خيارات القيادة السورية في ظل واقع جديد
أنس العبدة
مع تأكيد وزير الخارجية السوري فاروق الشرع لمبعوث الأمم المتحدة تيري رود-لارسن تاريخ موعد الانسحاب النهائي من لبنان تكون القيادة السورية قد نزعت فتيل الحلقة الأولى من سلسلة حلقات قادمة. مواجهات ومعارك هذه الجولة جرت على الأرض اللبنانية وانتهت بإعلان انسحاب سوري كامل للجيش والمخابرات مع نهاية شهر نيسان الحالي. لكن الانسحاب الكامل لا يعني بالضرورة نهاية الحرب على استحواذ النفوذ في لبنان. فللنظام السوري أحلاف وموالاة ستخسر كثيرا من جراء هذا الانسحاب وإن بدرجات متفاوتة مع العلم أنها ما زالت تمتلك الكثير من الأدوات الفاعلة في الحياة اللبنانية. وما ذهبت إليه القيادة السورية في اعتبار ما حدث على أنه سيناريو لـ17 أيار في حلّة جديدة وواقع جديد دليل على أن الانسحاب السوري لا يعني نهاية النفوذ والوصاية المبطنة. لذا فإن الانسحاب العسكري السوري الذي يَسْهل التَّحقُّق منه سيجعل النظام السوري في وضع أكثر مرونة لإعادة ترتيب الأوراق الحليفة له داخل لبنان والاستفادة منها بالوقوف في وجه التحول الكبيرالقادم. ومن هنا كان التردد واضحا لدى أطراف الموالاة في لبنان لتشكيل حكومة تُعدّ للاستحقاق الانتخابي. وكلما تأخر الموعد الانتخابي أكثر كلما كانت الفرصة أقوى لدى الموالاة في تقليل الخسائر الانتخابية المتوقعة.
لكن الوضع السوري- اللبناني لا يمكن فهمه في سياق لبناني محلي فقط، فالزلزال الذي رافق جريمة اغتيال الحريري أحدث تصدعات في جسم النظامين السوري واللبناني، وبات الحديث أشد وضوحا وأكثر صراحة عن ضرورة تغيير جذري في كلا البلدين. آليات هذا التغيير تبدو أكثر فعالية في الحالة اللبنانية منها في الحالة السورية. و هذا ما يجعل الدول صاحبة النفوذ حذرة في تعاملها و نظرتها للتغيير داخل سورية. فالأوربيون قلقون من الضغط المتزايد على النظام السوري و يخشون من حدوث فراغ كبير في حال انهيار النظام يتبعه تناحر طائفي و عرقي و ديني ، تماما كما يحدث في العراق. لذا فلا غرابة أن تسعى بعض الدول الأوربية مثل فرنسا واسبانيا لدى الولايات المتحدة للتخفيف من حدة الضغوط المتزايدة على القيادة السورية. و رغم لقاء موظفين في الإدارة الأمريكية بأطراف من المعارضة السورية إلا أن السياسة الأمريكية مازالت حتى هذه اللحظة لم تصل بعد إلى مرحلة "تغيير النظام". لكن هذه السياسة قابلة للتطوّر والتحوّل كما رأينا في حالات سابقة على يد الطرف الأكثر تأثيرا في السياسة الخارجية الأمريكية: المحافظون الجدد. يقول فؤاد عجمي المقرب جدا من دوائر المحافظين الجدد في مؤتمر عقد مؤخرا في الدوحة ما مفاده بأن جورج بوش الأب منح الأسد الأب لبنان عام 1990 ثم عاد جورج بوش الابن ليسترده من الأسد الابن. و كأن ما حدث بين عامي 1990 و 2005 لا يعدو كونه تفاصيل لا تفسد القاعدة العامة التي تحكم العلاقة الأمريكية السورية فيما يتعلق بالهبات و استردادها. لذا فإن استقراء الأوجه المحتملة للسياسة الأمريكية الحالية تجاه لبنان و سورية يحتاج الى معرفة مايفكر به المحافظون الجدد بخصوص هذه القضية، فما زال مكتب دك تشيني نائب الرئيس الأمريكي حتى الآن مطبخا للسياسات الخارجية الأمريكية والشرق أوسطية منها خاصة.
