يا حكامنا00أقيموا تمثالا للنفاق

يا حكامنا00أقيموا تمثالا للنفاق

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

من قرابة أعوام ثلاثة أفتي الشيخ محمد سيد طنطاوي -شيخ الأزهر- بجواز قيام الدولة بإقامة التماثيل في الميادين والشوارع العامة, لشخصيات القادة والزعماء» «لأن من يشاهد هذه التماثيل سيتذكر سيرة أصحابها, ويقتدي بهم, ويأخذ منهم الحكمة والعبرة.. إلخ».
ونقضا لهذه الفتوي العجيبة الغريبة كتبت مقالاً في «آفاق عربية» عنوانه «لا وألف لا يا شيخ سيد»: فالشعب المطحون الجائع أحق بعشرات الملايين التي تُهدر في إقامة هذه التماثيل, علمًا بأن التمثال الواحد بقاعدته يتكلف قرابة 14 مليونًا من الجنيهات, كما أن المشاهد لا يتعلم, ولا يأخذ الحكمة من تماثيل صماء. هذا بصرف النظر عن التحريم الشرعي.
وأنا اليوم أتراجع

ولكني الآن أُشهد أهل مصر «المطحونة» - التي كان  يطلق عليها من قبل «مصر المحروسة»- أُشهدهم أنني أرجع اليوم عن رأيي.. معترفًا بوجاهة فتوي الشيخ سيد, في نطاق واحد محدد, وهو: دعوتي لإقامة تمثال واحد فقط, هو: تمثال ضخم «للنفاق», ويكون علي هيئة مخلوق بشري عملاق -في حكم تمثال الحرية الأمريكاني- رافعًا يده اليمني ممسكة «بصاجات». أما اليسري فتحضن «طبلة» من النوع الذي يستخدمه «ضابط الإيقاع». ويخرج لسانه الطويل, تحيط به ابتسامة صفراء. ويسجل علي قاعدة التمثال أسماء أشهر المنافقين في عهود «الميمونة». ويقام التمثال أمام المقر الرئيسي للحزب الوطني, وخلف التمثال مباشرة مخزن محفور في الأرض مبطن بالأسمنت المسلح مملوء بالحصي. وتعلن حكومتنا الرشيدة منح المواطنين حقًا جديدًا, هو حق «الرجم», بمقتضاه يكون للمواطن الحق في رجم هذا التمثال بالحصي المتوفر خلف التمثال. ومنح هذا الحق يحقق الفوائد الآتية:
1- التنفيس عما يشعر به المواطن من نقمة وكراهية لحكومة الحزب الوطني بسبب فيض المشكلات التي أغرقته فيها.
2- تحقيق السبق والريادة لحكومتنا الرشيدة التي منحت مواطنيها «حق الرجم» الذي لا تعرفه أية دولة أخري.. وفي ذلك لطمة لأمريكا التي تنكر علي حكومتنا حرمان المواطنين من الحريات السياسية والمدنية.
وعلي سبيل الاستطراد, يذكرني هذا المشروع بـ«أبو رًغَال» قصي بن منبه الإيادي, ذلك العربي الجاهلي الذي كان دليلاً لأبرهة -صاحب الفيل- الذي قدم من اليمن إلي مكة لهدم الكعبة. ولما مات «أبو رغال» دفن «بالمغمّس» بالقرب من مكة, ومازال المسلمون يرجمون قبره حتي الآن.
 
النفاق أصبح دينًا وطبعًا

وبالاستقراء المتأني يكتشف الباحث أن النفاق لم يتفاقم, ويصبح طبعًا ودينًا إلا في عهد «الميمونة» -أي ابتداء من سنة 1952- ولأترك عهد عبد الناصر , لأستشهد بواقعة نفاقية واحدة , حضرتها بنفسي في عهد السادات, وخلاصتها: أننا حضرنا -بدعوة رسمية- حفل تكريم أساتذة الجامعات في مقر الحزب الوطني علي النيل.. وحضرها السادات وزوجته (وكانت ترتدي السواد لوفاة والدتها), وأذكر من زملائي الذين حضروها الدكتور عبد اللطيف عامر, والدكتور أحمد أمين مصطفي, والدكتور عبد الرءوف أبو السعد. وبدأت الكلمات تلقي احتفاءً بالسادات وسيدة مصر الأولي. وجاء دور رجل طاعن في السن, قُدم علي أنه كان يدرّس مادة الرياضيات للطالب محمد أنور السادات في المرحلة الثانوية, واصطدم هو وزملاؤه بمسألة رياضية وعجزوا جميعًا عن حلها, ولم يحلها إلا الطالب النجيب العبقري أنور السادات.. (نظرت لإخواني.. وفوتناها). ثم نظر إلي السيدة جيهان وقال بالحرف الواحد: يا سيدة مصر الأولي.. لقد خلق الله الجمال وقسمه نصفين, ووزع النصف الأول علي كل نساء العالمين, وخصك أنت فقط بالنصف الثاني.. (وتبادلنـا النظرات.. وفوتناها هذه أيضًا). وكان الرجل -للحق- يتحدث بعربية فصيحة سليمة.

