بين يدي تقرير مجلس الأمن القومي (الأمريكي)...

خلافة جديدة سنة 2020

م. حسن الحسن

[email protected]

ليس مستغربا أن تغفل النخبة المثقفة من أبناء الأمة حقيقة الواقع الذي تحياه أمتهم، فضلا عن انعدام قدرتهم على استشراف سليم لمستقبلها. في حين يقوم خصوم الأمة وأعداؤها بتكثيف جهودهم لفهم ماضيها ودراسة حاضرها وتنبؤ مستقبلها، كي تبقى الأمة تحت سيطرتهم و لا تتفلت خيوطها من بين أصابعهم، فتهدد مصالحهم وتفسد عليهم مخططاتهم.

فقد صدر تقرير خبراء المجلس القومي للبحوث والدراسات الاستراتيجية التابع للاستخبارات المركزية الأمريكية CIA، الذي شارك في اعداده 1000 خبير خلال 30 مؤتمر في خمس قارات، راسما أربعة سناريوات محتملة للنظام العالمي في عام 2020، أتوقف مع إحداها وهو ما أصاب "مثقفينا ومفكرينا" بالصدمة والذهول حين قراءته ألا وهو: قيام خلافة جديدة، تجتاح العالم الإسلامي محاولة صهره في دولة واحدة، بعد أن تنجح في إسقاط العديد من أنظمته (بخاصة في الشرق الأوسط).

وأضع بين يدي القارئ مختصرا للسيناريو المطروح من رسالة طويلة مفترضة كتبها الخبراء على لسان حفيد الشيخ أسامة بن لادن إلى قريب له يصف له واقع تلك الخلافة، أقتبس منها ما يلي:

"بسم الله الرحمن الرحيم ... كان جدي يؤمن بالعودة الى عهد الخلفاء الراشدين عندما حكم قادة الإسلام امبراطورية كحماة حقيقيين للدين ... كان يتصور أن الخلافة ستحكم مرة أخرى العالم الإسلامي وستستعيد البلدان المفقودة في فلسطين وآسيا وستجتثّ نفوذ الكفار الغربيين أو العولمة كما يصرّ الصليبيون على تسميتها. وسيكون العالم روحياً ودنيوياً في طاعة واحدة لإرادة الله، رافضاً فصل الكنيسة عن الدولة الذي يراه الغرب. وعندما أفكر في الأمر ثانية لا أدري كيف قصّرنا في تصور ظهور الخليفة ...، ولكننا نفاجأ جميعاً بذلك، المؤمن منّا والكافر. أصبح للخليفة ... أتباع على مستوى العالم. لم يكن القاعدة ولم يقد حركة سياسية مثل جدي ... لم يتلطخ بقتل الأبرياء المؤسف الذي سواءً اعترف به جدّي أم لم يعترف قد منع البعض من دعم القاعدة. ولقد تدفقت مظاهر الولاء والمال من البلدان الإسلامية من على بعد نصف الكرة الارضية من الفليبين واندونيسيا وماليزيا وأوزبيكستان وافغانستان وباكستان. وقد تابعه أيضا بعض الحكام من النخبة آملين تقوية قبضتهم المرتجفة على السلطة. أما في أوروبا وأمريكا فالمسلمون الذين لم يكونوا يمارسون دينهم استيقظوا ليجدوا هويتهم الحقيقية ودينهم الحق، وفي بعض الحالات، تركوا خلفهم آباءهم المستغربين (عكس المستشرقين) المذهولين وعادوا لبلادهم الاصلية. حتى بعض الكفار تأثّروا بروحانيته. فالبابا مثلاً حاول بدء حوار بين الأديان معه. والمعارضون للعولمة في الغرب ولهوا به. وخلال فترة قصيرة بدا واضحاً أنه لا بديل عن الاعلان عما كان الكثيرون يتوقون اليه الا وهو خلافة جديدة.

