هاجس الهوية وإشكاليات الفكر السياسي العربي...
هاجس الهوية وإشكاليات الفكر السياسي العربي...
قضايا الانتماء والتفاعل
عبد الرحمن حللي*
كان إحياء الهوية الاسلامية التي باتت مهددة من جانب التيارات الفكرية التي اجتاحت
ديار المسلمين، الهدف الأساس من السعي لإقامة الحكم الإسلامي، فاتجهت الحركات
الاسلامية الى التركيز على الهوية بدل الاجتهاد والاصلاح الذي بدأ قبل سقوط الخلافة
وتوقف وتضاءل مع حدوث ما هو أهم وهو هوية المجتمع والدولة، فكان السعي سياسياً
اجتماعياً في آن معاً، فقد جعل سقوط الخلافة المسلمين في مواجهة مع العالم، وظهر
للمسلمين فجأة أنهم أمام تحول جذري لكيانهم السياسي والاجتماعي فكان رد الفعل
الطبيعي عودة الى الذات، هذا المدخل جعل الفكر الاحيائي الاسلامي يقوم على مقولة
الهوية، والتي برزت بالخصوص على الصعيدين الفكري والسياسي.
فمثلاً الدراسات الناقدة للحضارة الغربية أو المجلِّية لخصائص الحضارة الاسلامية
كانت تدور في فلك الهوية، لذلك ظلت ثنائيات مثل الاسلام والغرب أسيرة ثنائية
الاسلام والفكر ودار الاسلام ودار الحرب، ولم تفلح المقاربات في الوصول الى تجسير
الهوة بما يخدم الهوية ذاتها أو الوعي بها، فضلاً عن تطوير الوعي السياسي أو
الحضاري لمسيرة العالم، إذ أورثت القطيعة تلك تصوراً مغلقاً للهوية استبعد فيه
البعد الانساني والفطري في الهوية الاسلامية والذي يتساوى فيه الجميع ومن خلاله
يخاطب الانسان بالمبادئ والقيم الاسلامية، وحتى لم تستطع تلك الدراسات ان تستثمر ما
هو مشترك من القيم لتقحيقها، إنما تجاذبت تلك القيم وحاولت إثبات الأسبقية فيها بغض
النظر عن الفاعلية في تحقيقها، فإشكالية المرجعية كانت واحدة من هواجس الهوية
المبحوث عنها في كل شيء.
وفي الجانب السياسي كان الهدف من الوصول الى الحكم هو تحقيق الهوية التي تماهت مع
العقيدة ومستلزماتها، فظهرت مشروطات عقدية لم تكن معروفة من قبل كالولاء والبراء،
والذي جعل الحراك السياسي في المجتمعات الاسلامية مقيداً بمقولة الإيمان والكفر وهو
حكم لا يقتصر على الأفراد بل يعم الدولة وأحياناً المجتمع، حتى ان التعاطي السياسي
بتأويل كان كافياً لدى البعض للتصنيف العقدي، ولئن كانت هذه رؤية واضحة لدى
المتطرفين من الاسلاميين الذين يستحلون دماء السياسيين على قاعدتها، فإن رؤية معظم
الاسلاميين في مقاربة العمل السياسي السلمي قامت على مبدأ المصلحة أو التدرج وتقديم
الأولويات، أما التنظير السياسي الاسلامي فلا يزال خطابه ينقصـه الكثـيـر من الوضوح
والتماسك تجاه الرؤية السياسية المعاصرة، فهو من جهة مشغول بهاجسي الهوية والشرعية
ببعديهما المطلق، وكلاهما يصطدمان مع آليات العمل السياسي المعاصر المحلي والدولي،
لكن ذلك لا يعكس عجزاً اسلامياً في التعامل العملي مع تلك الاشكالية، فقد أثبت
التجارب قدرة الاسلاميين على التكيف مع الشروط السياسية المعاصرة بل والنجاح في
تحقيق مصالح اسلامية بعيدة المدى (النموذج التركي)، وتحقيق أكبر قدر ممكن من القيم
الاسلامية التي فشلت الرؤى الاسلامية المتشددة في تحقيق بعضها.
هاجس الهوية الذي التصق بفكرة الخلافة بعد سقوطها أورث رؤية أحادية لنظامها
وتأويلاً مشتركاً للتاريخ يحفظ توازن النظرية السياسية، ولم يكن ممكناً طرح رؤية
نقدية لهذا التصور طالما أصبح يشكل مرجعية الحركة السياسية الاسلامية ونظامها
الأساسي، فكان أي طرح نقدي يعني انشقاقاً سياسياً على أرض الواقع، وهذه احدى خلفيات
الانشقاقات التي عرفـتـها الحـركات الاسلاميـة المعاصرة، تلك الانشقاقات كانت
تتــوزع بتدرج على صعيدين: الأول ينزع بالرؤيـة السياسية الى الزوايا الأضيق
الملتصقة بالهوية والمماهية بين جميع مفردات العملية السياسية: العقيدة والخلافة
والحاكمية والشريعة والجهاد من أجلها...، كل تلك المفردات كانت كلاً لا ينفصل، وهي
تكون أو لا تكون، فتمت المفاصلة بين المؤمن بهذه الرؤية وبين المجتمع الجاهلي الذي
لا يجسدهـا، أما الصعيـد الثاني من الانشقاقـات فكان في الاتجاه المضاد الموسع من
معنى الهوية والفاصل بينها وبين النظـر السياسي وتوسـع هذا الانشقــاق احياناً
ليـتماهى مـع العلمانية الفاصلة بين الدين والدولة.
