تحديات النظام والمعارضة في سورية
تحديات النظام والمعارضة في سورية
د. نجيب الغضبان *
التحدي المشترك لكل من النظام والمعارضة في سوريا يتمثل في إدارة التغيير لسياسي القادم. فمن الواضح للطرفين بأن المرحلة المقبلة حبلى بمفاجئات كبيرة، الخاسر فيها هو الطرف القاصر في تقدير هذه التحديات والإعداد لها. بعدها يفترق النظام عن المعارضة في قراءته لما هية التغيير المطلوب للتعامل مع هذه التحديات وكيفية وتوقيت إنجازه. ستتناول هذه المقالة أهم التحديات التي تواجه سوريا، مع قراءة تحليلية لرؤية كل من النظام والمعارضة لطبيعة وخطورة هذه التحديات، وأخيراً تحديد التطورات المؤثرة على موقف الطرفين.
تحديات النظام السوري:
الزخم الذي اكتسبه موضوع التغيير في سوريا ترافق مع التطورات التي شهدها لبنان، بدءاً بالتمديد للرئيس الحالي إميل لحود—بقرار من القيادة السورية- ومروراً بالمعارضة المحلية والدولية لهذا التدخل الصارخ في الشأن اللبناني الداخلي، هذه المعارضة التي تم التعبير عنها بقرار مجلس الأمن 1559، إلى الجريمة البشعة المتثلة في اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وأخيراً انسحاب القوات العسكرية والأمنية السورية من لبنان. هناك إجماع بين المتابعين للشأن السوري أن هذه التطورات لم تكن في صالح النظام ا لسوري، الذي خرج منها بانتصار في جولة التمديد للحود، لكنه خرج خاسراً للمعركة، فقد وجد النظام السوري نفسه في موضع المتهم الرئيسي بجريمة اغتيال الحريري، كما أنه أجبر على إنهاء وجوده العسكري بشكل كامل بعد أن كان يرفض رفضاً تاماً مطالب المعارضة اللبنانية بهذا الشأن.
وقبل التطورات الأخيرة في لبنان، وجد النظام السوري نفسه في مواجهة ضغوط من الإدارة الأميركية، تركزت، بشكل محوري، حول تناقض مصالح البلدين تجاه المسألة العراقية. ففي هذا الشأن، قامت إدارة الرئيس بوش بالتصديق على قانون محاسبة سوريا، والذي قصد منه إبلاغ رسالة قوية من الإدارة الأميركية مفادها أن واشنطن غير راضية عن سلوك النظام السوري في عدة قضايا، بعضها مبررة كدعم أجهزة أمنية سورية للتمرد في العراق، وأخرى واهية مثل ما تسميه واشنطن بدعم "الإرهاب"، وامتلاك سوريا لأسلحة دمار شامل. النظام السوري لم يأخذ هذا القانون مأخذ الجد، واعتقد خاطئاً أنه قادر على المقايضة، وذلك بتقديمه تنازلات في القضية العراقية، مع احتفاظه بالسيطرة على الشأن اللبناني. هذه العقلية هي التي دفعت بحكام دمشق إلى فكرة التمديد للحود، في الوقت الذي نصحه كثير من الأصدقاء على عكس ذلك.
لكن من الخطاً بمكان الاعتقاد أن المصاعب التي يواجهها النظام السوري نابعة في جلها من التحديات الإقليمية والدولية. واقع الأمر أن النظام السوري، الذي يحكم البلاد منذ عام 1963، من خلال نموذج الحزب القائد الأوحد، والذي أثبت فشله –بجدارة- في بلدان المركز (الكتلة الشرقية)، خلق أجهزة أمنية مستشرية فوق سلطة القانون، وأوجد اقتصاداً اشتراكياً مشوهاً، وجهازاً إدارياً متخلفاً فاسداً، ونظاماً تعليمياً وتقانياً متقادماً، ومواطناً مقموعاً خائفاً. وتمكن النظام السوري من توظيف التحديات الخارجية، وعلى رأسها مواجهة العدو الصهيوني، لتبرير استبداده السياسي، واستئثار الدائرة الضيقة من صانعي القرار بإدارة الموارد، كما ساعدت العوامل الدولية، بما فيها الحرب الباردة وتركيز القوى الفاعلة على الاستقرار في هذه المنطقة الحيوية، كل ذلك دفع باتجاه تأجيل التعامل مع الاستحقاقات الداخلية الملحة.
وعندما ورث الرئيس بشار الأسد الحكم من والده، في خرق سافر لمنطق تناوب الحكم في الأنظمة الجمهورية، تجددت الآمال بإمكانية التفرغ للإصلاح الداخلي.
