في الذكرى السابعة والخمسين للنكبة الكبرى

د. عبد القادر حسين ياسين

في الذكرى السابعة والخمسين للنكبة الكبرى

تجـريد العـرب من ذاكرتهم ووعـيهم *

د. عبد القادر حسين ياسين

في الخامس عشر من أيار (مايو) تحل الذكرى السابعة والخمسون لنكبة، متمثلة باغتصاب فلسطين وتشريد شعبها، وزرع الكيان الصهيوني في خاصرة الوطن العربي عام 1948. ويبدو أن "التقادم" قد فعل فعله في إضعاف الاهتمام بهذه الذكرى الأليمة التي صار الحديث عنها "مملا"، كأي حديث يعاد ويكرر مرارا، دون أن يتضمن أي عنصر جديد!!

ويبدو، أيضا، أن تعدد الذكريات المؤلمة في التاريخ العربي الحديث قد ساهم، مع "التقادم"، في إبطال مفعول هذه الذكرى حتى في نفوس الجماهير العربية التي كانت فيما مضى، وبالتحديد قبل هزيمة الخامس من حزيران (يونيو) عام 1967 (التي يـُصرّ البعض على تسميها بـ "النكسة"!)، تستقبل ذكرى النكبة بتأثير عميق وحماس ظاهر، واحتجاج صريح وبصوت شعبي عال.

وكان ذلك يفرض على الأنظمة العربية أن تولي ذكرى النكبة قدرا من الاهتمام على المنابر الخطابية والإعلامية لتـُشعـِر الجماهير بأنها "لم تنس قضية العرب الكبرى" و "لم تغض النظر" عنها! على الرغم من إنشغالاتها "الوطنية" وهمومها "القومية" وواجباتها "الإقليمية" الكثيرة!!

 النكبة الفلسـطينية والملفات الأخرى

 والشيء الجديد الذي يتضمنه حديثنا عن نكبة فلسطين في ذكراها السابعة والخمسين يتمثل في هذه الظاهرة المحزنة من التناسي ، وقلة - كي لا أقول عدم - الاهتمام بالذكرى التي صارت تمر بالعرب، شعوبا وحكومات، دون أن تحظى حتى بمظاهر الإحياء العادية!

 ولهذه الظاهرة المؤسفة أسباب عديدة يفرزها الواقع العربي الذي يزداد ضعفا وترديا وانقساما أمام الهجمات المتتالية، والتحديات الخطيرة، والمستجدات المؤلمة، التي ألقت على ملف النكبة الفلسطينية ملفات جديدة حجبته عن رؤية العين والذاكرة، وجعلت الأنظار تتركز على الملفات المأساوية الأخرى (العراق، السودان، لبنان) ذات الصلة الوثيقة بالملف الأساسي، وهو ملف النكبة التي حلت بشعبنا الفلسطيني عندما وقف ديفيد بن غوريون ليعلن قيام "دولة الشعب اليهودي" في "أرض إسرائيل" في الخامس عشر من أيار (مايو) عام 1984 .

 وإذا كنا مطالبين بتوضيح وتأكيد ظاهرة اللامبالاة - رغم وضوحها رسميا وشعبيا - فإننا ندعو إلى تذكر الذكريات المماثلة في أوار الخمسينات ومطلع الستينات، حيث كانت مرارة الخامس عشر من أيار (مايو) تهز نفوس الجماهير العربية، وغالبا ما كانت تهز كراسي الأنظمة إذا ما بدت مستعدة (أو حتى مهيأة) لتناسي قضية العرب الكبرى، وطي ملفها.

 وجاءت النكبة الثانية في الخامس من حزيران (يونيو) عام 1967، لتحول الأنظار والاهتمامات عن النكبة الأولى، وتضع العرب - شعوبا وحكومات - أمام "الأمر الواقع الجديد". وليس ثمة شك في أن العدو الصهيوني قد وضع في حساباته الاستفادة مرة أخرى من عامل "التقادم"، فضلا عن أسلوبه المعروف في خلق ملفات جديدة وأمر واقعfait accompli  آخر يصرف النظر عما قبله.

