البحث عن وطن قومي للعربي في أرضه2

البحث عن وطن قومي للعربي في أرضه

(2)

بقلم: الدكتور جابر قميحة

[email protected]

الظلم ظلمات

حقًا, إن الظلم ظلمات.. لأنه يعمي بصيرة الطاغية الظالم. ولا أسرف إذا قلت: إنه يعمي بصره كذلك, فلا يري الحقيقة في واقعها الحقيقي, بل يكون حوله من "يري" له, ويزين له كل ما يرضيه, ويقلب له الحق باطلاً, والباطل حقًا, فهو الزعيم الأوٍحد, وهو المنقذ الأول, وهو العبقري الأول, وعن مثله عقمت النساء. وهو سعيد ببطانة السوء هذه, إنهم "هامان وأوتاد" كل عهد, الباحثون عن متع الحياة الدنيا.. ملوك "الهبش" و"الهبر".. حملة المباخر.. أرباب الكذب والنفاق.
وما أسعد بطانة السوء حين يرون مثل هذا الحاكم أحمق غبيًا.. يضعهم في سويداء قلبه, وبهم يري, وبهم يفكر, وبهم يسعي, وبهم يبطش.. ويمضي أعمي القلب.. أعمي الضمير, أعمي البصيرة, أعمي البصر, وكأنه المقصود بقول بشار بن برد:
أعمي يقودُ بصيرًا لا أبا لكمو
قد ضلّ من كانت العميانُ تهديه
صدقٍتَ والله يا بشار "قد ضل من كانت العميان تهديه" وهل انكسرت شعوبنا, وتخلفت, وصارت طعامًا مستساغًا لأعدائها إلا لأن حكامها, وقادة مسيرتها هم العميان?!
وفيهم نزفتُ شعرا
ولا أبالغ إن كنت قد رأيت في كل واحد من هؤلاء في قصيدتي "براءة" نموذجًا مجسدًا لـ"الشر والشيطانية":
كأنه لبني إبليس نسبتُهُ
دستوره البغي والإحجاف والغَشَمُ
السجن والقيد والعدوان عدته
وشر أعدائه الإسلام والقيم
يقتات دمع الضحايا في زنازنهم
كأن أناتهم في أذٍنًهً.. نَغَمُ
ويدّعي أنه للعدل ملجؤه
وأنه للجياع الخبزُ والأَدَم
وأنه عبقري العصر والعلم
ومثلَ فطنته لم تُنجب الأُمم
وهٍو الذي ذبح القانون من سفه
وضج مما جناه الحًلُّ والحرم
له بطانة سوء كم طغت وبغت
وهم علي الشعب دوما نكبة عَمَمُ
يأيها الذي ماتت بصيرتُه
حتي استوت عنده الأنوار والظلم
لقد غدوت كوحش ناش إخوته
ولم ترقّ لمن كانت لهم رحم ُ

