يا محافظ الدقهلية...رحم الله زياد بن أبيه
يا محافظ الدقهلية...رحم الله زياد بن أبيه
أ.د/
جابر قميحة
يقولون: «إن كلام الملوك يجب
أن يكون ملك الكلام», وهي حكمة رائعة مؤداها أن الأداء التعبيري يجب أن يتناسب -في
المبني والمعني- مع مكانة المتكلم وأبعاد شخصيته.. في المجال الذي يشغله, يستوي في
ذلك مجالات السياسة, والعلم والثقافة, والقضاء.. وغيرها, لأن «الأسلوب هو الشخصية».
فأسلوب الأمراء والقادة والنبلاء غير أسلوب السوقة والدهماء وعامة الناس, وبقدر
ارتفاع الموقع والمنصب الذي يشغله الشخص -إمارة وقيادة ورياسة- تُشد الأنظار,
ويعسّر الحساب, وذلك لسببين:
الأول: الشهرة والانتشار لكلمة القيادي أو قراره.
والثاني: خطورة التأثير نفعا أو إضرارا, ولاقتداء الناس بالقيادي, أو تنفيذ ما يصدر
عنه جبرا أو رضاء.
وهذا ما نبه إليه «زياد بن أبيه» إلي معاوية بن أبي سفيان علي البصرة (ت : سنة
53هـ) إذ قال -في خطبته المعروفة بالخطبة البتراء في أهل البصرة في غرة جمادي
الأولي سنة 45هـ- «ألا إن كذبة المنبر (أي الأمير) بلقاء مشهورة. فإذا تعلقتم عليّ
بكذبة فقد حلت لكم معصيتي, فإذا سمعتموها مني فاغتمزوها فيّ» (أي اعتبروها من
عيوبي, وأظهروها لي) . وفي تاريخ الطبري: «قال الإمام الشعبي: فوالله ما تعلقنا
عليه بكذبة, وما وعدنا خيرا ولا شر إلا أنفذه..».
محافظ الدقهلية وأوكازيون
الأرقام
ومن ثم تظل نقطة سوداء نتنة عبارات «ارتكبها بعض حكامنا -في عهد الميمونة-
كقول أحدهم في خطاب عام عن أحد الملوك العرب: «إحنا مضطرين ننتف دقنه».. وحديثه عن
ملك آخر «بأنه ابن فلانة», وقول آخر عن الشيخ العالم الفاضل أحمد المحلاوي: «.. أهو
مرمي في السجن زي الكلب...».
ثم كان يوم السبت الخامس من فبراير سنة 2005... يوم افتتاح أسبوع شباب الجامعات
بالمنصورة, ولأنني واحد من أبناء الدقهلية جلست أمام التلفاز أسمع وأشاهد مظاهر هذا
الافتتاح الذي حضره رئيس الجمهورية, ورجال الوزارة, وكبار النبلاء من قادة الحزب
الوطني (حزب الأغلبية «الساحقة»(!!).
وسمعنا فيما ألقي من كلمات أرقامًا عجبًا: مائة وعشرين ألفا -خمسة آلاف- خمسة
ملايين.. والأرقام يقصد بها بشر من بني آدم هم «الرعايا» من أبناء الدقهلية من
أمثالي.
والكل في واحد: عجبي!!
فالسيد المبجل الدكتور مجدي ريان -رئيس جامعة المنصورة- يتحدث إلي الرئيس
مبارك قائلا: «... باسم مائة وعشرين ألف طالب وطالبة في الجامعة وخمسة آلاف عضو
هيئة تدريس وتسع عشرة كلية تضمها الجامعة, نناشدكم النزول علي رغبة الملايين من
أبناء مصر بالترشيح لفترة رياسة جديدة...
ولكن محافظ الدقهلية اللواء أحمد سعيد صوان ارتفع بالرقم «ليحصد البريمو» فدخل
عالم الملايين وأعلن أنه يتحدث بالنيابة عن خمسة ملايين هم أبناء الدقهلية, وناشد
الرئيس أيضا أن يستمر في حكم مصر..
ثم فجّر الرجل قنبلة «نظيفة» لا تخطر علي ذهن مخلوق.. ولا الجن الأزرق. فقال بالحرف
الواحد: «إن الدقهلية لن تنتظر إلي مايو أو يونيو لتعلن استمرارك في قيادة البلد,
لكنها تعلنها الآن من المنصورة من خمسة ملايين مواطن...» (!!!!).
إنه تزوير يا محافظ
لقد كان اللواء «صوان» -محافظ الدقهلية- يتحدث بحماسة واندفاع وحرارة,
واشتعل الرأس منه حماسة وانفعالا وحرارة, وهو يفجر قنبلته الأخيرة.. أي قراره
الأخير. وأمام قنبلته هذه شعرنا -دون مجاملة له- أنه ينطلق من عدة منطلقات قوية
متماسكة.. شعرنا كأنه ينطلق من منطلق «الثقة بالذات» فهو يري نفسه جديرا بتمثيل
خمسة ملايين (مرة واحدة). وشعرنا كذلك كأنه ينطلق من منطلق الثقة الغيرية.. أي ثقة
الجماهير فيه بأن يكون «ممثلا».. نعم.. ممثلا لهم.. وعنهم : إرادة وتفكيرا أو
تعبيرا.
وإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أن اللواء شرطة الدكتور صوان قد «حسم» المسألة
بصورة تدعو ضمنيا إلي عدم الحاجة إلي إجراء استفتاء علي رياسة الجمهورية لسببين
طرحهما السيد ل. ش (صوان) وهما:
1- أن خمسة ملايين صوت تُجمع علي بقاء الرئيس مبارك فيها «الكفاية».. وزيادة .
2- أنها -أي الملايين الخمسة- أعلنت وقررت علي لسان السيد المحافظ صوان استمرار
مبارك في الحكم .
مجرد تساؤلات.. يا محافظ
وساءلت نفسي -وأنا واحد من أبناء الدقهلية- بـأي منطق يتحدث هذا الرجل وفي
الحفل وزراء وقادة ومحافظون وأساتذة جامعيون ومحامون وقضاة..? وهو يعلم أن أبناء
الدقهلية علي مستوي عال من الثقافة والتفكير?
وعلي افتراض صحة الرقم المليوني هذا, من أنابه منهم وسمح له بأن يمثلهم, ويتحدث
باسمهم? أهي ثقة في شخصيته, فهو مقصود بذاته -لا غيره- بهذه الإنابة وهذا التمثيل?
أي لو استُبدل به محافظ آخر هل سيتغير الوضع? أم هي ثقة من «الرعايا» في المنصب
ذاته? ولو صح هذا لكانت كارثة نفسية, وإلغاء لإرادة -بل شخصيات- خمسة ملايين من
البشر.
ثم أليس في هذه الملايين الخمسة كارهون للنظام والحكم بسبب المشكلات القاتلة
التي أغرقتهم?
ثم أليس ما قلته -يا محافظ - يمثل نوعًا من «التزوير الجماعي» لأنك جعلت كل
الإرادات إرادة واحدة إذ ادعيت وجود ما لم يوجد من أول نشأة الخليقة حتي الآن. فقد
خلق الله الناس مختلفين في الشكل والمشارب والخلق والتفكير?!.
وأقول لك يا سيدي «صوان»: إننا لو تصورنا أو تخيلنا استفتاء عصريًا في عهد
النبوة.. مثل استفتاءاتنا -ولكنه حر نزيه- لكانت نسبة «نعم» ستين أو سبعين في
المائة علي الأكثر, لأن ثلث أهل المدينة كانوا من المنافقين -وإن أخفوا نفاقهم .
إنها ردة سياسية..
ثم ألم تر يا سيدي اللواء صوان أنك بمقولتيك: (إنابة الملايين لك, وقرار
استمرارية الحكم المباركي من الآن بقرلر انفرادي) قد قمت -زيادة علي التزوير
بالادعاء- بعملية «ردة سياسية»?! ردة إلي ما قبل الميمونة في العهود التي يسمونها
بائدة , أيام أن كان «الباشا» هو كل شيء في القرية والعزبة والنجع.. وأصوات
الفلاحين كلها في جيبه. آه... رحمك الله يا عرابي إذ رفضت في قوة مقولة الخديو
توفيق: «إنما أنتم عبيد إحسناتنا».
ثم ألا تري يا سيدي اللواء شرطة «صوان» أنك أحرجت بقية المحافظين», لأنك لم تترك
لهم شيئًا بعد أن أعلنتها من المنصورة بقرار امتداد الفترة الرياسية الخامسة من
الآن, بعد عجزك عن الصبر إلي مايو أو يونيو?
فرض جنوني
غريب..
ثم إني أعتقد أنك أحرجت
الرئيس مبارك ضيف المحافظة» لأنه يرفض أن يتخذ واحد من محافظيه قرارًا -هو موضوعه-
دون أن يستأذن فيه .
ثم إنك فتحت بابًا واسعًا جدًا للنفاق وإهدار ملايين الجنيهات- بعد إهدارك
إرادتنا نحن أبناء الدقهلية. افتح – يا محافظ - , وافتحوا - أيها الرعايا- الصحف
لتقرأوا عشرات الصفحات من الإعلانات للمحافظة.. والشركات.. والنقابات والمحلات
والمصالح تناشد الرئيس الموافقة علي التنازل لقبول «المد» , مع أنك - يا سيدي
«صوان»- حسمت المسألة , كما قلت آنفا .
ثم أوجه إليك سؤالاً يا لواء الدقهلية -يا سيدي صوان- وهو سؤال افتراضي جنوني:
بماذا كنت تردَّ لو أن مواطنًا قاطعك أو علّق علي خطابك معترضًا وقال: من الذي
أعطاك حق الإنابة والتمثيل, وأنا واحد من الناس لم أنبٍك , ولم أفوضك في التعبير عن
رأيي?
إنه سؤال أو اعتراض قد يدخل صاحبه التاريخ ولكنه -بالتأكيد- سيدخله مكانًا أو
أماكن أخري!!
ورحم الله زياد بن أبيه..
وأهدي هذه الواقعة التاريخية للسيد اللواء الدكتور أحمد سعيد صوان
وخلاصتها: حمل زياد بن أبيه في خطبته البتراء علي أهل البصرة بقسوة وشدة أرعبت
الناس, فقام إليه أحد الحضور -واسمه عبد الله بن الأهتم- وقال: «أشهد أيها الأمير
لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب». فقال زياد -بصوت عال عنيف: «كذبٍت.. كذبت يا رجل
فذلك لم يكن إلا لنبي الله داود عليه السلام». وبعدها لم يعرف أهل البصرة إلي
النفاق سبيلا..
آه.. يا سيدي المحافظ اللواء صوان ما أشد احتياجنا إلي مثل هذا الصوت.. صوت زياد بن
أبيه!!