لقد كانوا معتدّين بانفسهم كثيراً عندما ظنّوا أنّ علينا أن نسلك نفس الطريق من بعدهم في سبيل العلمانية إذا لم يكن ممكناً تحويلنا مباشرة الى ما يسمى بنظام القيم اليهودي النصراني. هل تستطيع أن تتخيل النظرة التي على وجوههم كرياضيين مسلمين في الألعاب الأولومبية وقد تخلّوا عن ولاءاتهم الوطنية وأعلنوا بدلاً من ذلك عن ولائهم للخلافة؟ قد جرى تحطيم كل شيء: نفس المؤسسات التي زخرفها الغرب ليسجننا فيها بحسب نظرتهم العالمية-الديموقراطية والدول الوطنية ونظام عالمي يسيرونه بانفسهم _ كل ذلك يبدو أنه قد انهار.

وكان البترول أيضا في ذاكرتهم، ولقد سيطرنا عليهم كما لم يحدث من قبل ... انتشرت الشائعات عن احتلال الولايات المتحدة أو الناتو لحقول النفط من أجل حمايتها من استيلاء الخلافة عليها. وسمعنا فيما بعد أن الولايات المتحدة لم تستطع أن تقنع حلفاءها للقيام بتدخل عسكري، وأن واشنطن كانت نفسها قلقة من إحداث ردة فعل اسلامية على مستوى العالم ...

ويسود الارتباك ... يوجد جيوب مؤيدة للخلافة ولكنها لم تستطع بعد في إسقاط الأنظمة. نحن قريبون جداً من ذلك في آسيا الوسطى واجزاء من باكستان وافغانستان حيث تحتدم حرب أهلية. تنهمك روسيا في محاربة المقاومة وفي إسناد الأنظمة الاستبدادية في آسيا الوسطى. ومن المفارقات أن الولايات المتحدة أصبحت حليفة لروسيا في هذا الوقت..... انتهت الرسالة، ومن ثم يضع التقرير دروسا مستفادة من السيناريو يقدمها لأصحاب القرار وهي على النحو التالي:

لا تحتاج الخلافة ان تنجح بالكامل كي تفرض تحدياً جدياً للنظام العالمي

من المحتمل أن تزيد الثورة في تكنولوجيا المعلومات الصراع بين العالمين الغربي والإسلامي

سيختلف الإعجاب بالخلافة من قبل المسلمين من منطقة لأخرى، مما يدعو الدول الغربية لاتخاذ مواقف مختلفة في مواجهتها

لن يقلل الإعلان عن خلافة احتمال الإرهاب. ومن خلال إثارة صراع أكثر فإنه قد يشجع جيلاً جديداً من الإرهابيين يرغبون في مهاجمة أولئك الذين يعارضون الخلافة داخل وخارج العالم الإسلامي. انتهت الدروس المستفادة

إن الافتراض المتخيل بإقامة خلافة عام 2020، وإن جاء كاحتمال من قبل واضعي التقرير، إلا أنهم يعون أن جنين ذلك المشروع قد نما منذ أمد بعيد في رحم الشرق الأوسط الكبير، وهو في طور المخاض الأخير قبل الولادة. يتضح ذلك من خلال مضمون التقرير ودقة التصورات المطروحة، من عقبات وتفاعلات ومواجهات، بل أستطيع أن أقول أن التقرير هو نوع من المكاشفة لواقع بات لا يمكن إخفاؤه فضلا عن تجاهله.

فقد سبقهم المفكر السياسي الفذ العلامة تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير – المعروف باسم حزب الخلافة - إلى خلاصة هذه الدراسة مبكرا، فقد بشر منذ بدايات سبعينات القرن العشرين بقوله "لقد قامت الخلافة ... وكل ما يحتاج إليه هو إعلانها" وتفسير ما ذهب إليه هو أنه قد أدرك بفراسته وعمق نظرته آنذاك انتهاء الشيوعية وتحول روسيا إلى دولة استعمارية - ذكر ذلك في كتابه نظرات سياسية عام 1974 - كما توقف المد القومي والوطني والاشتراكي والليبرالي في العالم الإسلامي وسقطت أفكاره كأوراق الخريف المهترئة لتصبح هشيما تذروه الرياح، بعد أن استهلكت في تحقيق مخططات المستعمرين. ومع ذلك السقوط، كان لا بد من العودة المجيدة إلى الإسلام، الذي يصوغ الحياة كلها بحسب نمط من العيش منبثق عن منهج الله ومحققا رسالته التي لا تحمل الأمة ولا حملت يوماً غير عقيدة الإسلام.

