها، ولكن أهل الملح والطرائف يروون لنا: أن دعّي فتن الناس بزخرف القول وعظيم الحيلة وسرعة البديهة، فكان لا يسأل عن مسألة إلا وكان الجواب الشافي والوافي على لسانه، ولما كان الحسد والغيرة أم الحيلة، فقد أتمر نفر من معارفه للوقعة به، فجمعوا الحروف الأولى من أسمائهم في كلمة، فكانت كلمة (خنفشار). أنطلق القوم إلى مجلس الدعّي العامر بكل من هب ودب؛ طالبين البيان وفصل الخطاب في كلمة خنفشار- بعد أن حلفوا بأغلظ الإيمان أن البحث والتمحيص أخذ منهم كل مأخذ.
انتفش الدعّي في مجلسه ثم قال: أعوذ بالله من الخطل والزلل، أما الخنفشار فهو: نبات ينبت في البرية إذا أكلته الشاة زاد حليبها، فلما تهامس القوم ولجوا بالسؤال، أردف الدعّي قائلاً:
لقد جلبتم إلى قلبي هموماً كما جلب الحليبَ الخنفشار
ولما كان الشاهد شعراً جاهلي الصنعة- نال الدعّي إعجاب الحضور من سفهاء المعرفة، و دهماء المتنطعين. فهرول القوم يجرون أذيال الخيبة والهزيمة
ولو لم يك الأمر جللاً والخطب عظيماً في إشكالية الفدرالية ومسألة الدستور- لاكتفينا بشذرات الملح ونوادر الطرف؛ ندفع بها عن القلب كمداً وعن النفوس مللاً. ولكن كما قال السياب:
ويح العراق أ كان عدل منه أن تدفعي سهاد مقلتك الضريرة
ثمناً لملئ يدك زيتاً من منابعه الغزيرة للنور- الذي لا تبصرين.
الدستور، تلك الكلمة الفارسية المعربة- اكتسبت معنى عصري يماهي كلمة Constitution الإنكليزية أو الفرنسية- اللاتينية الأصل، وتقابل كلمة-Verfassung الجرمانية، وتعني كمصطلح حقوقي: المنظومة القانونية الأساسية، المدونة وغير المدونة، التي تنظم وتحدد وظيفة السلطات في الدولة وحقوق وواجبات الأفراد فيها.
من هذا التعريف تعتبر القيم والأعراف التي تحكم سلوك الأفراد والحماعات، وتمالأت الأمة على احترامها- جزء من الدستور حتى وإن لم تكن مدونة أو مكتوبة، فالقيم المسيحية والأعراف الغربية وما تمالأت عليه الشعوب الغربية كمرجعية يعتبر جزء من الدستور بل الدستور نفسه، كما هو الحال في بريطانيا، حيث لا يوجد دستور مكتوب.
يعتبر أول دستور عصري مكتوب،- ما عرف بوثيقة فيرجينيا لعام 1776 التي أنهت النضال السياسي الذي حجم أو قلص سلطات الدولة وفرض الحقوق الأساسية للأفراد؛ تلاها صدور الدستور الاتحادي للولايات المتحدة الأمريكية عام 1787، أما في أوربا فقد أعلن عن وثيقة حقوق الإنسان الفرنسية عام 1789، ثم أول دستور للدولة الفرنسية عام 1791، أما صناعة الدستور في ألمانيا فبدأت في مقاطعة بافاريا الواقعة في جنوب شرق ألمانيا- بإصدار دستور بافاريا لعام 1808، أما الامبراطورية الألمانية، التي انبثقت بعد توحيد الأمارات والممالك الجرمانية، التي اضطلعت بتوحيدها العصبية البروسية، أحد العصبيات أو القبائل الجرمانية التي تسكن في برلين وما حولها، فقد عرفت الدستور المكتوب عام 1871 الذي يثبت وحدة الأمارات والممالك الجرمانية وينظم العلاقة بينها بشكل فدرالي محكم الصنعة- يعطي الدولة الاتحادية المركزية كل الصلاحيات السيادية، كما يجعل قيادة الجيش الوطني، وكل آليات الضبط والربط من صلاحيات الدولة المركزية- مما يجعل العودة إلى التشرذم والفرقة والتناحر أمراً مستحيلاً.
لعل التجربة الألمانية الحديثة من بين التجارب العالمية الغنية التي يمكن للطبقة السياسية العراقية أن تنهل منها الكثير من الدروس والعبر في صياغة ما اصطلح علي تسميته " العراق الجديد" فألمانيا كما العراق خضعتا للاحتلال الأجنبي عدة مرات، كما أن كلا الدولتان تحتلان موقعاً استراتيجياً- تسيل له لعاب الطامعين على هيمنة العالم؛ كلا الدولتان منقسمة مذهبياً- العراق (سنة وشيعة)، وألمانيا (بروتستانت وكاثوليك يضاف إليهما حديثاً 3,5 مليون مسلم وأقلية يهودية نشطة). العراق منقسم عرقياً إلى كرد وعرب، أما ألمانيا فتحت الرماد داء دوياً من الحزازات العصبية، فهناك البفاريين والفرك أي الفرنجة وهناك الألمان والبرويس والسكسونيين والدوتش والشفابنيين والبرويس الشرقيين والشليزيين..الخ ولذلك كنت أكرر القول دائماً؛ أن العراق والدول العربية بشكل عام أكثر تجانساً من أي دولة في العالم، والقول بالموزايك العراقي أو السوري...الخ- تبضعاً رخيصاً في سوق الخصوصيات والنحل المقيتة. إن الدول الأوربية تبدوا متجانسة لأنها تمكنت من حل المسألة الزراعية، تلك المعضلة التي تجعل الإنسان عبداً للأرض والمحراث أو كمن يجر صليب الفقر والفاقة والمشقة على كتفه، مما يخلق فيه نزعة استئصالية مدمرة- كانت دائماً وراء الحروب الدينية وغير الدينية الطولية في أوربا وأمريكا، ويرى علماء الاجتماع، أن عدم حل هذه المسألة وما يتعلق بها من إشكاليات، سيبقى الروح الإستئصالية تسمم العلاقات الاجتماعية، وحاجزاً في وجه التعاقدية كقاعدة للدولة العصرية، ويكفي أن نذكر أن نسبة العاملين في الزراعة، في كل من فرنسا وألمانيا، لا يزيد عن 2,8% من مجموع العامين في الحقل الصناعي والخدمي والإداري؛ في حين تصل هذه النسبة إلى 28% في العراق وسورية؛ مما يجعل أبناء الأرياف الفقيرة يتهافتون على الخدمة العسكرية- حاملين للعقلية الإستئصالية التي أملتها عليهم الحياة الريفية القاسية، والوسط الرعوي الذي ينحدرون منه، وتبقى هذه النزعة قائمة حتي ولو حصلوا على تعليم أكاديمي رفيع.
إن وجود هذه العقلية الإستئصالية غير التعاقدية في الأجهزة القمعية للدولة يجعل مؤسسات الدولة الديمقراطية الرخوة موضع احتقار وربما سخرية عند المغامرين منهم. لا يمكن حل المسألة الزراعية إلا بمكنة الزراعة، وخفض نسبة العاملين في الحقل الزراعي إلى حدود معقولة، وهي عملية مكلفة وطويلة وهو ما أطلق عليها ابن خلدون (العمران) حيث يتوجه الناس إلى الصنائع والمعارف الضرورية النافعة.
من أخطر ما يواجه الإنسانية اليوم: أن هذه العقلية الإستئصالية أصبح هي التي تحكم فلسفة العولمة، بعد الالتفاف على العقلية التعاقدية التي كانت تحكم سياسة دولة الرعاية الاجتماعية، فأصبح المناداة بالديموقراطية وحقوق الإنسان تعلّة وذريعة لتلك العقلية المدمرة.
هل يمكن دمقرطة العراق والعام العربي وتحريرهما من الطغيان والفساد ؟ أقول نعم؛ وبأسرع مما يتخيل أكثر المتفائلين، ولكن ليس بعقلية الاستئصال والاجثاث التي حملتها الدبابات الأمريكية، وكما يقول السيد المسيح " من ثمارهم تعرفهم.
