رسالة إلى الشهيد "مسعد قطب"

رسالة إلى الشهيد "مسعد قطب"

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

" شيَّع الإخوان المسلمون بالجيزة- بعد ظهر الخميس 6/11/2003م- الفقيد (43 سنة).

وردد المشيِّعون الهتافات ضد جهاز أمن الدولة المسئول عن استشهاد الشهيد "مسعد قطب"، ومنها: (مسعد مسعد يا شهيد... موتك خلى قلوبنا حديد)، (حسبنا الله ونعم الوكيل).

ومن ناحيته أكد المحامي- الذي تولى ملف القضية- أنه في انتظار تقرير الطب الشرعي، الذي لم يَصدر بعدُ وأعطى تصريحًا بالدفن، إلا أنَّ تقرير النيابة أثبت واقعة تعذيب "الشهيد"، وأكد التقريرُ وجود آثار التعذيب في أماكن متفرقة من جسد "الشهيد"، وأضاف المحامي أن قرار اعتقال "الشهيد" صدر بتاريخ 1/11/2003م وغير موقَّع من وزير الداخلية، وليس له رقم .

وحول رد فعل الجماعة عن هذا الحادث قال أحد القيادات الإخوانية: لا نستطيع أن نخرج عن دائرة التصرف السلمي، وكل قيادات الإخوان ملتزمة بعدم رفع اليد على قوات الأمن، وللأسف استغل الأمن هذا الخلُق أسوأ استغلال، فحسبنا الله ونعم الوكيل .

والشهيد "مسعد قطب- 43 سنة" يعمل محاسبًا في النقابة العامة للمهندسين، وقد حصل على معهد إعداد الدعاة، وهو متزوج، واعتُقل في وقت متأخر من المساء ، وتوفي يوم الاثنين الموافق 3/11/2003م، ورفض جهاز المباحث استلام الجثة من مباحث أمن الدولة، إلا أن ضغوطًا من قيادات أمن الدولة على المباحث اضطرتها إلى قبول الجثة وتسليمها إلى مستشفى (أم المصريين) العام- يوم الأربعاء 5/11/2003م- حيث أمرت النيابة بدفن الجثة، وأعطت تصريحًا بذلك.

من الجدير بالذكر أن معتقلا في الفيوم توفي قبلها بشهرين تحت التعذيب أيضا اسمه محمد الروبي اتهم بأنه يبث بيانات معادية لأمريكا .

**********

وتقول زوجة الشهيد مسعد " توالت الاتصالات.. وعلم الجميع بما حدث.. وقدمنا بلاغًا للنيابة لإعادة فحص الجثة قبل ذهابنا للمشرحة, وفي المستشفى فوجئت بما يزيد على ثلاثة آلاف من الجيران والأهل والإخوة نساءً ورجالاً من كل الأعمار ينتظرون خروجه، وأمام كل هؤلاء صدر تقرير الطبيب الشرعي بأن الوفاة كانت نتيجة لسكتة قلبية، فهدد المحامي ضابط أمن الدولة بأنه سيأتي بطبيب من الخارج ، فتم تغيير سبب الوفاة في لحظتها بهبوط حاد في الدورة الدموية, وأصررْت على رؤية زوجي قبل خروجه فأخذوني أنا وأخاه ووالده إلى باب المشرحة، ثم أخرجوه من الباب الخلفي حيث تجمهر الناس فلحقنا بهم هناك، وأصر الجميع على أن أراه، فكشفوا وجهه ليراه الجميع، وقد بدت آثار التعذيب الشديد عليه فرأسه مهشم تمامًا ومعوج، وعيناه تقريبًا غير موجودتين، وأذنه مقطوعة، ورأسه مفتوح من قمته مرورًا بالعنق إلى الصدر.

وبالرغم من هذا.. ومن سمرة لون زوجي.. إلا أنه كان مُنيرًا وضَّاء الوجه، ليس له أي رائحة منفِّرة، بالرغم من مرور ثلاثة أيام على استشهاده، لين الجلد والأطراف, فقبلته ودعوت له، وأهنئه بالحور العين، وأوصيه بانتظاري والشفاعة ليّ ".

**********

وأرفع هذه الرسالة كلمات من قلبي إلى الشهيد العظيم :

 كلمات من القلب - و أنا في عالم الزوال والفناء- إلى الشهيد "مسعد"، وهو في عالم الخلود والبقاء.

"مسعد".. أيها الشهيد، هل قرءوا قبل أن يقتلوك قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾؟ (الأنعام: 151)، وهل قرءوا قبل أن يقتلوك قوله تعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾؟ (المائدة: 32(.