لذلك فإن التوقعات التي يحملها التقرير فيما يتعلق بقيام دولة الخلافة وإن كانت مفترضة من قبل الخبراء، إلا إنها مسألة وقت لا غير من منطلق الواقع المجرد، وقد باتت الحل الوحيد المتبقي أمام هذه الأمة في ظل انهيار كافة الخيارات المشؤومة الأخرى.

أما بالنسبة لبقية التوقعات والعقبات التي ذكرها التقرير والتي من شأنها تعقيد توسع دولة الخلافة واستقراراها، فأجسمها: المواجهة المحتملة مع الغرب. ومع رجحان حدوثها بحسابات الواقع الحالي، فإن دولة الخلافة قادرة على معالجة هذا النوع من الأزمات، كونها دولة شرعية تمثل أمة تنتشر في أصقاع العالم كله شرقه وغربه شماله وجنوبه، وليست وطنا يخضع لمعايير جغرافيا وثقافة الاستعمار، مع تمركزها في بقعة واسعة وحساسة في العالم، مما يجعل المواجهة معها أمر دونه شوك القتاد، وهو أمر سلم به معدّو التقرير سلفا.

أما ما دون ذلك من عقبات ومعوقات، فإن طبيعة النظام السياسي في الإسلام "دولة الخلافة"، كفيل بحل كثير منها، طالما أحسن تطبيقه، وهو ما سيجذب خصوم العولمة الظالمة – حسب التقرير نفسه - فكيف بأبناء الأمة الإسلامية الذين تلوعوا من الواقع البئيس الذي يحيونه، الذي لم يبق لهم دنيا ولم يترك لهم من دينهم سوى قصصا من تاريخ مجيد، فانتصار هؤلاء لدولة الخلافة التي تنأى عن الروح القومية والصفة الحزبية وتعمل على رعاية الأمة بما ينفعها حقا، هو امر لا شك فيه عندما يرونها ماثلة أمامهم للعيان.

وفي السياق، لا بد من التذكير بأن من أهم معوقات إقامة دولة الخلافة التي يتنبؤ بها الخبراء، هو ذلك العبث الفكري والتسكع السياسي الذي يمارسه فريقان: الأول هو تلك الحركات السياسية التي انسلخت عن المبدإ وارتضت بالواقعية الرخيصة لتسلك سبلا رسمها أعداء الأمة لها، بحجة أنه لا يمكن التوصل إلى حل ما لم يهندس في عواصم القرار العالمي. وقد قالت مادلين أولبرايت بشأن هؤلاء "الإسلاميين" إثر زيارتها الأخيرة لمصر " أنهم براجماتيون وأنهم على استعداد للتعاون مع أمريكا إذا رأوا أن مصلحتهم الحقيقية تقتضي ذلك". والفريق الثاني هو شلة المثقفين والصحفيين وعموم العاملين في الحقل الإعلامي، أصحاب أنصاف العقول وأعشار الثقافة، حيث تغيب القاعدة الفكرية المبدئية الصلبة تماما عن أذهانهم، مما يؤدي إلى ضبابية في رؤاهم واهتزاز دائم في مواقفهم، مما يلقي بهم وبأتباعهم إلى اليأس والإحباط. ولذلك يتفاجأون، كما قرأت لبعضهم، بذلك التقرير، مستهجنين ومستهزئين بما وصل إليه. ومما يخزي حقا أن جل طموح هؤلاء بات منصبا على تحقيق أي تغيير ممكن ولو إلى الأسوإ ولو كان عن طريق إبليس. ويلاحظ أن أغلبهم قد اكتفى بوظيفة أُلقمها في فيه أو مصلحة ما ربط عنقه بها، فباتت تحليلاتهم وكتاباتهم وتعليقاتهم وتنظيراتهم مرتبطة تماما بمخلفات مومياءات أنظمة الحكم الظلامية المصرة على خنق الأمة ووأدها، أو التبشير بخلاص يأتي به الغرب، الذي بنى لهم مراكز ثقافية وفكرية بحجة تنوير الأمة بإشعاعات انحلاله وانحطاط انسانيته.