لقد أنجزت هذه العقلية عدة مراحل مدمرة في بناء العراق "الجديد" كما يتصورون، فقد لفقت التهم والذرائع لتبرير الغزو- تبين فيما بعد أنها كاذبة، كأسلحة الدمار الشامل. حلت الجيش العراقي، ومكنت الغزاة من إشاعة الفوضى وسرقة الثورة الوطنية، بل وتدمير وسائل الإنتاج والمرافق العامة، فأدخلت الظلام والبؤس في كل ناحية من نواحي البلاد، وأرجعت البلاد إلى ما قبل العصر الصناعي - تماماً كما توعد وزير خارجية الولايات المتحدة (بيكر) وزير خارجية العراق طارق عزيز قبيل ساعة الصفر المحددة سلفاً لبدء حرب " تحرير الكويت"- بقنبلة العراق وقصفه للعودة به إلى العصر الحجري، وتماماً كما اقترح مستشار الرئيس الأمريكي ( مورغن تاو) على الرئيس (ترومان) بتحويل ألمانيا، ذات التقاليد الصناعية العريقة، إلى حقول للبطاطا- ومن إنجاز العقلية الإستئصالية المتحالفة مع العقلية التلمودية- تقسيم الشعب العراقي إلى نحل وفرق- تتسكع على أبواب الهيمنة الأمريكية؛ مستجدية الدرهم والدولار وأسباب القتل والدمار، أو منحازة إلى المشروع القومي الإيراني بجعل الجنوب محمية إيرانية تحكمها العقلية الشعوبية الحاقدة. ومن إنجاز العقلية الإستئصالية انتخابات الجمعية الوطنية التي تعتبر بكل المقاييس عملية سطو على إرادة الشعب العراقي، بعد خداع العرب سنة وشيعة، وعلى لسان السيستاني وأئمة الشعوبية، أن الانتخابات هي الطريق السلمي لتحرير العراق من الاحتلال بعد اتخاذ ما يجب اتخاذه من عمليات شيطانية لاستبعاد السنة والتيار الصدري والخالصي من المشاركة في العملية الانتخابية- من هذه الإجراءات الشيطانية: قانون الانتخابات الذي فصل منذ البدء لتبرير عملية السطو، بجعل العراق دائرة انتخابية واحدة، وعدم إنجاز إحصاءات يعتد بها قبل إجراء عملية الانتخاب، ومنها أيضاً عدم الإفصاح عن أسماء المرشحين وموقعهم في القائمة الانتخابية، وأقبح ما قامت به العقلية الإستئصالية تصعيد الأجواء الأمنية وتدمير الفلوجة بعقلية مغولية مخيفة لا تبقي ولا تذر. لقد قامت قوات الاحتلال تساندها جحافل ابن العلقمي بأعمال قرصنة وسطو يندى لها جبين الإنسانية. وإليك أيها القارئ الكريم صورة عن العملية الانتخابية التي جرت في الرمادي كما نقلها لي زميل من أبناء الرمادي كنموذج للديمقراطية الأمريكية- الشعوبية. في يوم الانتخابات 30 من يناير (كانون الثاني) جاءت فرقة عسكرية أمريكية واحتلت مدرسة ثانوية لتجعل منها مركزاً للاقتراع، بعد أن تسوروا المنازل المجاورة وتمركزوا على أسطحتها منذ الصباح الباكر. لم أكن أصدق أن جيش دولة عظمي بهذه الصور المزرية: وجوه علاها الخوف والوسخ، متنوعة السحن ’شعث ’غبر يكاد المرء يحسبهم أنهم بعثوا من الأجداث للتو، مهشمين الخلقة والأسنان، تصتك أسنانهم وكأنهم في يوم زمهرير، وهم من خيالهم خائفون، يصرخون ويولولون فلا تكاد تفقه لهم قولا،ً ولا تعرف بأي لغة يتكلمون، الأسبانية، البولونية، البلغارية، الأوكرانية، الروسية، الإنكليزية، أو لغة الجن والعفاريت. تفوح منهم رائحة الخمر وقد اختلطت برائحة أجسادهم النتنة التي تبعث على التقيؤ والغثيان. إنها البرولتاريا الرثة التي تصادفها مستلقية على قارعة الطريق في محطات القطار والأماكن العامة حيت بعض الدفء؛ تعب من شوشة( زجاجة) الكحول الرديء. حتي إذا مر اليوم بسلام، وقبل أن يدب الظلام، ألقي جنود بوش وأعوانه ما جمعوه من خراء أو غائط أو بول في الحافظات التي يرتدونها، كما هو حال الرضع، أو كبار السن، الذين أصابهم عجز يمنعهم من قضاء حاجتهم بالمرحاض، فترى هذه الحافظات على أسطح المنازل وفي الطرقات تنبعث منها ما ينبعث من كنيف أو مرحاض. أين الجنود ذوي البزات الأنيقة ذوي العيون الزرق، الذي جمعهم بوش على بارجة يعلن انتهاء الحرب عل العراق- سألت زميلي، فأجاب: قابعون في أماكن آمنه- يوزعون الأوامر عبر أجهزة الاتصال والكمبيوتر، ولا يتسنى لأحد الوصول إليهم، فهم في بروج من الحديد مشيدة. لقد انتهى كابوس الانتخابات، وفاز أهل الصغائر والكبائر بثمن بخس ودراهم معدودات، وباءوا بغضب من الله ورسوله، والآن جاءت مهزلة الدستور، ووباء التقسيم، وألعوبة الكشتبان الفدرالية الخنفشارية.
لقد قرأت مسودة الدستور، نيابة عن معظم أعضاء الجمعية العمومية، ثلاثة قراءات. الأولى لغوية فوجدت: الكسائي يقول: إقراءها بالكردية، وشكسبير يقول إقراءها بالسريانية أو الآرامية، فالإنكليزية لغة حديثه ولا تصلح لقراءة المعاني التاريخية، أما شتراوس الضليع باللغة العبرية والألمانية والإنكليزية، فنصحي أن أقراءها باللغة البوشية الشارونية، فقد ابتعد العرب عن لغتهم، ولم يعد بمقدورهم فهم الباطنية، وأصبحوا أكثر تصديقاً للغة الحداثة والديموقراطية، على الطريقة البوشية الشارونية، ووجدت، بعد حيرة من أمري، أن الأصوب أن أقراءها بالفارسية، كما نصحني سيبويه وابن المقفع، وهما الأعرف ببواطن الأمور وألاعيب الشعوبية. لقد صيغت مسودة الدستور بلغة فارسية آرية ’ترجمت ترجمة هزيلة للعربية، فدقة المصطلح مفقودة، والحصافة السياسة نادرة، وسلاسة البيان معدومة، جل ما تقراءه عبارة عن جمل أو بعض جمل إنشائية شعاراتية، ومع هذا تمالكت نفسي وقراءت المسودة قراءة ثانية، ولكن هذه المرة قراءة حقوقية- مركزاً على الجوانب الخلافية والجدلية مستعيناً بدستور جمهورية ألمانيا الاتحادية- التي عانى شعبها ما عاناه الشعب العراقي من حروب وويلات ودمار واحتلال، كما عرف ثورات وتمرد ات فاشلة، وعانى من قسوة أنظمة مستبدة غاشمة.
مسودة الدستور تبدأ بديباجة أو مقدمة (Preamble) كأي دستور عصري في العالم.
الديباجة الدستورية تعتبر المدخل والمؤشر إلى معالم الدوافع والمقاصد والأهداف والخلفية التاريخية للدستور، كما يمكن الرجوع إليها في تفسير وتأويل بعض مواد الدستور.
تبدأ ديباجة الدستور الألماني بجملة- تأكد مسؤولية الهيئة التأسيسية أمام الله والناس، والرغبة لجعل الدولة الألمانية عضو وند في بناء أوربا كخادم للسلام العالمي، وإن صياغة هذا الدستور ترمي إلى وضع امكانات الشعب الألماني في خدمة هذا الهدف، وتتضمن الديباجة أسماء الولايات المكونة للدولة الألمانية، والتي تمتد على مجموع التراب الوطني ضمن الحدود التي فرضتها معاهدة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى، ولمعرفة أهمية الإشارة إلى كافة الولايات المكونة للدولة الألمانية وبدقة: هو تحديد الهدف وترسيم حدود الدولة الجغرافي والديموغرافي الذي يجب أن تسعى إليه دولة ألمانيا الغربية التي لا تزال محتلة ولا تمثل سوى 58% من مجموع الأراضي التي أشار إليها الدستور، كما تحدد الديباجة الدستورية الوسيلة واجبة الإتباع في إعادة توحيد التراب الوطني، ولما كانت بعض هذه الولايات تحت الاحتلال الأجنبي(روسيا، فرنسا، وبولندا)، كما أن البعض الآخر كان يشكل جمهورية ألمانيا الشرقية، فقد جعلت وسيلة التوحيد سلمية، وبالإرادة الحرة لسكانها وفق مبدأ حق تقرير المصير، حيث أن مبدأ حق تقرير المصير ينطبق بدقة على الحالة الألمانية.
في المقابل- ماذا نجد في ديباجة مسودة الدستور العراقية؟ المقطع الأول كلام إنشائي ينم عن مركب نقص ودونية، فإذا كان القصد تذكير الشعب العراقي بماضيه الحضاري العريق، فهو من فضول القول، وعلم لا ينفع وجهل لا يضر، فالقرآن الكريم يهدينا إلى ما هو أقوم: تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون. أما المقطع الثاني وحتى نهاية الديباجة فهو أشبه ببيان لمجموعة من الطلبة في السنوات الأولى من تحصيلهم الجامعي لقسم العلوم السياسية والإعلامية؛ يشيرون فيه إلى كل المسائل الخلافية والتحريضية، ويصلح في أحسن الحالات- كتبرير صوري وسفسطائي لعملية سطو على السلطة قام بها مجموعة عسكرية مغامرة- نالت للتو موافقة وكالة المخابرات المركزية، ولعل الإشارة إلى "انتخابات" 30 من يناير(كانون الثاني) من هذا العام في مسودة الدستور- يفضح العقلية الإستئصالية الخبيثة التي مكنت هؤلاء القوم من السلطة، فالانتخابات المزعومة كما عرّفها ووصّفها أهل الاختصاص بأنها عملية سطو، وإذا قيمناها بأريحية وسعة صدر: فهي لعبة Game أمريكية معروفة النتائج سلفاً، ولكن طريقة الأداء الظلامية والإجرامية؛ بدًأ بقتل الأبرياء في الفلوجة والمدن العراقية، قبل وبعد الانتخابات، يجعلنا نجزم أننا أمام قوم لا يعرفون للحياء والعدل والمروءة مذ خلقوا طعماً، وعندما توضع هذه الحادثة الكريهة في مقدمة الدستور كمعلم تاريخي وحضاري يعتد به فالقادم أنكى وأدهى وأمر.