رأيت نارك فىالأعداء باردة

لكن على الأهل جمر ساعر حمم

الطاغية وتوثين الذات
إن الظلم أبشع الآفات التي تصيب النفس البشرية, وهو يأخذ صورته الضارية إذا ملك الظالم من القوة ما يجعل الظلم آلية سهلة لتنفيذ مآربه, وتحقيق ما يشبعُ نفسه المريضة. هو شذوذ في أعتي صوره لأنه تمرُّد علي الفطرة الإنسانية, وجور علي بني آدم وقد كرمهم الله, وجعلهم أكرم المخلوقات.
والحاكم الظالم يستبد به الغرور, ويتدرج به إلي أن يُغرق نفسه في مستنقع توثين الذات. وفرعون مصر هو أصرخ النماذج في هذا المجال" فقد رفض دعوة موسي عليه السلام {فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى} [النازعات:23, 24] وليس من الضروري أن يكون توثين الذات بادعاء الألوهية, ولكن بإنكارها, والنظر إليهاوإلي الدين كظاهرة كانت مرتبطة بالطفولة الأممية وعصور التخلف في الماضي, ومن أمثلة هؤلاء هتلر وموسوليني. ومن القصص المشهورة أن "جوبلز" (1897- 1945) -وكان وزير الدعاية والأنباء في عهد هتلر- كان يشرف علي إعدام أحد القسس, فقال له: "لا تعدمني, واتق الله فيّ" فرد عليه قائلاً: "لم يعد العصر عصر الله يا غبي, إنما هو عصر الفوهرر هتلر", وانتهي به الأمر إلي الانتحار هو وزوجته وأولاده وزعيمه هتلر في أول مايو 1945.
آفات أخري.. وتبريرات ساقطة
وانطلاقًا من هذه الآفة -توثين الذات- نري الطاغية يتسم بالأثرة, وحب النفس, فهي مدار تفكيره, وهي المعيار الذي يزن ويقيس به أعمال الآخرين, فما اتفق مع هواها هو الطيب الخيّر, وما خالفها هو الباطل والخطيئة.
ومن هنا تأتي استهانة الطغاة بشعوبهم فهم في نظرهم "دهماء" لا يستحقون أن يشاركوا في سياسة تقرر مصيرهم, أو تسيّر أمورهم, إلا علي سبيل الظاهر الكذوب "للترضية" وإسكان الأصوات.
ومع آحادية هذه النظرة نري الطاغية متشبثًا بكرسي الحكم, يعض عليه بالنواجذ, وإذا تعارض هذا "التشبث الأبدي" مع دستور الوطن, ومصالحه وأعرافه, رأيت بطانة السوء, ومَن وراءهم من حملة المباخر الآكلين على كل مائدة يرفعون أصواتهم بالتبريرات الجاهزة المعدة سلفًا لمثل هذه المواقف. فتسمع من يقول: إن الدستور وسيلة لا غاية, فإذا تعارض بقاء "الحاكم الفلتة العبقري الموهوب" مع نص "جامد" من نصوص الدستور غضضنا النظر عنه, ليستمر الحاكم "الفلتة" لأن مصلحة الوطن أهم من كل دساتير الدنيا.معدة سلفًا لمثل هذه المواقف. فتسمع من يقول: إن الدستور وسيلة لا غاية, فإذا تعارض بقاء "الحاكم الفلتة العبقري الموهوب" مع نص "جامد" من نصوص الدستور غضضنا النظر عنه, ليستمر الحاكم "الفلتة" لأن مصلحة الوطن أهم من كل دساتير الدنيا.
وتتوالي "تدعيمات" هذه المقولة, بصرخات عاطفية أخري: فليبٍقَ.. وليستمر.. ليستكمل مسيرة الرخاء, ومسيرة السلام.. ومسيرة التنوير.
ثم يتحول بعض الأصوات بنبرة عالية إلي القول: أيها المعترضون لو كنتم صادقين في اعتراضكم, مقتنعين به رعاية لمصلحة الوطن: اذكروا اسم شخص يصلح أن يكون بديلاً.. يستطيع أن ينجز بعض ما أنجز الزعيم الفلتة.. وطبعًا لا يكون إلا الصمت.. خوفًا علي مصير "البديل المقترح". والمعروف تاريخيًا أن الحكام في الشرق العربي لا يتركون الحكم إلا بالموت أو الاغتيال, هذا إذا استثنينا رجل السودان العظيم "سوار الذهب".