وزاد خطاب القسم الرئاسي من توقعات المواطنين بقرب الفرج، وذلك بايلاء قضية الإصلاح الداخلي—بكل أبعادها- أولوية للرئيس الشاب. لكن قوى العهد القديم الظلامية في النظام أثبتت أنها أقوى من العناصر الإصلاحية، فقامت بالانقلاب على ماسمي "بربيع دمشق". وانحاز الرئيس "الإصلاحي" لهذه القوى، مردداً اللغة القديمة حول التهديدات الخارجية، والتدرج، وأولوية الإصلاح الاقتصادي على الانفتاح السياسي.
وعلى الرغم من إحالة الكثيرين من أعمدة النظام السابق إلى "التقاعد"، واستبدالهم بشخصيات أصغر سناً، فلم ينعكس هذا الأمر إيجابياً على قضية الإصلاح، لأن القادمين الجدد جاؤوا من نفس الخلفية القبلية والجهوية والطائفية لأسلافهم.
وكما كان الأمر بالنسبة لتوريث السلطة على مستوى الرئاسة، ورث الكثيرون من قادة الأجهزة العسكرية والأمنية مواقعهم من أقرباء وأصدقاء وحلفاء، ولم يتم فتح دائرة الاستقطاب لقطاعات خارج دائرة أصحاب النفوذ في العهد القديم. وعلى الصعيد الاقتصادي، تركز الإصلاح على الانتقال من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق، مع السماح فقط للدائرة المتنفذة باحتكار الفرص الجديدة. الاستراتيجية "الإصلاحية" هذه دفعت بالطبقة الوسطى إلى الأسفل، وساهمت بتعميق ثقافة الفساد وانعدام تكافؤ الفرص، بينما برزت فئة من الأغنياء الجدد المنحدرين من أقرباء المتحكمين بالقرار السياسي ومن رؤوساء الأجهزة القمعية السابقين واللاحقين، فغدا النظام حاكماً ومالكاً للبلاد والعباد.
وهكذا فيمكن إجمال أهم التحديات التي تواجه النظام بما يلي:
أولاً، تفاقم الأوضاع الداخلية، خاصة الاقتصادية منها، إلى درجة بالغة السوء، وترافق ذلك مع الإثراء الفاحش للمتنفذين داخل النظام.
ثانياً، العزلة الإقليمية للنظام بعد انسحابه المهين من لبنان، وفشله في إقناع الأصدقاء قبل الأعداء ببراءته من دم الحريري.
ثالثاً، الضغوط الأميركية المستمرة على النظام، والتي وصلت إلى درجة اقتناع جناح قوي داخل إدارة الرئيس بوش بضرورة التغيير الديمقراطي في سوريا.
النظام السوري يبدي استعداداً كبيراً للاستجابة للتحديات الخارجية، من دون إعطاء أهمية تذكر للاستحقاقات الداخلية. الإشكالية في طريقة التفكير هذه أن النظام غير مدرك أن نقطة ضعفه الخطيرة تتمثل في أنه نظام استبدادي، فاقد للشرعية التمثيلية، وأنه يستمد استمراريته من أجهزته القمعية. القوى الخارجية، وتحديداً إدارة الرئيس بوش، مدركة لهذه النقطة، ولن تألو جهداً في استغلالها في المرحلة القادمة، خاصة وأنها تطرح قضية تشجيع الديمقراطية في المنطقة باعتبارها الهدف الاستراتيجي الأهم في هذه الآونة. ومع أن البعض يشكك بجدية إدارة بوش، ويذكر بأن الإدارة لا تطبق هذا الأمر، بشكل خاص مع أصدقائها في المنطقة، الأمر الذي يدفعهم إلى التقليل من أهمية هذا الأمر بالنسبة لسوريا. لكن هؤلاء يتناسون أن الإدارة قد تقبل التساهل مع بعض أصدقائها وحلفائها وتقبل تبريراتهم، بيد أنها لن تتساهل مع النظام الذي تعتبره مسؤولاً عن التدهور الحاصل في العراق ولبنان.
