ولماذا الغرور

نقول للحكام والمحكومين :

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

أعتقد أنه ليس فينا إلا من تعامل ، أو تحدث ، أو التقى ــ ذات يوم ــ بشخصية غير سوية ، أي خارجة على منطق العقل ، وقيم الدين ، وأعراف المجتمع .

 فمن هذه الشخصيات : شخصية المهمل اللااكتراثي الذي يستثقل العمل ، ويؤثر الكسل والاسترخاء ، ولا يقدر العواقب ، أو يعمل للنتائج أي حساب .

 ومن هؤلاء : شخصية المنافق الوصولي الذي يستمرئ الكذب والمجاملة في سبيل نفع دنيوي مادي على حساب عزة النفس ، ونقاء الضمير .

 ومن هؤلاء : شخصية لا تخفى على أحد ، وهي المغرور . وقد جعلناها موضوع مقالنا هذا .

 *********

 والغرور ــ في إيجاز شديد ــ آفة نفسية تعتمد على سوء التقدير في النظر إلى الذات ، من ناحية ، والنظر إلى الآخرين من ناحية أخرى . فالمغرور يرى في ذاته أبعادا ، وإمكانات ، وقدرات لا تملكها نفسه ، أو تفوق بكثير ما تملكه نفسه في واقعه .

 وعلى سبيل التمثيل : يرى المغرور في نفسه ذكيا ألمعيا ، مع أنه لا يملك أي قدر من الذكاء ، أو الألمعية . وإن كان يملك حظا من ذلك فهو يرى في نفسه أذكى الأذكياء ، وعبقري العباقرة .

 وهذه النظرة " التضخيمية " لواقع الذات يترتب عليها بالتبعية أن ينظر المغرور إلى الآخرين نظرة مناقضة : فهم في نظره أقل مستوى ، وأضعف قدرة حتى لو كانوا يتفوقون عليه في مجالاتهم ، ومجالاته أضعافا مضاعفة .

 وقد يتضخم هذا الشعور بالغرور فيصل إلى درجة " التورم الخبيث "، أو ما اصطلح علماء النفس على تسميته " بالنرجسية " أو " توثين الذات " . ولهذا المرض الخبيث أعراض نفسية متعددة لا يتسع مقامنا هنا لذكرها وتعدادها .

*********

 وإذا نظرنا إلى معاجم اللغة قرأنا فيها الاستعملات الأتية :

 غرته الدنيا غرورا : أي خدعته بزينتها . واغتر الرجل بالشيء أي خدع به . والغرور ( بفتح الغين ) هو الشيطان . والغرور ( بضم الغين ) : ما اغتر به الشخص من متاع الدنيا . وغُر الرجل غرة ، فهو غِـر : أي جهل الأمور وغفل عنها . ويقال : ما غرك بكذا ؟ أي ما جرأك عليه . وفي القرآن الكريم " يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ " الانفطار (6) .

 فهذه المادة اللغوية المعجمية تعطينا " الخامة الأصلية " التي صنع منها نسيج التعريف الاصطلاحي : أليس الغرور انخداعا عن حقيقة الذات ، وغفلة عن واقعها ، وجهلا بمكانة الآخرين ، وجرأة على مقامهم ، وعلى أعراف المجتمع وقيمه الخلقية ؟ .

 وقد يستخدم الغرور مرادفا للكِـبْـر ، وقد يرى بعض العلماء أن الفارق بينهما فارق في الدرجة لا في النوع . وإن كنا نرى أن الرأي الأول هو الأصح ، ولو في عرفنا اللغوي الاستعمالي الحاضر على الأقل .

*********

 بقي أن نقول للمتكبر المغرور ــ وقد أعطى نفسه وقدراته أكثر بكثير من واقعها ــ انظر إلى مخلوق واحد من مخلوقات الله ... من أضعفها وأصغرها وهو الـنـمـلـة : إنها تملك من القدرات أضعاف أضعاف ما تملك ، وحتى تصل أنت إلى مستواها في " التدبير " فعليك أن تدخر في بيتك من الطعام والشراب ما يكفيك ، ويكفي أسرتك لثلاثة أشهر على الأقل كل عام . وهو ما تفعله النملة كل سنة في بياتها الشتوي .

 وحتى تصل أنت إلى قدرتها في الحمل ورفع الأثقال فعليك أن ترفع بيديك إلى أعلى مائة ألف كيلو جرام ؛ لأن النملة تستطيع أن ترفع بمفردها حبة قمح إلى جحرها في أعلى الحائط .

 وحتى تصل إلى قدراتها في الجر أي السحب فعليك أن تجر أي تسحب مركبة بلا عجل زنتها مليون كيلو جرام ؛ لأن النملة تستطيع أن تجر بمفردها نواة بلح كاملة .

 وما رأينا نملة تتمرد على بني جنسها ، أو تتعالى على أترابها ، فهل يتدبر المغرورون المتكبرون هذا الدرس من دابة تعد من أصغر وأضعف مخلوقات الله ؟ وهل من حقنا أن نذكرهم بقوله تعالى " تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ " القصص (83)