الانتخابات العامة هي الوسيلة للشرعية، وهي، أي الانتخابات، بمثابة الكيل والميزان في البيع، وكما لا يصح البيع إلا بكيل وميزان قسط، فكذلك لا تستقيم الشرعية إلا بانتخابات(عامة، حرة، مباشرة، سرية، وتأخذ بمبدأ المساواة بين الناس) ويراعي فيها أدق التفاصيل العملية والفنية. هكذا تعلمنا. أم أن لأهل الدبابة الأمريكية علوم أخرى لا يفقها إلا الراسخون في الباطنية والعرفانية المرجعية.
لنترك الديباجة جانبا،ً ونقرأ مسودة الدستور: أبواباً ومواد وفقرات- قراءة حقوقية، بعد أن نشير إلى البنية العامة لمسودة الدستور.
البنية العامة لمسودة الدستور مقارنة بالبنية العامة للدستور الألماني.
مسودة الدستور العراقي المقترحة عبارة عن رغبات وأماني وتطلعات؛ للفيف غير متجانس من الأفراد يدّعون تمثيل ملل وطوائف ونحل وفرق وعصائب لا يجمع بينهم إلا الأنانيات والرغبة في تقاسم الغنيمة: الكثير من مواد الدستور عبارة عن إعلانات لسلع بعضها كاسدة، والبعض الآخر يراد الترويج لها بصوت مرتفع ويزخرف القول- تماماً كمساحيق الغسيل أو الفياغرا المنشطة للجنس، كما لا تخلو هذه الصنعة من الوقاحة والاستفزاز وبلادة الشعور.
مسودة الدستور عبارة عن لوحة سريالية تعاور على رسمها عمال دهان غير موهوبين، وكان المنقذ الوحيد من الظلال المبين في ترتيب أبواب الدستور اعتماد جوقة الدستور النموذج (الأمريكي- الفرنسي) في التبويب، وربما لأنهم لا يعرفون غيره؛ إضافة إلى جهلهم بشرعة دينهم في هذا المجال. ليس من الصدفة الشرود أن تخلو مسودة الدستور من عبارة (الشعب العراقي) كمصدر للسلطة- أي الأمر "وأمرهم شورى بينهم" فليس بينهم رجل رشيد يفرق بين (الحكم) وبين (الأمر) أو سياسة الدولة، وأنّا لهم ذلك، وجلهم يرى الدين والسياسة أتباع رجل معصوم أو يدعي العصمة.
في الباب الأول من مسودة الدستور، والمؤلف من 17 مادة دستورية أطلق عليه: المبادئ الأساسية Basic principle. وتعني حصراً بصياغة بنية دولة "العراق الجديد" أي صناعة الوثن الملون بأنواع الطيف الملي والعرقي والطائفي، ثم الخضوع له ساجدين. يبدأ الوثن(السلطة) بتشطير الشعب العراقي إلى شطر عربي؛ ينتمي إلى الأمة العربية، والحمد لله، بعد تشطيره إلى سنة وشيعة، وشطر يشطر إلى أعراق وملل ونحل.
الدولة التي ستصاغ على هدي الباب الأول من مسودة الدستور هي مخلوق عجيب، ويحتاج إلى عدو يقارعه ويصارعه في معركة تحقيق الذات، وقد حدد الباب الأول ذلك العدو بشكل محسوس و"معقول"- الإرهاب بجميع أشكاله، والبعث الصدامي- ولكن فقط في العراق، وليس عبر البحار أيضاً، والحمد لله الذي لا يحمد على مكره سواه.
لو قارنا بين ديباجة مسودة الدستور العراقي البائسة مع ديباجة الدستور الفرنسي نجد: أن ديباجة الدستور الفرنسي تعتمد صيغة متطورة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1789 وسيادة الدولة، وكما هو معرف بالضرورة لأهل الاختصاص، أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ’لخص بالكلمات الثلاثة المعروف ( الحرية، المساواة، والإخاء) يضم الحقوق الأساسية Basic rights. إلا أن وضعها في مقدمة الدستور لا يعطيها الإلزام الحقوقي الكافي، كما فعل آباء الدستور الألماني عندما وضعوا الحقوق الأساسية Grundrechte/Basic rights في الباب الأول من الدستور الألماني، واكفتى المشرع الألماني في الديباجة بالإشارة وحدة التراب الوطني المحتل والمجزاء كهدف دستوري، كما بينا أنفاً. إلا أن القمة في المسؤولية والحصافة تتجلى بالمادة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، عندما جعل المشرع الألماني أن الكرامة الإنسانية مصانة وواجب الدولة بجميع مؤسساتها حماية وصيانة هذه الكرامة، وجعل حق الحرية والمساواة بكل مفرداتهما تتماهيان مع الكرامة الإنسانية وليصبحن جميعاً وحدة كامة لا يمكن التفريق بينهن.
الباب الأول من دستور ألمانيا الاتحادية يضم 19 مادة تتضمن الحقوق الأساسية التي ترسم الهدف والغاية للدولة والمجتمع، وتعتبر المادة الأولى من ثوابت الدستور التي لا يمكن تبديلها أو تعديها بأي أكثرية برلمانية، وتنص هذه المادة ببساطة ممتنعة:1- أن كرامة الإنسان مصانة ولا ينبغي المساس بها. إن الواجب الأساس لكافة سلطات الدولة صيانتها واحترامها. 2- ولهذا فالشعب الألماني يعبر عن نفسه من خلال حرصه وصيانته للكرامة الإنسانية كقاعدة أساس لكل مجتمع إنساني ينشد السلام والعدل في العالم. 3- الحقوق الأساسية اللاحقة ملزمة وبشكل مباشر للسلطات التشريعية، والتنفيذية، و القضائية.
تلي هذه المادة التي تعتبر من ثوابت الدستور، كما أسلفنا، 18 مادة دستورية تبسط الحقوق الأساسية وتجعلها تحقيها في الدولة والمجتمع الهدف الأساس.
المادة 20 من الدستور الألماني هي: ناصية الباب الثاني من الدستور، والذي يتكون من المادة20- 37. تعتبر المادة 20 من ثوابت الدستور أيضاً.، وتتضمن المبادئ الدستورية- وحق العصيان المدني في حالة انتهاك أو إلغاء النظام الدستوري. وتضم الماد 20 أربع فقرات.1- جمهورية ألمانيا الاتحادية: دولة ديمقراطية اجتماعيةSocial وفيدرالية. 2- جميع سلطات الدولة تنبثق من الشعب عبر الانتخابات أو التصويت من السلطة التشريعية أومن جهة تندب منها؛ لممارسة السلطة التنفيذية أو القضائية. 3- السلطة التشريعية تمارس وظيفة التشريع وفق المنظومة الدستورية. السلطة التنفيذية والسلطة القضائية ملزمة وخاضعة للقوانين والحقوق والأحكام. 4- إن الشعب الألماني له حق مقاومة كل من تسول له نفسه اجتثاث النظام -عندما يتعذر الحفاظ عليه بوسائل أخرى.
الدستور الألماني يتبع منهجية عقلانية ومنطقية في تبويب أبواب وفصول ومواد الدستور: آ- تحديد الهدف والغاية. ب- الجهة المعنية وصلاحياتها الدستورية. ج- الوسيلة الديمقراطية واجبة الإتباع في إقامة الجهة المعنية وطريقة تعاملها مع ما ندبت إليه. مسودة الدستور العراق، ببساطة، تنقصه المنهجية العقلانية والمنطقية وأقرب إلى الفوضى غير الخلاقة.
الباب الأول من مسودة الدستور والذي ’صنف أنه الحاوية (للمبادئ الأساسية) والمؤلف من 17 مادة يمكن اعتباره في أحسن الحالات من فضول القول، الذي يفرق ولا يوحد ويكرس الخصوصيات بشكل يجعل جمعها وقفاً على وجود جيش ومخابرات- تخضع لسلطة مدنية تسعى بدورها لإقامة محميات أطلقت عليها الفيدراليات للتناغم أما مع طموحات وأماني الدولة القومية الإيرانية أو مساعي قوى عالمية تريد بالعراق السوء والتشرذم والفرقة. ’قبيل وخلال الغزو وحتى اليوم يكثر القوم عن الحديث عن الفيدرالية، وكأنهم اخترعوا العجلة من جديد أو وجدوا عصى موسى، وكل ما سمعته من كبراءهم، الذين علموهم السحر، في هذا الموضوع عبارة عن حجج سفسطائية لقوم لا يملكون من الأمر شيئاً ولا يجرؤون على مغادرة المنطقة الخضراء إلا بسور من الجند والأحراس. ببساطة عضاريط تحكي انتفاظة الأسد.
