هكذا أعدم الدكتور عادل عثماني في سجن تدمر
فهل تستطيعون إعادة الطمأنينة إلى قلب أمّه
بقلم: عبد الإله الصيّاد *
وأخيراً استطاعت السيّدة أم مصطفى أن تحصل على موافقة خطيّة لزيارة ولدها، كلّفتها مبلغاً كبيراً من المال كانت تدخره، وقطعة ذهبيّة ثمينة عزيزة على قلبها ورثتها عن أمّها.
حلمت تلك الليلة بطفلها المدلّل يبتسم في حجرها، ويملأ بيتها بالبهجة والفرح، وفتاها الطبيب الذي رفع اسم العائلة على باب عيادة الأسنان التي افتتحها في اللاذقيّة .
حملت إليه الحلوى والثياب، غير عابئة بطول الطريق الذي يصل اللاذقيّة بعروس الصحراء، ولا برداءة السيّارة التي حشرت فيها جسدها النحيل المرهق ساعات طوال، ولم تشعر بقيظ البادية وغبارها .
وصلت تدمر مدينة الفرسان الشجعان، حاضرة القصور والمعابد والأسوار الحصينة، ومهوى قلوب الشعراء والعشّاق، محطّة قوافل الحرير والتوابل والأرجوان .
وعلى بوّابة السجن وقفت حزينة كسيرة الفؤاد، تتدافعها أيدى الحرس، ثم توجّهت نحو الممر المفضي إلى إدارة السجن، فسلّمت رسالة التوصية، وسلبت ما تحمله من هدايا عن طيب خاطر.
توجّهت نحو صالة الزيارة، وقفت خلف طبقتين مزدوجتين من شبك الحديد، ثم سمعت صدى صوت اسم ابنها من بعيد، بينما كانت دقّات قلبها تزداد خفقاناً .
وجاء عادل على عجل بأسماله البالية، وحذائه الممزّق، ووجهه الشاحب المريض، فوقف قبالة أمّه، ومعه حارسه يتنصّت عليه .
قال الحارس متهكّماً: جئت من الساحل لتشاهدي هذا الخائن عميل كامب ديفد ؟
الأم: نعم جئت من الساحل، ثم انفجرت باكية وهي تتأمّل آثار التعذيب والتجويع على وجهه، واكتفت بنقل تحيّة الأهل إليه، والإشارة إلى الهدايا التي حملتها معها .
وما هي إلاّ دقائق حتى نهرها الحارس بكلمات فظّة وهو يعلمها بانتهاء المقابلة، فلم تستطع أن تكمل حديثها، ولا أن تبثّ شكواها، ولا أن تعترض خشية إلحاق الأذى بابنها .
وعادت أم مصطفى من حيث أتت حزينة تعيسة والألم يعتصر فؤادها، تشكو إلى الله الظلم والطغيان، وصورة عادل لا تفارق خيالها، بينما كانت أطلال تدمر، تغيب خلف الكثبان الرمليّة .
ثم انقطعت أخبار عادل فما سمح لها بزيارته، وعدّ في جملة المفقودين المنسيين الذين أضيفت أسماؤهم إلى ضحايا المجزرة المشهورة .
ذات مساء طرق باب السيّدة أم مصطفى رجل ملثّم لم يذكر اسمه، قال لها: أنا من عند الدكتور عادل، فتحت بوابة المنزل بحجابها الأسود، ولباسها الساتر، وأضاءت غرفة الضيوف، وجلست تنصت لحديثه باهتمام .
قال الرجل: كنّا كلّما خرجنا إلى باحة السجن للتنفّس من جحيم الزنازين التي حشرنا فيها كالموتى، يتصدّى زبانية التعذيب لنا بعصيّهم الغليظة ضرباً وبأيديهم لكماً، حتى تعوّدنا ذلك .
وفي إحدى المرّات دخل علينا أحدهم وبيده قطعة حديد فلم يترك واحداً منا إلا وطعنه في رأسه ووجهه وما بين كتفيه .
ورفع قسماً من اللثام الذي يغطي رأسه فأراها أثر ضربة الجبان، وقال: وكذلك عادل أصابه في رأسه إصابة بالغة .
أمّ مصطفى: وكيف هو الآن يا بني ؟
الرجل: هو بخير إن شاء الله ؛ دعيني أكمل القصّة يا سيدتي .
أم مصطفى: وماذا أكثر من ذلك يا بني ؟
الرجل: خرجنا للتنفّس ذات يوم كالعادة فضربنا زبانية السجن ضرباً مبرّحاً بلا رحمة أو شفقة، وضرب أحدهم عادل بعصا غليظة فوق جرحه الذي لم يلتئم، فانفجر جرحه .
أم مصطفى: وماذا فعل عادل ؟
الرجل: هجم كالصقر على المجرم وانتزع منه العصا، وعلّمه درساً لن ينساه هو ورئيسه .
أم مصطفى: إنّها صولة الكريم يا بني .
أكمل يا بني .
ودخلنا غرف السجن وقد شفا صدرنا الدكتور عادل، وفعل ما لم نجرؤ عليه خشية الانتقام .
وثارت ثائرة مدير السجن، وقرّر تلقين سجناء تدمر درساً لن ينسوه .
وفي صباح اليوم التالي سمعنا في ساحة السجن صوت جلبة وضوضاء، وأخرج المساجين من زنازينهم و(قواويشهم) وقد أشبعوا ضرباً وشتماً، فتليت عليهم أوامر مدير السجن بإيقاع العقاب بالأخ عادل لأنّه تمرّد على الأوامر .
وأحضرت سيّارتا جيب عسكريّة، وحبال، فانتزع عادل من بيننا كأنّه مجرم خطير، فربطت رجله اليمنى بإحدى السيّارتين، وربطت اليسرى بالسيّارة الأخرى .
وأعطيت السيارتان الأمر بالسير باتجاهين متعاكسين وعادل العثماني واقف كالطود غير هيّاب ولا وجل، يكبّر ويبتسم، ويدعونا للصبر، ويبشرنا بالنصر .
وسمع في جوف الليل نحيب ونشيج ودعاء وتكبير في زنازين الرجال والنساء فلم ينم أحد من هول ما رأى، وخاصّة عندما انفصل الجسد الطاهر شطرين، ليدخل عالم الشهداء والصالحين.
وبينما كانت الدموع تتجمّد في عيني الرجل وهو يهم بالانصراف، سقطت السيّدة مغشيّاً عليها من هول ما سمعت، ثم استفاقت وقالت: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله .
* معارض سوري