تحديات المعارضة السورية:
على الرغم من الفرصة السانحة للمعارضة السورية لدفع مشروعها الإصلاحي الديمقراطي، تواجه هذه المعارضة عدة تحديات، تنبع من حقيقة أنها معارضة ضعيفة نسبياً، وموزعة بين الداخل والخارج، وذلك نتيجة عقود من القمع والإقصاء. ومع ذلك فإن القوة الأساسية للمعارضة السورية تتمثل في موقفها الأخلاقي المبدئي المستند إلى حقها في المشاركة السياسية في عالم يسير باتجاه التحولات الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. كما أن حقيقة أن النظام السوري يستند إلى قاعدة ضيقة من المؤيدين، تجعل من ادعاء المعارضة بأنها أقرب تمثيلاُ للشارع وللأغلبية المهمشة سياسياً والمحرومة اقتصادياً له مايبرره. وعموماً فقد استطاعت المعارضة السورية تحقيق إنجازات هامة على مدى السنوات الخمس الماضية، وتمثلت فيما يلي:
أولاً، نجحت المعارضة في الاتفاق على المطالب المراد تحقيقها. وبغض النظر عن الخلفية الأيديولوجية والحزبية، فإن المعارضة توصلت إلى إجماع حول ضرورة إنهاء الأوضاع الاستثنيائية، من قانون طورائ، وإقفال لملف الاعتقال والنفي السياسي، ومن ثم تعديل الدستور لإنهاء احتكار حزب البعث للحكم، والسماح بتشكيل الأحزاب السياسية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة تتنافس فيها كافة الأحزاب والقوى السياسية على أصوات الناخبين.
ثانياً، تطورت طروحات حركة الإخوان المسلمين—وهي من الفصائل المعارضة الهامة- على مدى العقدين الماضيين، باتجاه تبني مبدأ الدولة الديمقراطية الحديثة كتجسيد للمبادئ الإسلامية، كمبادئ البيعة والشورى والعدل. كما أنها طرحت بلغة، لا لبس فيها، التزامها بحقوق الأقليات والمرأة. وأخيراً نجحت الحركة في الخروج من العزلة التي وضعها فيه النظام بعد حوادث الثمانينيات الدموية المؤسفة، وشكلت تحالفات هامة مع القوى والديمقراطية واليسارية.
ثالثاً، قبلت المعارضة السورية مبدأ التدرج في الإصلاح، كما أنها اتفقت على نبذ العنف وسيلة للتغيير الديمقراطي. وأبدت المعارضة استعداداً للعمل من داخل النظام وصولاً لتحقيق أهدافها.
رابعاً، فهمت المعارضة السورية أهمية التركيز على قضية حقوق الإنسان، وتم بالفعل تشكيل ما لايقل عن خمس جمعيات وهيئات للدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، داخل سوريا وخارجها، وقامت هذه الجمعيات بجهود كبيرة لرصد انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الأجهزة القمعية، وشكلت تيار ضغط على النظام في اتجاه تحسين سجله في هذا المجال.
لكن وبرغم هذه الإنجازات، فقد كانت إشكالية المعارضة تتمثل في كيفية الضغط على النظام لإحداث التغيير الديمقراطي المنشود. وقد جربت المعارضة في الداخل صوراً مختلفة للنشاط السياسي تفاوتت بين عقد ندوات التثقيف السياسي، وتشجيع الحوار حول الشأن العام، إلى رصد تجاوزات حقوق الإنسان وفضحها، وحتى أنها جربت لعامين على التوالي فكرة التظاهر السلمي، احتجاجاً على قانون الطوارئ. وساهمت المعارضة في الخارج من خلال استخدام الوسائل المتاحة أمامها، خاصة من خلال الإنترنت والفضائيات والصحافة الحرة المهاجرة، للضغط باتجاه الإصلاح الديمقراطي، والدفاع عن حقوق الإنسان، وشرح قضاياها العادلة في المحافل الإقليمية والدولية.
لكن كل هذه الوسائل بقيت محدودة في إقناع النظام السوري بضرورة البدء في عملية إصلاح حقيقية.