الفيدرالية كما المركزية: واقع تاريخي له مسيرة وصيرورة، فالمركزية الفرنسية في مطلع القرن العشرين هي من التاريخ، وهي اليوم أقرب إلى الفدرالية الإدارية الألمانية الحالية، كما أن الفدرالية الألمانية الحالية أقرب إلى المركزية الفرنسية، فأصل الفدرالية الألمانية ممالك وأمارات ومدن بحرية مستقلة ومتناحرة؛ اضطلعت العصبية البروسية بتوحيدها بدولة اتحادية، فأزاحت الحواجز الجمركية وغير الجمركية؛ لتصل اليوم إلى تجانس وتعاون يرتقي بها إلى مصاف أشد الدول المركزية مركزية، ففي مجال العمران والاقتصاد والمال ’طبقت قوانين الأواني المستطرقة؛ لتكون التنمية عامة والرفاه تاماً. أما في مجال الحقوق والمعاملات ولإدارة فلا تكاد تجد من الخصوصيات إلا النذر اليسير من اللوائح والقوانين المحلية ’يحتفظ بها للفلكلور الشعبي والتندر، كما يحتفظ بالألقاب والتسميات القديمة لإعطاء نوع من العبق التاريخي. في ألمانيا مثلاً: كل القضايا السيادية من اختصاص السلطات المركزية بدون منازع، كما أن تمثيل الولايات في الخارج من اختصاص السلطة الفدرالية، وللذكرى فقط- عندما زار رئيس حكومة بافاريا السيد فرنس شتراوس، في نهاية الثمانينيات، المملكة العربية السعودية، وتمتم بكلمات يعد بها وزير الدفاع السعودي بتصدير دبابات ليو بارت II إلى المملكة؛ نهره سفير ألمانيا في جده، وطلب إليه الكف عن الحديث في هذا الموضوع، لأنه من اختصاص الحكومة الاتحادية، وقال له:أنا كسفير ألمانيا الاتحادية المخول الوحيد للحديث في مثل هذه الأمور السيادية، علماً أن شتراوس رجل المعارضة القوي وكان يستعد لخوض الانتخابات العامة للفوز بمنصب المستشار. نجد في الباب الثاني المادة 31 والمادة 32 من الدستور الألماني فصل الخطاب في المسائل الفيدرالية، حيث ترسم المادة31 أن قوانين الدولة الاتحادية تجب وتلغي قانون الولاية في الشأن الواحد، والماد 32 تجعل الشأن السيادي الخارجي حصراً في السلطة الاتحادية، ولكن القمة في الضبط والربط بين الولايات المكونة للاتحاد تتجلى في المادة 37 من نفس الباب، التي تحمل عنوان جبرية الاتحاد Bundeszwang وبالإنكليزية Federal constraint، وترسم هذه الماد واجب وحق الدولة الاتحادية في اتخاذ الإجراءات الضرورية لحمل الولاية على الالتزام بالواجبات المترتبة عليها.
مسودة الدستور العراقي تخلو من السند الدستوري والآليات التي تعزز وحدة التراب الوطني العراقي مما يجعل التمرد على إرادة الحكومة الاتحادية، بل وإمكانية الانفصال ممكنة الوقوع، كما يجعل الباب مفتوحاً لبعض المحافظات أن تستقوي بعضها ببعض على أساس عنصري أو طائفي؛ لتغير البنية الإدارية للدولة. مسودة الدستور تخلو من تحديد دقيق للمجموع التراب الوطني وتتناسى، عن قصد خبيث، طموحات ونظالات الشعب العراقي الشعب العراقي في معركة تحقيق الذات. لقد كان على لجنة وضع مسودة الدستور أن تجد صيغة واقعية ومواضع الإجماع القابلة للارتقاء إلى ما هو أفضل. وقد عمد الدستور الألماني اسلوباً حصيفا في هذه المسألة فقد عدد الولايات التي تشكل تاريخياً مجموع التراب الوطني، وترك الباب مفتوحاً لانضمام الولايات التي خضعت للاحتلال إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية (الغربية) بالإرادة الحرة أو حسب مبدأ تقرير المصير للمقاطعات التي تخضع للاحتلال، أو انتزعت من ألمانيا بعد الحرب الثانية، ولهذا الغرض أعلنت ألمانيا في المادة 25 القبول التام بالقانون الدولي. الحالة العراقية أقل تعقيداً مما يجعل الوصول إلى الحقوق المشروعة للدولة العراقية، وفق القانون الدولي أكثر يسراً، لهذا كان على لجنة وضع الدستور أن تشير إلى المحافظات 18 التي تكون التراب الوطني وترسم الحدود الدولية للجمهورية العراقية، وهي محافظات ( الأنبار، البصرة، المثنى، القادسية، النجف، أربيل، السليمانية، التأميم، بابل، بغداد، داهوك، ذي قار، ديالا، كربلاء، ميسان، صلاح الدين، وواسط،)، وتطالب بتطبيق القانون الدولي. وبوضوح وصراحة: إن القانون الدولي لا يعطي زعماء الكرد حق تقرير المصير، كما يدّعون، جهلاً أو خبثاً. كما لا يعطي حق ضم بعض المحافظات على أساس عنصري أو طائفي وتشكيل كيانات فدرالية وهي في حقيقة الحال محميات لهذه الدولة أو تلك.
أما ما يتعلق بطموحات وتطلعات الشعب العراقي فكان لزاماً على لجنة الدستور أن تكون أمينة وصادقة وواقعية فالشعب العراقي وأرض العراق كان حاضنة الخلافة الإسلامية، ومستقبل العراق يكمن بالسعي الحثيث للتغلب على العقبات التي وضعت من قبل أعداء الشعب العراق للتضييق عليه ومحاصرته ومنع أسباب التنمية.
المادة 23 من الدستور الألماني تدعوا، وبكل وضوح، إلى تحقيق الوحدة الأوربية، وبنفس الصيغة الدستورية والسياسية التي نجدها اليوم. أما ما تفتقت عنه عبقرية الشعوبيين والعنصرين وأخدان المحتل- يدعوا للسخرية والاحتقار، فعندما تقرر المادة 3 من الباب الأول: العراق بلد متعدد القوميات، والشعب العربي فيه جزء من الأمة العربية. تبرهن ليس على عقم العقلية الشعوبية وحقدها الدفين على الأمة فحسب، بل تتنكر لحق الشعب العراقي في التنمية والازدهار. لنحاول أن نصيغ مادة تحل محل هذه المادة النتنة الكريهة مستوحاة من المادة 23 من الدستور الألماني في شان الهوية: إن جمهورية العراق المستقلة ستتخذ من السياسات والإجراءات الناجعة والحصيفة ما يحقق أقصى درجات التعاون والوحدة بين دول الجامعة العربية، ويجعل حق التنمية للشعب العربي والشعوب الإسلامية أمراً ممكناً.
إن من المسلم به أن الأداء الإداري وسياسة التنمية والعمران لمحافظات الجمهورية العراقية- لم تكن تستوفي الحد الأدنى من تطلعات الشعب العراقي في العدل والتنمية، ولكن حل تلك الإشكاليات لا يمكن أن يكون بالعودة إلى الصورة الفدرالية التاريخية، خاصة إن الفدراليات اليوم تجنح إلى مزيد من التواصل والتعاون على القاعدة الفيزيائية في الأواني المستطرقة. فمشكلة الإنسان الجوهرية في زاخو هي نفس مشكلة الإنسان في أم القصر.
لو نظرنا إلى المواد الدستورية الألمانية؛ المتعلقة بالدفاع أو الشأن الإداري، او القضائي، وخاصة الشأن المالي وآليات الضبط والربط، لوجدنا حزمة من المواد الدستورية التي تجعل الولايات تعمل، وكأنها خلية عضوية واحدة. إن مقارنة بين الولايات التي كانت تشكل جمهورية ألمانيا الشرقية، وما حل في الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي- يعطينا الدليل الحسي على فعالية المواد الدستورية الألمانية في القضاء على التخلف وبسط أسباب التنمية لكافة الولايات. الحل المنطقي لإشكاليات الإدارة المحلية في محافظات الجمهورية العراقية يجب أن ينطلق مما هو قائم ومستقر وتطويره إلى ما هو أفضل وأكثر حزماً، وليس بالرجوع إلى عقلية النحل والفرق والإقصاء.
جمهورية العراق البرلمانية، هذا يعني أن السيادة فيها للمؤسسة التشريعية، المنبثقة من انتخابات ( عامة، حرة، مباشرة، سرية، ووفق مبدأ المساواة) حيث يمكن أن تتكون المؤسسة التشريعية من الجمعية الوطنية المنتخبة وفق النظام النسبي، حيت ينتخب نصف أعضاء الجمعية العمومية المخصص للمحافظة مباشرة وشخصياً، والنصف الآخر وفق مبدأ النسبية. مجموع النواب المنتخبين في المحافظات- يشكلون الجمعية الوطنية، كما سمتها مسودة الدستور، يضم إليها مجلس الأعيان الذي ينتخب بنفس الآلية المقترحة بمسودة الدستور لجميع المحافظات دون استثناء. الجمعية الوطنية + مجلس الأعيان يشكلان معاً السلطة التشريعية التي تمارس السيادة، وهذه الصيغة هي نفس الصيغة الفيدرالية من حيث المضمون والوظيفة المعمول بها في جمهورية ألمانيا الاتحادية. و تتماهى مع الصيغة المركزية المعمول بها في فرنسا من حيث الوظيفة أيضاً، بل ومعظم الدول الديمقراطية، سواء كانت فيدرالية أو مركزية. مجلس الأعيان المنتخب في المحافظة يمارس السلطة التنفيذية على مستوى المحافظة: بدلاً من المحافظ ومجلس المحافظة المعينين من قبل وزير الداخلية أو رئيس الوزراء.
أغرب ما يقرأ المختص وغير المختص ما ورد في المادة 9 من الباب الأول:
"يحظر كل كيان او نهج يتبنى العنصرية او الإرهاب او التكفير الطائفي او يحرض او يمهد او يمجد او يروج او يبرر له، وبخاصة البعث الصدامي في العراق وتحت أي مسمى كان، ولا يجوز أن يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق، وينظم ذلك بقانون." هذه المادة الدستورية تجعل البصمات الأمريكية وعقلية اليمن المتطرف الإقصائية واضحة المعالم، فالغرض من الدستور: التسديد والمقاربة بين شرائح المجتمع، وبسط الحرية بكل مفرداتها، ويترك لمنظمات المجتمع المدني والأحزاب التعامل مع الطيف السياسي وأطروحته.