 في مقابلة أجرتها معه مجلة  Der Spiegel "دير شبيغـل" الألمانية في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1971 يقول الجنرال موشيه دايان، وزير "الدفاع" الإسرائيلي آنذاك: " في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1947 رفض العرب قرار التقسيم [الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة]. وفي عام 1949 [بعد التوقيع على اتفاقيات الهدنة] عادوا إلى المطالبة بتنفيذه".

 "وفي عام 1955 كانت جميع الدول العربية المعـنية ترفض اتفاقيات [الهدنة]. وبعد حرب الأيام الستة [في حزيران (يونيو) عام 1967] عادوا الى المطالبة بانسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من حزيران... ولن أفاجأ - والكلام لدايان - بعد حرب أخرى تسيطر فيها إسرائيل على مناطق عربية جديدة في الأردن أو سوريا، إذا ما طالبوا بالعودة إلى الحدود الحالية" [كذا!!!]

 وكان هذا، في الواقع، أحد الدوافع الرئيسة لغزو لبنان في حزيران (يونيو) عام 1982. ومن غير المستبعد أن يكون العدو قد أعد مخططا لاستحداث ملفات أخرى جديدة وفرض أمر واقع جديد.

 وانطلاق مما تقدم، نقول بأن أخطر ما يلوح في الأفق العربي من ظواهر السلبية والإحباط هو هذا المقدار المحزن من التناسي واللامبالاة الذي يميز استقبالنا للذكرى، والذي يتزايد عاما بعد عام.

 وإذا ما استمر الحال على هذا المنوال، فإن عمليات "غسيل الدماغ" الجماعي التي تجري في العالم العربي بأساليب متنوعة ستنجح، خلال السنوات القليلة المقبلة، في بلوغ أهدافها.

الذاكرة العربية والوعي   

وحين تـُجرد الجماهير العربية من ذاكرتها ووعـيها، يسهـل تجريدهـا من كل سلاح مادي ومعـنوي، وتصبح بذلك مهينة للسقوط في شراك العـدو الصهيوني والولايات المتـحدة الأمريكية، فاقدة بذلك القدرة والإرادة على الصمود والتصدي للأخطار ، والتحديات المتلاحقة التي تهدد وجودهـا بكافة أبعاده ومقوماته.

 إن انفراد الشعب الفلسطيني بإحياء ذكرى النكبة التي ألمت به أمر بالغ الخطورة، وأبسط ما يتضمنه من المعاني الخطيرة هو نجاح العدو في "أقلمة" القضية القومية الأولى، وإشاعة النفس الإقليمي في المنطقة ضمن محاولات العزل والحصار. وهذا، بالطبع، ينسجم مع المساعي الأمريكية الهادفة، منذ أزمة الخليج الثانية والاحتلال الأمريكي للعراق، إلى تجزئة القضية القومية الواحدة، وتفـتيتها إلى أجزاء إقليمية متناثرة، وملفـات عـديدة ( الملف الفلسطيني، الملف اللبناني، الملف السـوري، الى آخـره)  لتسهل عملية تصفـيتها ملف ملف، وخطوة خطوة.

 إن الفصل بين ما حدث عام 948 ، وما حدث عام 1967، مضافا إلى ذلك كله كافة الجزيئات والتفاصيل التي تؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، النزعة العدوانية، والأطماع التوسعية للعدو، إن الفصل بين هذه الملفات، أو هذه الأحداث المترابطة ترابط حلقات السلسلة الواحدة، من شأنه أن يذهب بالبقية الباقية من وعي العـرب بأبعاد قضيتهم وطبيعة عدوهم.

 والوعي العربي المطلوب تصفيته ومحوه من الذاكرة هو أن قضية فلسطين ليست قضية الشعب الفلسطيني وحده، بل هي، كما أكدت الوقائع والتطورات العلمية ، قضية المصير العربي كله. فاحتلال فلسطين بكاملها وإقامة الكيان الصيهوني لم ينتج عنه تشريد الشعب الفلسطيني فقط، بل نتج عنه، إلى جانب ذلك، زرع شوكه مسمومة ذات طبيعة سرطانية في جسم الأمة العربية.