ولو قرءوه يا ولدي ما فهموه، ولو فهموه لأخذتهم العزة بالإثم، ولم يبالوا أن يقتلوا بريئًا، أو يقتلوا الناس جميعًا، فهم أحرص الناس على الدنيا وزخارفها، ومتاعها الزائف الزائل.

" مسعد".. أيها الشهيد، يقول صاحبي- وهو يحاورني- لقد خاطر "مسعد" بنفسه، وبيده أوصلها للموت، وكان في يده أن ينقذ نفسه، فلو أنه أرشدهم إلى مخازن أسلحة الدمار الشامل التي يخفيها الإخوان، لأكرموه، وما قتلوه.

 ولو أنه من الذين استولوا على مئات الملايين من البنوك، لتغافلوا عنه، وما قتلوه.

 ولو كان يملك (فيلا) في (مارينا) بُنيت ب"تراب الفلوس"، لوقروه، وما قتلوه، ولو كان واحدًا من المنافقين، حملة المباخر، و"ماسحي الجوخ" المسبحين باسم الجبت والطاغوت، والهاتفين "بالروح بالدم نفديك يا رئيس"، لعظموه، وما قتلوه.

ولو كان جاسوسًا في حجم "عزام" (الصهيوني) لترفقوا به، وما قتلوه، ولو كان واحدًا ممن يرقصون ويراقصون، ويشربون وينادمون، ويقامرون، ما بين ساقي الخمر، والصاجات:

والكأس تتلو الكأس خذْ وهات              والطبل والمزمار.. واللذات

لاحتضنوه... وما قتلوه...

ما كان هذا طريقك:

"مسعد".. أيها الشهيد، ما كان هذا طريقك  يا ولدي  ولا طريق أصحابك الأبرار، مهما أغضبتم جهاز أمن مصر الكنانة المنكوبة، المحروقة.. نعم، ما كان هذا طريقكم:

لأنـكـم إخـوان iiمسلمونَ
" مـحـمد الرسول" iiتتبعونَ
وشـرعـة الجهاد iiتسلكونَ
ولا لـمال الشعب iiسارقونَ
انـظـر فهذا سِفْرنا iiالعتيدُ
طـريـقكم بيضاءُ لا iiتحيدُ
وكـاره ونـاقـمٌ حـقـودُ
لو مادت الأرض فلا تميدوا








بـالـعـزة الشمَّاء iiتُعرفونَ
والمصحف الشريف iiترفعونَ
لا الـظـالم الجبار iiترهبونَ
بل في متاع العيش iiزاهدونَ
قـد قـالـهـا إمامنا الشهيدُ
لـكـن عليها الشائك iiالكئودُ
لـتـحـذروا إياكمو iiتحيدوا
ولـتصبروا ولتثبتوا تسودوا

 أو أنت في سجلها شهيدُ

صبرًا آل مسعد:

قلبي معكِِ يا أرملة الشهيد حين كشفتِ عن جسده، ورأيْتِ وجهًا مفتت الجبهة، وجهًا متورم الشفتين، وجهًا بلا عينين، وجسدًا مثقلاً بالجراح والكدمات.

 فديتك يا ولدي "مسعد"، أيها الشهيد، وأنا أراهم يقطعون لسانًا عاش رطبا بذكر الله.

 فديتك يا ولدي "مسعد"، أيها الشهيد، وأنا أراهم يحطمون جبهة لم تسجد إلا لله.

 فديتك، يا ولدي "مسعد"، أيها الشهيد، وأنا أراهم يسْملون عينين، طالما بكتا في جوف الليل من خشية الله.

 فديتك يا ولدي "مسعد"، أيها الشهيد، وأنا أراهم يُسكِتون قلبًا لم ينبض إلا بحب الله.

 فديتك يا ولدي "مسعد"، أيها الشهيد، وأنا أرى سياطهم- قطعت أيديهم- تنهش لحمك، وتتوغل إلى عظامك؛ فما وهنت، وما لنت، وقلت: "ربي الله":

وكـانـت  سياط الظالمين iiشهادةً
وأن فـصـيـلَ المؤمنين iiيفوقهم
فـإن  كـذبـونـا فالجنائز iiبيننا
فـمـن كل فج بالألوف iiتواصلوا




بـأن دعـاةَ الحقِ أقوى iiوأصلبُ
ثـبـاتًا  ، وعدًّا لا يهون iiفيرهَبُ
سلُوها، فحكم الموت ما كان يكذبُ
ولـم تـدْعهم أم ، ولم يدْعهم iiأبُ

كنت أقوى من قاتليك:

ولدي "مسعد" الشهيد، لقد كنت أقوى من قاتليك؛ لأنك واجهتهم بصدر عار، إلا من قلب ينبض بالإيمان والتقوى، وهم واجهوك- يا ولدي- وأنت مقيد اليدين، مكبل الرجلين، معلقًا بين السقف والأرض، وهم واجهوك بأيد مطلقة إلا من دم الضحايا، وأدوات القتل والتعذيب.