بعد الحرب العالمية الثانية طرحت بعض الجهات الأمريكية ما عرف باجثاث النازية Entnazifizierung، ولكن لم ترد في الدستور الألماني كمادة أو فقرة، والغريب أن الأحزاب اليسارية والشيوعية كانت أكثر المتحمسين لهذا الطرح؛ علماً أن المكارثية كانت تشن على اليساريين والشيوعيين حرباً تفتيشية وكان التروتسكيون، الذين لا يؤمنون بالديمقراطية أصلاً، هم من رفعوا شعار لا ديمقراطية لأعداء الديموقراطية، ولكن العقلاء وأنصار الحرية رفضوا هذا الطرح ودعوا إلى مجابهة الفكر بالفكر، وعلى الدولة ومؤسساتها أن تنحى بنفسها بعيداً عن هذا الشأن، وإننا نرى بعد مضي نصف قرن على هذه الفكر الاستئصالي لا تزال أحزاب شمولية تتبنى الطرح العنصري، ولكن لم يتوصل أي منها إلى تمثيل معتبر في البرلمانات الغربية فضلاً عن الوصول إلى أغلبية تمكنها من السلطة.
أضيف لهذا الفهم العدواني السقيم مفهوم (الإرهاب )، والبعث الصدامي، والكل يعرف أن هذه المصطلحات من جعبة العقيدة القتالية لليمين الصهيوني- تفسر وتؤول حسب حاجة هذا الفريق العدواني الذي لا يتوقف عن اصطناع العداوة والبغضاء بين الناس، وهكذا يصبح العراق ساحة لحرب داحس والغبراء والبسوس وثارات الحسين(رض)؛ خاصة وأن الجيش غير الوطني، الذي سيضطلع مع أجهزت المخابرات " بالأمن" سيجد في هذه المادة الدستورية "الشرعية" لتبرير القمع والإذلال. أريد أن أسأل أصحاب الذقون والعمائم الخضراء والبيضاء والسوداء، وأنا الحليق ذو الثياب الإفرنجية، ما فائدة المادة 2 من مسودة الدستور التي ترسم:
المادة (2):
اولاً - الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساسي للتشريع، ولا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابته وأحكامه.
ثانياً - لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية ولا مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور.
ثالثاً - يحترم هذا الدستور الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي، ويضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية.
من ثوابت الدين منع الظلم والعدوان 'وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين' من ثوابت التربية الدنية والإسلامية الصبر على المكروه والتفاؤل بالصلح "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم" ومن الثوابت أيضاً: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي"؛
بل أوجب العدل- حتي عندما تشتد العداوة والبغضاء وتصل إلى حد الشنآن "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى ". بل هدى القرآن الكريم إلى آليات في فض الخصومات وإحقاق الحق: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين"، فلم يجعل المهزوم عسكرياً كلأً مباحاً للمنتصر، بل أوجب العدل في كل الحالات.
لنفرض جدلاً أن الديمقراطية مبادئ، كما تقول الفقرة الثانية من المادة الثانية من مسودة الدستور- مع أن الديمقراطية مجرد آليات قد تسهم في التعايش والتبادل السلمي للسلطة بين شرائح المجتمع الواحد والمجتمعات المختلفة. فهل من مبادئ الديمقراطية تقسيم المجتمع إلى فسطاطين أو جعله ملل ونحل وفرق متطاحنة؟. أحب أن أذكر من جعلوا الدين والسياسة أتباع رجل، حتى لو كان هذا الرجل بريمر أو بوش، أن الإمام علي (رض) كان الأحرص ولأفقه لهدي الفران والسنة المطهرة؛ لهذا نجده يقف من الذين تدججوا بالسلاح بعد أن شقوا عصى الطاعة عليه، وناصبوه العداء من خوارج حروراء غير البعيدة عن الكوفة، فلم يبتدرهم القتال، بل أقر لهم بحق الخلاف والتجمع، ولم يمنعهم مساجد الله أو نصيبهم من الفيء والأعطيات- حتى إذا باشروا العدوان قولاً وعملاً رد عدوانهم وفتت شملهم. أما الذين ينتسبون اليوم إلى الإمام، زوراً وبهتاناً، يجيشون الجيوش، ويسيرون الفيالق ويطلبون النصرة من شعوبيين إيران وجحافل الأمريكان- إنها الحرب على الإرهاب التي لا يرقبوا بالمؤمنين إلاً ولا ذمة، بل هم قوم عادون.
إن المادة 9 من الباب الأول من مسودة الدستور تكريس للعدوان، وانتهاك لحرية الإنسان، وإقامة محاكم التفتيش، وإفشاء التحسس والتجسس، المنهي عنه في صريح القرآن: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيرا منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون. "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم. الحجرات 11 "أو كما قال رسول الله (ص): إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا ـ وأشار الى صدره ـ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله- رواه مسلم. من هنا لا نجد مناصاً من المطالبة بإلغاء هذه المادة جملة وتفصيلاً، وعدم الالتفاف عليها أو البحث عن بديل لها.
أعجب ما يقرأ المهتمون بالشأن الدستوري، وخاصة ما يتعلق بمدأ المساواة، أحد بني الدستور الأساسية، المادة 41 من الباب الثاني. ترسم المادة ما يلي:
المادة (41):
اولاً- يشترط في رئيس مجلس الوزراء الشروط اللازم توافرها برئيس الجمهورية، وان يكون حائزاً الشهادة الجامعية او ما يعادلها، وأتم الخامسة والثلاثين من عمره.
ثانياً- يشترط في الوزير الشروط اللازم توافرها في مرشحي الجمعية الوطنية، وان يكون حائزاً الشهادة الجامعية او ما يعادلها.
إن اشتراط سن معينة وحيازة شهادة جامعية لمن ’يرشح لتسنم رئاسة الوزراء أو وزيرا-ً من غرائب الفكر الدستوري، الذي يتناقض مع مبدأ (المساواة)، فالأمر لا يتعلق بمنصب إداري أو فني يقتضي الاختصاص والخبرة ويخضع الاختيار لمبدأ تكافؤ الفرص للمرشحين لهذا المنصب، بل الأمر يتعلق بممارسة السلطة، والشرط الحاسم والوحيد هو: أن يكون أحد أعضاء السلطة التشريعية، ويحصل على أغلبية أصوات الجمعية، التي تعتبر المؤهل الوحيد لهذا المنصب؛ إذ الأمية أو العاهة الجسدية أو السن لا تعتبر شرطاً مانعاً من ممارسة حق النائب الذي يحصل على أغلبية الأصوات من أن يكون وزيراً أو رئيساً للوزراء. إن هذه النقطة، على أهميتها، تعتبر من اللمم، وقد أشرنا إلى الكبائر أنفاً.
القراءة السياسية لمسودة الدستور العراقي:
إن البصمات الأمريكية من (آل) بريمر وعصابة اليمين المتطرف، وكذلك بصمات إيران القومية وأخدانها من الشعوبيين- واضحة المعالم في مسودة الدستور العراقي. أما الرومانسيات القومية العنصرية المتحالفة مع العنصرية الأم، وأعني الصهيونية، فلا تخطئها عين السياسي الحصيف.
الفيدرالية على أرض الرافدين:
من حق الشعب العراقي الذي عاني في ظل المركزية الشمولية أن يبحث عن حل لهذه الإشكالية، وقد أشرنا إلى مثل هذه الحلول الممكنة والعملية؛ انطلاقاً مما هو قائم (نظام المحافظات)، وتطويره ليكون أفضل أداءً وأكثر عدلاً وأوفر إنجازاً. هذا الحل يتطلب إرادة سياسية حازمة؛ نابعة عن صدق التوجه والثقة المتبادلة عند الأطراف المعنية، وهي للأسف تكاد تكون معدومة. فالقيادات الحالية في الشمال والجنوب لها ارتباطاتها السياسية والتاريخية ما يملي عليها أجندة وسياسات لا تتفق ووحدة التراب الوطني والسيادة عليه من قبل سلطة مركزية تكون موضع إجماع عند أهل العقد والحل الممثلين بصدق لكافة مناطق البلاد. هناك أطماع وإرادات خارجية يسعى اللاعبون الحاليون على الساحة الجنوبية والشمالية لتوظيفها لمشاريع لا يعرفون أو يستطيعون تصور أبعادها. هذه المشاريع ليس مجرد أحلام وأطماع عند أهل الخارج، وأوهام ونرجسية سلطوية عند أهل الداخل. إنها كوارث حقيقية ستعصف بالداخل والخارج بل ستعصف بالإنسان نفسه وتعيدوه إلى الجاهلية الأولى.