ان العنصر الأهم الذي فعَّل هذا الجدل هو المتغيرات القسرية التي جدَّت في حياة
المسلمين في جميع ميادينها، ولم يكن هناك بد من التعاطي معها، فالتعاطي الايجابي
كان يفترض رؤية مرنة تتفهم تلك التحولات المقترنة بتحولات عالمية لا قبل للمسلمين
بها، وهم لم يصحوا بعد من صدمة تحول مجرى التاريخ من مركزيتهم الى المركزية
الغربية، أما التعاطي السلبي مع تلك التغيرات ورفضها فكان يعني الاصطدام والعنف
والانزواء لأن حركة التاريخ لا تسير وفق ارادات الأفراد والامنيات إنما وفق سنن
كونية، ومن لم يفهم هذه السنن ظن ان التغيير ممكن بجهود فئة محددة ومن خلال تغيير
نظام حكم في بلد معين أو إقامة نظام آخر على أسس اسلامية.
ان انشغال الفكر الاسلامي بهاجس الهوية جعل التنظير السياسي الاسلامي يغفل عن
الاجابة عن أسئلة كثيرة فرضها سقوط الخلافة والتحولات العالمية، وكان يمكن لهذه
الأسئلة ان تجد إجابات متقدمة لو استمر فكر الاصلاح الذي بدأ في القرن التاسع عشر،
وأبرز علامة على هذه الاسئلة طبيعة تصور العالم المعاصر ومقايسته الى العالم
القديم، وبناء الفقه السياسي المعاصر استناداً الى معطيات واقع الفقه القديم، على
رغم الاختلاف الشاسع في طبيعة وبنية كل، مع غفلة عن حركية الفقه القديم في التعامل
مع المتغيرات التي كانت تطرأ، ولعل أبسط مثال يمكن الاستشهاد به اليوم مفهوم الدولة
الاسلامية ذاته، فهل تكون الدولة اسلامية بتاريخية الأرض أم بقوانين الحكم أم بدين
الحاكم أو المحكوم أم بدستور البلاد أم بجميع ذلك؟ تلك أسئلة لم تكن مطروحة في ظل
الخلافة، إذ كانت كل تلك العناصر مجتمعة عملياً، أما اليوم فكلها متشتتة، وبالتالي
فنحن أمام مجتمعات إسلامية تحكمها دولة وقوانين علمانية، كما أننا بصدد أقليات
إسلامية في مجتمعات غير إسلامية تحكمها أنظمة علمانية أيضاً، وقد يتاح للمسلم في
الحال الثانية إقامة شعائر دينه وتحقيق القيم الاسلامية بطريقة لا تتاح في الحال
الأولى، ففي أي من الحالين ستعتبر الدولة الاسلامية؟ وبالتالي مفهوم الأمة والجماعة
هل سيكون مقيداً بحدود سياسية أو جغرافية؟ أسئلة كثيرة في العمق لم يسمح الزمن
بالإجابة عنها نظراً الى تسارع متغيراته، لكن اللافت ان الاحكام المطلقة على العالم
لا تزال مستمرة في وقت يعيش أضعاف عدد المسلمين في العالم العربي في ظل حكومات وبين
مجتمعات لا نصفها بالإسلامية.
ان مفهوم الدولة الحديثة التي أعقبت الاستعمار لا يمكن بحال مقايـسته الى شروط دار
الإسلام والخلافة، ولا بد من مقاربة جديدة للمفهوم المعاصر للدولة وآلية التعاطي
السياسي الاسلامي معها، وهذا لا يعني مفاضلة بين الحاضر والماضي، إنما لا يصح
منهجياً تصور الدولة الحديث على أنها استمرار للماضي والتعاطي معها على هذا الأساس،
ثم الحكم على العلاقات الدوليـة بناء عليـه، وهـذا لا يـقـتـصر على التصور السياسي
بل يستتبعه الكثير من الأحكام التعبدية والاجتماعية والاقتصادية، فمثلاً هناك من
العلماء اليوم من لا يوجب صلاة الجمعة على المسلمين في الغرب لأن ديارهم ليست ديار
إسلام، وهذا يستـتـبـع حكماً آخر هو وجوب الهجرة من تلك الديار، في الوقت الذي
يوفـد فيه المسلمون نخبة أبنائهم الى العرب لاستيراد العلم والطب وتطوير
مجتمعاتهم... أليـست مفـارقة حادة.
*
كاتب سوري