 نكبة... ونكبات

 إن هذا الشوكة المزروعة في خاصرة العالم العربي، وفي مفصل حساس منه ( ذلك المفصل الذي يربط المشرق والمغرب) تمثل خطراً زاحفاً ومستمراً ومتصاعداً يستهدف الأمة العربية كلها. وهذه حقيقة لا اعتقد (بعد57 عـامـاً) أنها بحاجة إلى تأكيد نظري . فالغزوات الإسرائيلية المتلاحقة ( 1956 ، 1967 ، 1973، 1982) والتهديدات المستمرة للدول العربية المجاورة لفلسطين تؤكد ذلك.

 لقد كنا حتى منتصف الستينات ، نستقبل ذكرى نكبة واحدة هي نكبة أيار (مايو) عام 1948. ثم صرنا في عام 1968 نستقبل ذكر نكبة ثانية هي عدوان الخامس من حزيران (يونيو) واحتلال ما تبقى من فلسطين. وما لبثت هذه النكبة المستجدة أن استقطبت الأضواء وصارت وكأنها القضية كلها. وفي مطلع الثمانينات اضطر العـرب إلى تركيز اهتمامهم على نكبة ثالثة هي الاجتياح الإسرائيلي للبنان.

 وفي ضوء هذا التركيز صارت ذكرى النكبة ، وذكرى "النكسة" تمران بنا كطيفين باهتين وحدثين قديمين عابرين، وكأننا لم نعـد نعي أن حزيران (يونيو) عام 1982 هو امتداد لحزيران (يونيو) عام 1967، وهذا بدوره امتداد لاحتلال الجزء الأكبر من فلسطين في أيار (مايو) عام 1948.

 ولا تقف مخططات التوسع والتصفية عند هذا الحد، بل إنها تحاول تبديد التركيز وتفتيت محور الاهتمام وجعله محاور عديدة ، حيث صارت المخططات الإسرائيلية-الأمريكية تطرح علينا القضية الواحدة في صورة قضايا عديدة ومنفصلة (الأسرى، المستوطنات ، اللاجئين، الحدود، التطبيع، الجدار العازل، الممر الآمن، الانسحاب من قـطـاع غـزة.. الخ).

 وليست عملية الكسر والاختراق هي الهدف الوحيد لسياسة تفتيت القضية وتمزيق الصف والموقف ، بل ثمة هدف آخر لا يقل خطورة ، بل هو أشد خطوة من الأول. ويتمثل هذا الهدف في محاولة دق أسافين الخلاف بين العرب والفلسطينيين .

 أضف إلى ذلك مجموعة من الأسافين غير المرئية والتي يراد من ورائها تمزيق وحدة الشعب الفلسطيني، وضرب فلسطينيي الداخل بفلسطينيي الخارج، وضرب حركة المقـاومة الاسـلامية "حمـاس" بالسلطة الفلسطينية، والتصريحات المتكررة للرئيس الأمريكي جورح بوش، وغيره من المسؤولين الأمريكيين ، وإصرارهم على أن يبدي الرئيس الفلسطيني محمـود عباس "جدية أكثر" في مكافحة "الإرهاب" ، ومحاولات وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس شق الصف الفلسطيني تدخل ضمن إطار هذا الهدف الإسرائيلي - الأمريكي.

 وبعـد؛

 وهكذا يتضح لنا أن عملية طمس ذكرى النكبـة الفلسـطينية في الذاكرة العربية تعني، أولاً وقبل كل شيء، تغييب الوعي العربي بهدف تمرير المخططات الصهيونية الأمريكية في العالم العربي التي تهدف إلى إقامة دويلات الطوائف، والسيطرة على الموارد الطبيعية.  فـاذا لم نكن قادرين على أن نجعل من الذكرى السـابعـة والخمسين للنكبـة حافزاً على استعادة ما ضاع، فلنجعل منها، على اقل تقدير، مصدر وعـي للمحافظة على ما تبقى!!!...

         

* عن كنعان النشرة الألكترونية