الطامعين، منصوبة على الاختصاص، في أرض العراق من الخارج يسعون لإقامة (محميات) Protektorat/Protectorate تسوّق على أنها فيدرالية أو فيدراليات؛ فهمها الشعب العراقي بدقة وحصافة على أنها (تقسيم العراق). لننظر إلى مشرع محمية الشمال الكردية، وهي كذلك منذ نهاية حرب الخليج الثانية- التي لم تضع بعد أوزارها. يقرأ قادة الكرد الجدد تاريخ المنطقة، بعد الحرب العالمية الأولى، وما تلاها من معاهدات أملتها إرادة المنتصر بهذه الحرب، كمعاهدة (سفر) ثم (لوزان)، أن هناك وعد ورغبة عند الحلفاء لإقامة دولة كردية في المنطقة التي يطلق عليها كردستان، ثم تآمر الغرب نفسه على مشروع الدولة الكردية الموعودة !؟ إن هذه القراءة "العصرية الحداثية" التي تتماهى وتستعطف المشروع الصهيوني وأنصاره (وعد بلفور) تنقضها بل وتكذبها وقائع تاريخ الشعب الكردي نفسه. في تركيا مثلاً: كان الكرد في عمومهم كارهين للحكام الجدد من الأتاتوركيين وازدادت نقمتهم على الدولة بعد أن ألغى كمال أتاتورك الخلافة، ففصم بذلك العروة التي كانت تربط بين الكرد والدولة التركية. وفي 13. شباط عام 1925 رفع الشيخ سعيد النقشبندي، شيخ الطريقة النقشبندية لواء الثورة. فسانده نبلاء وأعيان وسراة الكرد، فسرت ثورة الشيخ الجليل كالنار في الهشيم. امتدت الثورة إلى كافة الولايات الشرقية الثلاثة، حيث يؤلف الكرد أغلبية السكان. طالب الثائرون بإعادة الخلافة وتنصيب الأمير سليم بن عبد الحميد خليفة وسلطاناً. وخوفاً من تعاطف بقية أبناء الأمة مع الثورة ’أعلنت الأحكام العرفية في أرجاء كثيرة من البلاد، وخاصة في مدينة استانبول. تمكن الثوار في 7 آذار (مارس) من انتزاع مدينة ( ديار بكر)، ولكن القوات الموالية للحكومة استطاعت استنقاذها من يد الثوار. وارتكبت القوات الأتاتوركية مجاز فظيعة ضد الكرد بشكل عام، والمشايخ والعلماء بشكل خاص، وأدرك قادة الثورة أن مواصلة الثورة أمر صعب، حيث قذف الاتحاد السوفيت، بقيادة ستالين، بكل ثقله في المعركة، و’قدم للذئب الأغبر، هكذا كان يلقب كمال أتاتورك، العتاد والسلاح، وفي حزيران وقع الشيخ في الأسر ليعدم بعدها في أنقره، وفي عام 1929 قام الكرد بثورة أخرى في إقليم أرارات وكذلك في محيط بحيرة "وان "، ولكن الحكومة سيرت قوات ضخمة وأخمدت الثورة على وجه السرعة. ولتجنب نشوب ثورات جديدة في المستقبل. قامت الدولة بإبعاد المواطنين عن موطنهم الأصلي، حيث ’نقل الكرد إلى تراقيا الشرقية. كما قامت بعمليات تتريك قاسية وقسرية، كمنع الكرد، في الأماكن العامة، التحدث إلى بعضهم البعض باللغة الكردية. هذه الاجراءت غير الإنسانية لم تتوقف إلا بعد الضغوط اللا متناهية من قبل أهل العدل والنصفة على امتداد الساحة العالمية، ومع هذا يمكن القول أن توقف سياسة الإكراه والظلم والقسوة ضد الكرد كان استجابة للضغوط الخارجية على الدولة التركية ومؤسساتها القمعية في السنتين الأخرتين. يمكن أن تكون سياسة المهادنة هذه عبارة عن سحابة صيف تنقشع مع تزايد الحاجة الغربية إلى الهراوة والعسكراتية التركية. إذا استثنينا مؤسسات الدولة العلمانية والشريحة القومية المتعصبة، فإن الشعب التركي كان رافضاً لكل هذه الإجراءات الظالمة ضد إخوانهم الكرد. يمكن القول بكل تقه، ومن وجهة نظر المؤرخين السياسيين، أن جهاد الشعب الكردي، وحتى الستينيات، لا يمكن تصنيفه في خانة النضال القومي أو اليساري القومي، بل في خانة إعادة "الخلافة العثمانية" حيث اعتبر قادة الكرد أنفسهم جزء منها، بل حماتها من خلال الفرسان الحميدية.
في إيران الأمر مختلف: أعتبر الحكم الشاهنشاهي من(1925-1979) الكرد أحد الركائز التي تقوم عليها الدولة الشاهنشاهية انطلاقاً من مقولة: أن الكرد يتكلمون لغة فارسية- مما يجعلهم جزءاً أساس من الأمة الإيرانية، ولهذا لا يسري عليهم قانون الأقليات. خلال الحرب العالمية الثانية، مكن تواجد القوات السوفيتية في شمال غرب إيران من عام ( 1941-1946 )، القوى الانفصالية، والقومية، واليسارية، من التمرد على السلطة المركزية وإعلان الاستقلال عن الحكومة المركزية، وهكذا أعلن القاضي غازي محمد في كانون الثاني (يناير) عام 1946 مولد جمهورية (مها باد) وعين الملا مصطفى والبرزاني وزيراً للدفاع وقائداً للجيش الوليد. إلا أن القوات الشاهنشاهية تمكنت من إعادة سيطرتها على المنطقة، بعد أن تخلى السوفيت عن القاضي غازي محمد. ألقت قوات الشاه القبض على القاضي وحكمت عليه فوراً بالموت شنقاً وعلق في الساحة الرئيسية في مدينة ( ماهاباد)، وفر الملا مصطفى والبرزاني إلى الاتحاد، ليعود إلى العراق بعد ثورة تموز عام 1958 يحمل رتبة جنرال، ويصطحب معه زوجتين روسيتين، وهكذا وئد أمل اليساريين والقوميين من كرد إيران في المهد. لم يكن للكرد دوراً يذكر في دعم ومساندة مصدق لتحرير إيران من الهيمنة الأجنبية، واستنقاذ ثرواتها النفطية من مخالب النهب والسلب الأنكلوأمريكية، إلا أن الكرد نشطوا مع مطلع الثورة الإيرانية عام 1979 ضد حكم الشاه البغيض، وانطلقت القوى اليسارية والقومية تطالب بحكم ذاتي وحقوق خاصة بهم كأقلية،. ومع بداية عام 1980 دخلت قوى المقاومة من الكرد في مواجهة دامية مع الثورة وحماتها..إن مطالب الكرد كانت تصطدم مع مسلمات الثورة ودستور الجمهورية الإسلامية، الذي يقر فقط لغير المسلمين بحقوق الأقلية ( تأويل جديد لما كان يمارس ضد الكرد أيام الشاه )، ولكن القوى الإسلامية الكردية السنية كان لها مطالب تتعلق بالمساجد وأموال الوقف ونصيب الكرد من الثورة النفطية، قوبلت هذه المطالب بالرفض وسجن الشيخ زاده حتى موته
الكرد في العراق وسوريا.
كان للكرد، قبل أن تبسط بريطانيا سلطانها كدولة منتدبة على العراق، معارك طاحنة مع الآشوريين، فلما دخلت بريطانيا إلى العراق اتخذت من الآشوريين جنودًا لهاً بجعالة معينة، ولما ثار الكرد علي بريطانيا والحكومة العراقية اتخذت بريطانيا الجنود الآشوريين كقوة عسكرية لقمع العديد من التمردات التي أشعلها الكرد. فلما ضعف النفوذ البريطاني فقد الآشوريون المعاملة الخاصة التي ألفوها، فلم يكن منهم إلا أن انساقوا، بطيش وتهّور، إلى الثورة على الحكومة الوطنية، ولكن العميد ( الزعيم ) بكر صدقي أخمد ثورتهم بقسوة بالغة.
كانت الحكومة الملكية في العراق حريصة على الحياد الديني والقومي، وليس كما يدّعي البعض أنها كانت تحابي العرب على غير العرب أو السنة على الشيعة. وأفضل دليل على حيادية الدولة فصل الأستاذ أنيس زكريا النصولي، السوري الأصل من عمله، وكان يعمل أستاذاً للتاريخ في دار المعلمين حتى عام 1927؛ لوضعه كتاباً يمجد فيه الأمويين.
في الخمسينيات من القرن المنصرم دخل العراق والمنطقة العربية، بل ومنطقة الشرق الأوسط في دوامة الصراع بين دول الغرب الرأسمالية من جهة وروسيا والصين ودول أوربا الشرقية الشيوعية من جهة أخرى. سعت أمريكا وبريطانيا إلى تطويق الاتحاد السوفيتي بسلسة من الأحلاف العسكرية. فطبق دالس، وزير خارجية الولايات المتحد الأمريكية آنذاك، مقولة الرئيس بوش اليوم " من ليس معنا فهو ضدنا ". أكرهت بريطانيا العراق على الدخول في أحلاف عسكرية وانتهاج سياسة " رجعية " استفزت الطليعة المثقفة في العراق و العالم العربي. مع ذلك كان، على الجانب الآخر من الخط الحدودي، خط سايكس - بيكو الذي يفصل العراق عن سورية، ساسة من السوريين يرون أن التقارب بين العراق وسوريا يجب أن يكون من أولياتهم السياسة، بل الوحدة بين القطرين هدف يجب السعي إليه بكل قوة. هذه الفكرة كانت موضع إجماع عند قادة حزب الشعب، فانظم إليهم سراً الأستاذ جلال السيد، أحد مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي، وأخيه سعيد السيد، الذي كان وزير ثم سفيراً لسورية، ولكن المد الناصري أفسد ذلك التوجه الحكيم وزج بكل من سوريا والعراق في أتون الأنظمة الشمولية القمعية.