ثم وقال -موجهًا نظره إلي الحاضرين-: أيها الحفل الكريم: «إن في خلق السموات والسادات لآيات لقوم يعقلون» 0 وفي لمح البصر.. وتلقائيًا.. نهضنا جميعًا.. وبصوت عال صاخب طلبنا من الرجل التوقف, ومغادرة المنصة, وبعضنا صب عليه الشتائم واللعنات. واضطر الرجل إلي الاستجابة لأصواتنا الغاضبة.
في عهد مبارك..

وفي عهد مبارك ارتفعت واشتدت النبرات النفاقية, حتي أصبح النفاق هو «سيد الأخلاق», أما كلمة الحق الصريحة فغباء, وغدر, وخيانة, وضيق أفق. وقد كتبت من قبل عددًا من المقالات في صحيفتي «الحقيقة» و«آفاق عربية», تحدثت فيها عن صاحب القِدْح المعلّي في هذا المجال: الدكتور محمد مجدي مرجان الذي ينشر مقاله كل أربعاء في الأهرام.. مشبهًا كل أصحاب الرأي المعارض للسياسة المباركية بالحشرات, والهوام, ويسوق من التاريخ ما لا يملك أي دليل علي ثبوته, وذلك في غلو بشع, ومن أقواله الأخيرة: «.. أكرر أننا -في عهد مبارك- منذ فجر التاريخ, وقبل الفراعنة أيضًا يملك المصري حق اختيار حاكمه وممثله الأعلي بنفسه, وبكامل إرادته, وأتحدي علماء التاريخ والآثار, والحفريات, وغيرهم أن يثبتوا غير ذلك..» الأهرام 23/3/2005.

ومن حق أي تلميذ -ولو كان راسبًا في الابتدائية -أن يسأل السيد مرجان: هل قرأت وبحثت وفحصت تاريخ البشرية كلها حتي تصدر هذا الحكم? وهل صحيح أن المصري حاليًا يملك حق اختيار حاكمه وممثله الأعلي?!! اتق الله يا سيد مرجان.
القمص المتفوق

وقد يتفوق في هذا المجال: الراهب القمص «شيئو دوسيوس السرياني» من الكاتدرائية المرقسية بالقاهرة, في مقال يقول فيه: «إن كان الرب قال بالكتاب المقدس: (مبارك شعب مصر) فيسعدنا بحق أن يظل اسم مبارك رئيسًا علي شعب مصر إلي بقية العمر المديد..» الميدان 19/1/2005.

وبعد ذلك بشهرين ينشر الرجل ما لا يقره عليه  لا عقل ولا دين , فيقول: «إن محمد حسني مبارك قد أعده الله ليكون رئيسًا أعلي لمصر, ليس فقط منذ ولادته كطفل, وإنما من قبل أن يصور في البطن جنينًا..».. فماذا تركت للأنبياء أيها الرئيس الديني الموقر? وماذا تقول لو أن مرشحًا للرياسة وُفق ونجح في مواجهة الرئيس مبارك? أطرح عليك هذا السؤال وأنا أعلم أنه افتراض خيالي جدًا.. جدًَا لأسباب أنت تعلمها جيدًا جدًا.. ولكن من حق الدكتور مرجان أن ينقم عليك , لأنك تفوقت عليه بضربة قاضية.. وكل أولئك يدفعني إلي تجديد الدعوة بإقامة تمثال للنفاق بالمواصفات التي ذكرتها مع إعطاء الشعب حق رجمه.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.