التطورات الأخيرة في لبنان، خاصة التظاهرات الشعبية السلمية للمعارضة اللبنانية التي خرجت بكل ثقلها للمطالبة بخروج القوات السورية من لبنان، كان لهذه التطورات، وغيرها، أثراً على المعارضة السورية، بكل فصائلها للتفكير بطرق جديدة للضغط من أجل التغيير الديمقراطي. ومن الفرص التي توفرت—ومنها ماهو بفعل أخطاء النظام- تلك المرتبطة بالقوى الدولية التي تطورت مواقفها لترفض منطق الأنظمة الدكتاتورية الزاعم بأن البديل لهذه الأنظمة هو الفوضى أو التطرف الإسلامي. هذا التغيير استدعى استجابة من بعض شخصيات المعارضة المستقلين ومن بعض فصائلها للدخول في حوار مع هذه القوى لاستبان مواقفها، وحثها على دعم عملية التغيير الديمقراطي في سوريا. ومع أن الأغلبية في صفوف المعارضة تتفهم هذه الخطوات، وتجدها مكملة لجهودها، خاصة في الضغط من الداخل لإقناع النظام بضرورة اتخاذ الخطوات الأولى للإصلاح الديمقراطي المنشود، فإن بعض الشخصيات والفصائل وجدت نفسها حبيسة لخطابها الوطني الذي لا يرى الأمر إلى من خلال ازدواجية التمسك بالدفاع عن الوطن والتضحية بالديمقراطية، أو التغيير الديمقراطي الذي يدعو الأطراف الخارجية لا ستباحة الوطن. ومما زاد في غموض الأمر، النموذج العراقي بكل تعقيداته والأخطاء الخطيرة التي ارتكبت فيه، وأوصلت الأمور إلى ما هي عليها اليوم. هذه التطورات تضع المعارضة السورية أمام تحد أساسي يتمثل في حفاظ المعارضة على وحدتها التي تمثل أهم نقاط قوتها. هذه الوحدة قد تتعرض للاهتزاز بفعل العوامل التالية:
أولاً، تحدي المزايدة. نقصد بهذا التحدي اتخاذ مواقف حادة ومتزمتة، ليس فقط في رفض أي تعاون مع القوى الدولية الفاعلة للضغط باتجاه التغيير الديمقراطي، بل الانتقال إلى موقف المدافع عن النظام.
ثانياً، تحدي المناقصة. نعني بالمناقصة هنا قيام شخصيات أو فصائل معارضة بعقد صفقات مع النظام، لا تلبي مطالب الحد الأدنى التي تم الاتفاق عليها، والمتمثلة في رفع حالة الطوارئ، والتعديل الدستوري القاضي بحق تشكليل الأحزاب السياسية من دون أي تحفظ، والانتخابات الحرة النزيهة الدورية.
ثالثاً، تحدي النزاعات الشخصية والحزبية. تشكل النزاعات الشخصية تحدياً حقيقياً لتشكيل جبهة عريضة، كما أن العمل الحزبي الضيق قد يقف حائلاً أمام العمل مع الآخرين. ومع أن من حق كافة الأحزاب والهيئات العمل من أجل تقوية كياناتها، فإنها في هذه المرحلة مدعوة للتركيز على المساهمة في دفع عملية التغيير الديمقراطي، وتأجيل المنافسات الحزبية للمرحلة المقبلة.
الأشهر القليلة القادمة هامة جداً لإثبات قدرة النظام والمعارضة على استيعاب خطورة المرحلة، ولعل هناك ثلاثة امتحانات لقدرة النظام والمعارضة على التعامل مع التحديات، وهي:
أولاً، المؤتمر القطري لحزب البعث. السؤال الرئيسي هنا حول قدرة الحزب على إصلاح ذاته، وقبوله مبدأ المشاركة في الحكم بدلاً من احتكاره. ومع أن ما ترشح عن دوائر قريبة من المعدين للمؤتمر لا تشجع على الاعتقاد بأن المؤتمر سيتخذ خطوات إصلاحية جرئية، فمن المهم لأصدقاء وحلفاء النظام أن يؤكدوا ويكرروا ما قالوه في الفترة الماضية بأن هذه الفرصة قد تكون الأخيرة أمام النظام لأخذ المبادرة، وإلا فإنه المسؤول عما هو قادم. ولعل من المفيد تذكير التيار الإصلاحي داخل النظام بأن الخيار لم يعد بين السيطرة الكاملة أو المشاركة الجزئية مع الآخرين، بل هو بين المشاركة العادلة أو فقدان الحكم.
ثانياً، قدرة المعارضة على الحفاظ على وحدتها وإثبات قدرتها على أنها تمثل أداة التغيير الرئيسية والبديل الأفضل للنظام.
ثالثاً، انطلاق التحقيق الدولي حول اغتيال الشهيد الحريري، وبالطبع فإن إدانة أو تبرئة علاقة جهات أمنية لبنانية وسورية متنفذة في الجريمة النكراء سيكون له آثار على مستقبل النظام، خاصة وأن هذه الأجهزة تشكل قاعدة النظام الرئيسية.
هذه الامتحانات القادمة قد تشكل حوافز للنظام والمعارضة في سوريا للعمل سوياً لمواجهة التحديات القادمة، وتجنيب البلاد مخاطر الانهيار والفوضى، لكن الشرط الرئيسي لهذه الإمكانية أن يعي قادة النظام "الإصلاحيون" خطورة المرحلة والتخلص من العقلية السلطوية الفوقية في تعاملها مع المعارضة، والشعب عموماً، وأخيراً إدراكهم أن الوقت في غير صالحهم.
*أكايمي ومعارض سوري مقيم في الولايات المتحدة.