الكرد لم يكن لهم دور في تأجيج أو إخماد نار الصراع على النفوذ في المنطقة حتى قيام ثورة 14 من تموز " الخالدة " عام 1958. انظم الكرد إلى الثورة وقدموا الدعم لها في اللحظة التي بدأت الثورة تأكل أبناءها وتنحو نحواً مضاداً للتوجه الوحدوي العربي، ولعل السبب يرجع إلى أن زعامة الثورة وزمام الأمر أصبح في يد عبد الكريم قاسم الشعوبي الكردي الفليلي. لا أعتقد أن مثل هذا القرار كان من صنع أهل الحل والعقد عند الكرد، كما أنه لم يكن في صالح الكرد. لقد كان من إملاء ات الحزب الشيوعي العراقي الذي أصبح مربد الشعوبية وحاضنة الحقد الطبقي، ولسان حال الدهماء والرعاع من أنصاف المثقفين. وقصائد السياب، الشاعر العراقي الفذ، خير شاهد على ما ذهبنا إليه في وصفهم.
الثورة التي أطاحت بالملكية أصدرت دستوراً أقر بالحقوق القومية للكرد. هذه الفقرة بالذات هي نسخة عن مثيلاتها في دستور الاتحاد السوفيتي أو الدول الشمولية الأخرى. وقبل الملا مصطفى والبرزاني بذلك. ولما وضع الدستور موضع التنفيذ كانت خيبة الآمل كبيرة جدا-ً مما دفع الكرد للثورة على الحكومة المركزية واستمر التمرد منذ عام 1961- 1970 مع فترات متقطعة من الهدوء النسبي تفرضها ظروف الميرة والمزاج السياسي ومصلحة الدول التي كانت تمير التمرد بالمال والسلاح والعتاد. وبدون أدنى وجل نقول: إن الممول كان خليط غريب جداً ( دول المنظومة الاشتراكية، إيران الشاه، إسرائيل ).
في السبعينات كانت إحدى الشركات التابعة للموساد الإسرائيلي، والمختصة في الأمن والحماية، تتولى حماية الثائر الكردي الملا مصطفى البر زاني. هل كان البرزاني لا يثق بالمليشيات الكردية لدرجة دفعته إلى الاستعانة بالصهاينة في أخص خصوصياته ؟ أم أن الأمر يتجاوز الإطار الشخصي ليصل إلى التعاون الاستراتيجي ؟ . إن أي محاولة لنفي هذه الواقعة أو حتى تبريرها يعد من سقط المتاع وسخف المنطق. إن تعاونناً صهيونيأ وبعض القيادات الكردية هي حقيقة يجب أخذها بالحسبان عند التعامل مع المسألة الكردية. يحاول بعض قادة الكرد تسويق التعاون مع الصهاينة بالقول إن معظم الدول العربية وتركيا تتعاون سراً وعلانية مع إسرائيل. فلماذا تحّرمون علي الكرد ما أنتم له فاعلون؟. نحن ننظر للأمور من زاوية الحق والعدل أولاً ... فإجماع الناس على إقرار الظلم والمنكر والشر لا يعطي المظالم والمنكرات والشرور أي شرعية ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ). كما ننظر للأمر من زاوية مصلحة الأمة، والكرد من الأمة، كما أن ليس للكرد مصلحة في التقرب إلى الصهاينة وإسرائيل.
في عام 1970 أجرت الحكومة العراقية تعديلاً على الدستور؛ يضع الكرد كقومية إلى جانب العرب في الدولة العراقية، وفي عام 1974طبقت الدولة على محافظات، داهوك، السليمانية، وأربيل نظام الحكم الذاتي من جانب واحد على مساحة قدرها 34.051 كم مربع . ولكن الزعامة الكردية رفضت ذلك وأعلنت التمرد بقيادة البر زاني مرة أخرى. توقف التمرد عملياً في آذار (مارس) عام 1975 بعد اتفاق الجزائر بين الحكومة العراقية وحكومة الشاة، التي أوقفت الدعم الذي كانت تقدمه للكرد بقيادة الملا مصطفى البرزاني الذي توفي في 1. 3. 1979 في مستشفى جورج تاون في الولايات المتحدة الأمريكية. تجددت الاضطرابات والتحالفات في المناطق الكردية مع قيام حرب الخليج الثانية، متناغمة مع منطق الحرب في الكر والفر، حيث كان إلى جانب الحكومة العراقية أكثر من 300 ألف مسلح أطلق عليهم (الجحوش) يتلقون رواتب أو ’جعالات من حكومة صدام حسين، كما دعمت كل من إيران وإسرائيل، كل على شاكلته، حركة التمرد الكردية. إن الدمار والقتل الذي وقع في شمال العراق يكتب ويحسب على منطق الحرب ويتحمل كل أطراف الحرب قسطاً منه، ولكن المنهزم يتحمل كل تبعاته، وعليه أن يدفع الفاتورة كاملة وهكذا كان، ولكن بعد خسارة العراق حرب الخليج الثانية.
بعد نهاية حرب الخليج الثانية فرضت أمريكا وإنكلترا مناطق الحظر الجوي على جنوب وشمال العراق، فاستغلت القيادة الكردية (البرزاني والطلباني) الأمر القائم لإقامة ما تعتقده "حقائق" على أرض الواقع، كإجراء انتخابات، وتشكيل حكومة محلية..الخ. بعد اجتياح العراق من قبل القوات الأمريكية والبريطانية، وسقوط بغداد التكتيكي، وظهور المقاومة العراقية، وتزايد الرفض الشعبي لسياسة الاحتلال. بدا واضحاً أن كل ما أنجزته سياسة العدوان الأمريكية من أعمال عسكرية في العراق وأفغانستان- يصب في خانة القوى المحلية المتربصة بالعراق، وخاصة إيران، كما أن سير المعارك السياسية والعسكرية كشف أن الولايات المتحدة الأمريكية عبارة عن قوة غاشمة غير حضارية، ونمر ورقي لا يعي من أمور المنطقة إلا ما قدمته أداة التضليل الصهيونية وعضاريط الشعوبية من أمنيات وأوهام لا تصلح إلا لتدمير الحضارة والإنسان.
المشرع الكردي الطموح في إقامة كيان مستقل- يكون نواة لدولة كردية على مجموع أراضي كردستان؛ يحاكي المشروع الصهيوني. هو من المشاريع الخرافية التي أفرزتها حثالة الفكر القومي العنصري - تغذيه فلول الفكر الستاليني، الذي انقلب بين عشية وضحاها إلى فكر بائس متشدق ومتسول على أعتاب اللبرالية الجديدة. إن أقصى ما يسعى إليه قادة الكرد الجدد هو إقامة محمية عشائرية مافوية تبسط سلطانها على الشعب الكردي البائس، كبقية أبناء الشعب العراقي، بعد الاحتلال، وهذا جزاء من رهن عقله وضميره لسلطان جائر أو عدو غاشم.
المشكلة، كما يراها زميلي أستاذ التاريخ (لينز)، الذي عاش بين ظهرانين الكرد، في العقلية التي يتعامل بها زعماء الكرد الجدد مع الاحتلال والحلفاء، وهي عقلية طفل شرير انتدبه أقرانه، لخبثه، أن يكون ناطقاً باسمهم ومطالباً بحقوقهم، فأخذ يبالغ ويستفز ويحتال ليحصل على أكبر غنيمة لنفسه فقط. الحيلة والمكر عندهم، أي القادة الجدد، دين وصنعة، وفي قرارات أنفسهم يحتقرون حتى أبناء جلدتهم. تقابل هذه العقلية العقيمة-عقلية الغرب التاريخية، فالغرب يعيش الواقع كما هو، ويعيش معه أوهام عدو لا يتوقف عن محاولة إفساد المستقبل، فهاجس الخوف من ذلك العدو الموهوم، وللقضاء على ذلك العدو- يجعله يتحالف مع أكثر الناس حطة وغدراً وشروراً، فهو يريد أن ينتقم ويتأكد من عذاب وفناء عدوه الموهوم، ولهذا كان دعم الطغاة والمستبدين والمفسدين في الأرض مبرر نفسياً، فساسة الغرب وأصحاب القرار فيه- لا يستهويهم الحكمة والود والتعاون الذي يلبي مصلحة الطرفين، بل ذلك الشيطان الدموي الذي يخيف عدوهم الموهوم ويجهز عليه؛ على قاعدة " الأفضل أن تكون مهاباً من أن تكون محبوباً". إن إخراج الشعب الكردي من هذه اللعبة الشيطانية والمدمرة، حسب رأي الزميل، هو دعم التوجهات الإسلامية الواعية، فهي الأقدر على مقارعة الفكر الاستئصالي الذي تفرزه حياة الشقاء الريفية والرعوية، التي تسم حياة معظم سكان منطقة كردستان. التنمية والتواصل مع المناطق الصناعية والغنية في عمق العالم الإسلامي هو المناخ الملائم لازدهار العقلية التعاقدية والقبول بالآخر. لا أعتقد أن الكرد الذين يعيشون في الحواضر الإسلامية كأنقرة واستنبول ودمشق وبغداد يشاركون قادة الكرد في كردستان، الجبلية الوعرة والفقيرة، تطلعاتهم في إقامة محمية أو محميات تسوسها هذه العقلية الإستئصالية، وأعتقد إن معظمهم لديه نفس الخوف والتوجسات التي لدى غير الكرد من العرب والترك.