 وواجهتهم- يا ولدي- بروح موصولة بالله، مترفعة عن الدنيا والدنايا، مطمئنة باليقين، راضية بقضاء الله وقدره، وهم واجهوك- يا ولدي- بنفوس مشحونة بالحقد والنقمة، مهتوكة بالتوتر والخوف.. الخوف الهائل المفزع من مستقبل مجهول، قد تتبدل فيه الأمور والأحوال والأوضاع، ما بين غمضة عين وانتباهها.

وارتفعت- يا ولدي- لأنك أنت الأعلى، وغاصوا هم في مستنقع البوار، نعم فزت وخابوا، وتحولت- يا ولدي- إلى مثال وضيء ميمون، وتحولوا هم- يا ولدي- كعهدنا بهم إلى مثال مظلم ملعون.

ولم يقرءوا- يا ولدي- قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "إن شرَّ الرّعاء الحُطمة"، ولو قرءوه- يا ولدي- ما فهموه، ولو فهموه- يا ولدي- لأخذتهم العزة بالإثم، ولم يبالوا وهم يحطمون عظام الضحايا، ويحطمون أرزاقهم، ويحطمون حجرات مساكنهم وما حوت.

 تُرى أيعلمون- يا ولدي- أن "الحطمة" لم تستعمل في القرآن إلا وصفًا لنار جهنم، وأن الرعاء جمع "راع" والراعي يتسع مفهومه لكل مسئول في موقعه على حد قول الرسول- صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع، وكل راع مسئول عن رعيته"، والراعي السيئ- يا ولدي- كالنار تأكل وتحرق، وتحطم ووتدمر ولا تبالي.

على من أبكي؟!

وفي النهاية أسأل نفسي- يا ولدي- على مَن أبكي؟ أأبكي عليك إذ فارقتنا؟ ولكن هيهات.. أأبكي على مَن فارق دار الفناء إلى دار الخلود والبقاء؟ وكيف أبكي شهيدًا انتصر على الموت، وأصبح عند الله من الأحياء الذين يُرزقون؟ وكيف أبكي شهيدًا يعيش الآن مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا؟ وكيف أبكي شهيدًا قال عنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم:"سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فنهاه فقتله"؟

 وكيف أبكيك- يا ولدي- وأنت وإخوانك الذين سبقوك إلى الشهادة، يصدق عليكم قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من فضل الشهادة".

 ولكني أبكي عليهم- يا ولدي- على أبطال أمن مصرنا الذين عذبوك وقتلوك؛ لأنهم قوة كان من المفروض أن تكون لمصر على أعدائها، فتحولوا- بما أثموا- قوة لأعدائنا علينا… قصدوا.. أو لم يقصدوا.

بل أبكي على مصر:

وبأيديهم- يا ولدي- خسفوا قمر مصر، وكسفوا شمس مصر، وأصبحت أُمُّنا مصر أضيع من الأيتام على موائد اللئام:

حين صالت عصابة الإفك iiبالغدْ
فـحـضرنا  جنازة العدل والقا
إذْ  تـولـى الزمام ظفرٌ iiونابٌ
ويـح قلبي لم تعد مصرُ مصرًا
قـطـع  المنْسِرُ الطريقَ عليها
والـظلام الكئيب يروي iiالحكايا
ذا  شـهـيد هوى بسوط iiونار
ذنـبـه  أنـه اسـتعاذ iiونادى
وبـحـقٍّ  أبَـى السجودَ iiلطاغٍ
وأبـيًّـا  بـكـى لـحريةٍ iiمهْ
والأبـاةُ الإخـوان فـي iiظلمةِ
هل يُضام الذي يعيش على نور












ر عـلـى الحق صولة iiالثعبانِ
نـون  والوعي والعلا iiوالحنانِ
وسـيـاط،  وصـولة iiالسجانِ
وهـي كـانـت كَدُرَّة الأوطانِ
وشـرَوْهـا لـلداعر iiالقرصانِ
دامـيـات  عن شرْعة iiالغيلانِ
بـالـتـقـى  مـقلتاه iiتلتمعانِ
"ربـي الله، إنـه iiمُـسـتعانِي
وركـوعًـا لـعصبة iiالشيطانِ
تـوكةِ العرض والقوى iiوالكيانِ
الـسـجن مع النيِّرات iiالمثاني
الـضحى  والإسراء iiوالفرقان؟

 ولدي "مسعد قطب"، أيها الشهيد، مثلك لا يُضام، فأنتم أصحاب العزة: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: 63).