يرى المحافظون الجدد أن الولاية الثانية لجورج بوش الابن بحاجة الى "محور شر" جديد بعدما انتهت مدة صلاحية "محورالشر" السابق الذي لم يكن محوراً تحالفياً بقدر ما كان محوراً انتقائياً يضم ثلاث نقاط لثلاثة أنظمة تربطها بالولايات المتحدة علاقات عداء مشتركة ومتبادلة. و يصف تشارلز كوثمار وهو أحد أبرز أوجه المحافظين الجدد في مقال له بالواشنطن بوست معالم المحور الجديد بأنه يضم ايران وسورية وحزب الله بالإضافة إلى منظمات فلسطينية. تحتل ايران في هذا المحور التحالفي موقع الشريك الأكبر، لكنها ذات بعد جغرافي واسع يستعصي على التدخل العسكري التقليدي، بالإضافة إلى كونها بلداً نفطياً. أما حزب الله والمنظمات الفلسطينية كحماس و الجهاد فلا يمكن استهدافها بشكل واضح و دقيق كما تُستهدف الدول. والحلقة الأكثر فعالية في دعم توجهات هذا المحور هي سورية حسب رأي كوثمر، فهي تُؤمّن الولوج الإيراني إلى قلب العالم العربي ثقافياً وفكرياً. كما أنها حلقة الوصل اللوجستية بين ايران و حزب الله، لكنها مع ذلك هي الحلقة الأضعف في هذا المحورلأسباب عدة معظمها داخلي الصلة. فتغيير النظام في سورية – حسب قول المحافظ الجديد – سيؤذن بالنهاية العملية لهذا المحور. فإذا ماحصل تغيير جذري في النظام السوري فإن حلقة الوصل بين ايران و أحلافها في لبنان سوف تنكسر نهائياً مما يهيئ الفرصة لاحتواء ايران من جهة وإجبارحزب الله على تبني النهج السياسي والتخلي عن آلته العسكرية من جهة أخرى. قد تبدو هذه النظرية الجديدة حول المحورالجديد المزمع تسويقه بسيطة و مباشرة الى حد كبير، لكن خطورتها تكمن في تلك البساطة. فالمواطن الأمريكي و رئيسه لا يحبذون الطروحات المعقدة، ويكفي أنها تأتي من طرف موثوق به و يتم ربطها الى حد كبير بما يحدث في العراق اليوم لتحوز على الموافقة.
يبدو أن هذه القراءة المعدّلة للمحافظين الجدد قد بدأت تأخذ طريقها الى سلم أولويات السياسة الخارجية الأمريكية. وهذا ما يفسر خوف النظام السوري وارتباكه الشديد، كما أنه يفسر أيضاً التنسيق السوري المكثف مع ايران منذ حادثة اغتيال الحريري. ولعل ما فاقم المشكلة على القيادة السورية هو ردود أفعال أنظمة عربية مهمة غطّت النظام السوري في السابق كمصر والسعودية، مما يعزز المخاوف لديه بأن قراراً ما قد اتُّخذ بخصوص التغيير ولا رجعة عنه. وبغياب احتمال التدخل العسكري المباشر للولايات المتحدة لأسباب كثيرة؛ فإن احتمالات التغيير من الداخل يمكن تصورها على نوعين: إما العصيان المدني العام من قبل الشعب السوري وهذا مستبعد في ظل قانون الطوارئ والتمترس الأمني للنظام، أو أن تبادر مجموعة من الضباط ذوي الخبرة و النفوذ الكبير في الجيش بعد حصولها على ضمانات خارجية بتغيير النظام الحالي واستبداله بصيغة أقل تسلطاً وأكثر انفتاحاً مع الإبقاء على الحد الأدنى من المصالح الخاصة لذوي النفوذ. فالكثير يرى النظام الحالي وكأنه يبدوخائفا على نفسه من نفسه.
في مقابل التصعيد الأمريكي والواقع الدولي والاقليمي الجديد تبدو خيارات القيادة السورية في تناقص مستمر، واحتمالات عقد صفقات تنازلية لإبقاء الوضع الحالي على ما هو عليه إلى نضوب. خيارالقيادة المنطقي هو في العودة الى الشعب السوري كمرجعية وحيدة من خلال مؤتمر وطني يشمل كافة الأطياف السياسية دونما استثناء للاتفاق على دستور جديد وفتح صفحة جديدة من الوفاق الوطني. أما الخيار غير المنطقي فهو أن يستمر النظام السوري على عادته في المطاولة والممانعة مع تقديم بعض التنازلات غير المجدية بانتظار المجهول. وما يخشاه الشعب السوري من القيادة السورية الحالية هو احتمال تبنيها للخيار الأوليغاركي على الطريقة الروسية حيث يتم تحويل ملكية أصول القطاع العام لمصلحة طبقة أوليغاركية تتحالف مع طبقة سياسية وأخرى أمنية عسكرية في ظل السماح للأحزاب وهيمنة اقتصاد السوق المؤطّر احتكارياً لمصلحة فئة قليلةً.
لقد عوّدَتنا الأنظمة الشمولية أن لا تنزع إلى الخيارات المنطقية في حل الأزمات الوطنية. فهل يُجبر الشعب السوري وهو صاحب العلاقة الأساسي القيادة السورية الحالية على انتهاج الخيار الأسلم؟