الأمر يختلف كلياً في شأن المحمية الشيعية التي تروج لها مرجعيات شيعية غير عربية، فارسية أو هندية أو باكستانية، فوراء هذه المحمية، التي يطلق عليها الفيدرالية زخم شعوبي عميق الجذور؛ يغذيه ظلامية دينية متجذرة- يدفعها أصحاب المال والأعمال المتواجدين على امتداد الساحة العالمية. إن المدن المقدسة، عند الشيعة، كربلاء، النجف، الكوفة، والمقامات المقدسة في بغداد، وسامراء ليس للتبرك فقط، وإنما لبناء صروح اقتصادية وبرنس معتبر. الفكرة تعود إلى ما قبل الإسلام، حيث المعابد المجوسية كانت بنفس الوقت صروح اقتصادية عظيمة تستغل الدوافع الفطرية نحو الحياة الروحية أيما استغلال. التشخيص الدقيق لهذه الظاهرة جاء على لسان ربعي بن العامر- مخاطبا هرمز عظيم الفرس: لقد جئنا لنخرجكم من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. أي عبودية أعظم من أن يجعل الإنسان مصيره في الدنيا والآخرة رهن عرفان وهوي عبد من عباد الله لا يملك لنفسه شيئاً. لقد كانت سياسة الصفويين محكومة برغبة جامحة لوضع جنوب العراق، وخاصة المدن المقدسة تحت سلطانهم الظلامي الجائر، والكربلاءيون والنجفيون والكوفيون عانوا من المتسكعة والدراويش وغيرهم من الهنود والإيرانيين الشئ الكثير، والآن جاء دور الحيتان الكبيرة، التي تريد إقامة الفنادق، والسبر ماركة، وتنظم الرحلات الجوية والبرية والبحرية لاستقدام ليس الأحياء فحسب، بل والأموات أيضاً؛ لأن من يدفن في كربلاء شأن عظيم في الحياة الآخرة. والكربلاءيون والنجفيون وكل أهل العراق- خائفون على أملاكهم من تلك الحيتان الإيرانية والباكستانية والهندية والأفغانية الكبيرة، ومن ذلك الزحف "المقدس" على أخلاقهم العربية الأصيلة. فيدرالية الحكيم السستانية هي محمية إيرانية تهدد ليس فقط عروبة العراق، والتشيع لآل بيت رسول الله (ص) فقط، بل وتهدد الإسلام نفسه. إن الاستئثار بنفط الجنوب سيكون حصيلة حاصل؛ لتغير ديموغرافي يطال منطقة الخليج والجزيرة العربية. فهل يرى قادة الكرد الصعاليك هذا ثم يصرون على رفض الانتماء العربي للعراق، أم هم في صغائرهم وكبائرهم يعمهون، مثلهم كمثل كل حكام العرب وخاصة أهل الجزيرة العربية الذين أمدوا الاحتلال بملياردات الدولارات.
مسودة الدستور العراقي ليس نذير شؤم في شأن الفدرالية فقط. بل بشكل السلطة وممارستها في المستقبل.
تنص المادة الأولى من مسودة الدستور:
المادة (1):
العراق دولة مستقلة ذات سيادة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي اتحادي.
إن أهم خطوة إجرائية يجب القيام بها للوصول إلى نظام حكم جمهوري نيابي، كما تنص المادة الأولى من مسودة الدستور، أن تحدد المواد الدستورية اللاحقة، وبدقة متناهية العناصر المكونة للجسم السياسي الذي يجعل من السلطة في العراق منبثقة ومعبر أصدق تعبير عن إرادة الشعب العراقي، وهذا يعني بالضرورة أن تبدأ العملية الديمقراطية من الأسفل إلى الأعلى، تماماً كما فعل المشّرع الألماني عندما طالب في المادة 21 من الدستور أن تشكل الأحزاب وفق آليات ديمقراطية، وجعل الأحزاب مسؤول عن أعضائها مسؤولية سياسية، كما طالبها بالكشف عن ميزانيتها ومصدر وكمية الأموال التي تلقتها، وطرق صرفها، كما يجب أن يعرف الناخب القصد والهدف الذي يسعى إليه الحزب، ومطابقة هذه المقاصد مع مقاصد وأهداف الدستور.
إن كل دساتير العالم تتضمن مبادئ عامة متفق عليها، حتى لو كانت الدولة بمنتهى الشمولية والطغيان. الفرق الجوهري بين دساتير النظم الشمولية ودساتير النظم الديمقراطية هو: إن الدساتير الديموقراطية تربط بين المبدأ والجهة والوسيلة رابطاً محكماً واضحاً وجلياً، بحيث لو اهتزت أي مادة تتعلق بالمبدأ او الجهة أو الوسيلة- اهتز البنيان الدستوري برمته، كما لا تدع أي مجال للانتقائية. وهذه الشروط لم تتوفر في بنية مسودة الدستور العراقي، ولا حتى بحدودها الدنيا؛ ويقرأ أهل الاختصاص في مسودة الدستور- ليس إمكانية حدوث الانتقائية فحسب، بل إمكانية تقوّل وتغوّل سلطة على سلطة، وذلك حسب موازين القوى الفعلية. إلا أن بيت القصيد في العملية الديمقراطية الدستورية- يبقى دائماً العملية الانتخابية نفسها إضافة إلى الآلية السلمية لتداول السلطة. لهذا يكتسب قانون الانتخابات والإجراءات الانتخابية، في العملية الديمقراطية وإقامة السلطة الشرعية قيمة جوهرية، فهي بمثابة الكيل والميزان في البيع، وكما أن البيع لا يستقيم إلا بكيل وميزان قسط، فكذلك إقامة الشرعية. الشرعية، بإجماع جمهور الفقهاء، لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضاء بها عاماً والتسليم بها اجماعاً. وهذا جوهر العملية الديمقراطية وإن اختلف صياغة ونطقاً.
إن تجربة الشعب العراقي مع مهزلة انتخابات الجمعية الوطنية في 30/1/2005، والاستعدادات النشطة لتكرار المهزلة مرة أخرى يدعونا لنذكر القارئ الكريم ببعض فصولها:
1- لقد كانت انتخابات 30/1/2005 عملية سطو على إرادة الشعب العراقي، بالوسائل شبه الشرعية، وغير الشرعية. لم يتورع القائمين عليها من تدمير مدينه كاملة (الفلوجه) وأحياء كاملة في مدن أخرى. أزهقت آلاف النفوس البريئة وشردت آلاف الأسر، أو أخرجوا عنوة من ديارهم.
2- بدأت عملية السطو بقانون انتخابات صمم خصيصاً؛ لتمكنين الشعوبيين وعملاء أمريكا من مقاليد السلطة- اعتبار العراق دائرة انتخابية واحدة على غرار ما جري في إسرائيل بعد التمكين لها في فلسطين. هذه الآلية تطبق فقط في دائرة صغير لا تتجاوز القرية أو المدينة الصغيره. وليس في دولة مثل العراق؛ فضلاً عن التستر على أسماء المرشحين المنبوذين وموقعهم على القائمة الانتخابية.
3- القيام بأعمال استفزازية تدفع بالمواطنين الشرفاء أن ينأوا بأنفسهم عن المشاركة بالعملية الانتخابية وعدم توفير أبسط متطلبات الآمان في الكثير من المحافظات عن قصد وسابق إصرار.
لقد كتبت قبل إجراء الانتخابات بحوالى 100 يوم مقالا مطولاً عن الانتخابات العراقية، وما يبيت للعراق والشعب العراقي من خلال هذه العملية، وبمزيد من الأسى، فقد وقع أسوء مما كنت أتوقع، ولذا أحب أن أختم هذا البحث ببعض الأفكار التي قد تسهم وتقودنا، إذا تلاقحت مع أفكار أخرى، إلى ما هو أقوم.
1- على القوى الوطنية والإسلامية أن ترفض مسودة الدستور جملة وتفصيلاً.
2- العمل على إيجاد إجماع وطني يكره المحتل على وضع جدول زمني لانسحاب قواته - يعرض على الأمم المتحدة ومجلس الأمن- لاعتماده كوثيقة ملزمة لقوى الاحتلال.
3- اعتماد وثيقة للحقوق والسلم الأهلي تتضمن فقط الحقوق الأساسية المتعارف عليها دولباً
4- إعلان دولي يرسم: أن العراق جمهورية مستقلة، ديمقراطية برلمانية، واجتماعية ذات سيادة- تتعهد الأمم المتحدة والجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي بسيادتها ووحدة أراضيها، كما تتعهد بتقديم الدعم الفني والمادي لبناء مؤسساتها الدستورية.
5- العمل فوراً على إعداد قانون انتخابات يكون مطابقاً لقانون الانتخابات المعمول به في جمهورية ألمانيا الاتحادية، حيث تعامل المحافظات العراقية، في الإجراءات الانتخابية، كما تعامل الولايات في جمهورية ألمانيا الاتحادية، وتراعي كافة الإجراءات الفنية المعتمدة في ألمانيا.
6- أن تتم العميلة الانتخابية لانتخاب الجمعية الوطنية متزامن مع خروج القوات المحتلة- لتبدأ ممارسة مهامها كهيئة تأسيسية وكجمعية وطنية مع خروج آخر جندي من جنود الاحتلال عن أرض الوطن.
7- إن الشعب العراقي هو مصدر السلطات، ولا يحق لأي فرد أو جماعة ممارسة السلطة والأمر إلا بتفوض من الشعب عبر إجراءات ديمقراطية معتبرة ومحكمة.
إن المقاومة المسلحة شرط لازم- ولكن غير كافي؛ لتحقيق الهدف المنشود، ولا بد من العمل السياسي العام المضفي إلى سياسات وإجراءات عملية حازمة على أرض الواقع، وإن من أولى واجبات القوى والفعاليات العربية والإسلامية رفد نضال الشعب العراقي بالفعل الصادق والعمل الدؤوب.