وكل ما ذُكر من تبريرات تنطلق من فراغ وتعد فارغة لأنها تحاول أن "تمنٍطق" ما لا وجود له, فمن من حكام العرب -يا حملة المباخر- حقق رخاء وصنع للرخاء مسيرة أو حقق سلامًا شريفًا, واختط لاستكماله سبيلاً, وأشاع التنوير في مجال الفكر والتقنية والتعليم?
إن الواقع الذي نعيشه -نحن العرب بعامة, والمصريين بخاصة- يدحض.. بل يسحق كل مزاعم حملة المباخر وتهويشاتهم. وحتي لو صح أننا في ظل النظام الحالي.. أي في ظل حكومات الحزب الوطني نعيش رخاء حقيقيًا.. وسلامًا حقيقيًا.. وتنويرًا حقيقيًا.. أليس من حق الشعب أن يطلب التغيير, ويطالب بتداول السلطة وصدق المثل القائل: "إن في التنويع متعة, حتي في الهموم". فنجاح الحاكم في قيادة هذه المسيرات لا يصلح تبريرًا لبقائه "حاكمًا أبديًا".
واذكروا يا سادة رجلاً اسمه "ونستون تشرشل" (1874- 1965) الذي كان رئيسًا للوزارة الإنجليزية طيلة أيام الحرب الثانية (1939- 1945). وحقق علي دول المحور أعظم انتصار في تاريخ البريطانيين, بل تاريخ أوروبا بأكملها علي مدار التاريخ ورفض أن يعلن الأحكام العرفية علي شعبه أثناء الحرب وقال قولته المشهورة: (لا أجمع علي شعبنا وطأة الحرب ووطأة الأحكام العرفية). وبعد هذا النصر العظيم فشل حزبه -حزب المحافظين- في الانتخابات العامة (النزيهة طبعًا) عام 1945. وترك الرجل الوزارة بصورة طبيعية بعد أن حقق أعظم انتصاره ولم يخرج إنجليزي واحد هاتفًا "بالروح.. بالدم.. نفديك يا تشرشل".
ثرثارون.. ونمور ورقية
إن الحاكم العادل يزرع في قلوب المواطنين الاعتزاز به, والحب له, والإقبال عليه, والثقة فيه, وسرعة الاستجابة العملية لتوجيهاته, علي حد قول الشاعر المسلم عن خالد بن الوليد رضي الله عنه:
إذا قال سيفُ الله كرّوا عليهمو
كررٍنا بقلب رابط الجأش صارم
فيكون تحقُّق الانتصارات أمرًا طبيعيًا لا غرابة فيه. وكما يكون الحاكم العادل محبوبًا من رعيته, يكون مهيبًا في نظر أعدائه. ومع حب المواطن لحاكمه العادل يكون صادق الولاء للوطن يفديه بنفسه وبكل غال نفيس.
وبالعكس يفقد الحاكم الظالم حب الناس وثقتهم, وإذا أطاعوه ففي الظاهر فقط, خوفًا من بطشه وجبروته علي حد قول الشاعر:
دعوا باطلا, وجلوا صارما
وقالوا :صدقتا? فقلنا: نعم
ويفقد المواطن ولاءه -لا للحاكم الظالم فحسب- بل يمتد ذلك للوطن, وقد أصبح يعيش فيه غريبًا, يعاني الظلم والقهر ومن العذاب الكثير وقد قالها "أبو نواس" من ثلاثة عشر قرنًا:
لا أذودُ الطير عن شجر
قد بلوتُ المرَّ من ثمره
ومثل هذا الحاكم يستهين به أعداء الأمة, ومنه يسخرون, بعد "أن نزع الله من قلوب أعدائنا المهابة منه". وكم تهكم كبار الصهاينة والصليبيين والأمريكان علي حكامنا, فأطلقوا علي بعضهم أوصافًا أو ألقابًا مضحكة مثل "النمر الورقي" و"الثرثار الكبير"
Big talker. ولا غرابة أن تمتد استهانتهم بحكامنا إلي استهانتهم بشعوبنا, فيتخذون قراراتهم المتعلقة بمصائرنا, وكأننا لا وجود لنا, وإذا كان لنا وجود -في نظرهم- فهو وجود هامشي, أو وجود "ورقي". وقد سُئل أحد كبار الصهاينة: "أصحيح ما جاء في القرآن من أن اليهود ضُربت عليهم الذلة والمسكنة?" قال: نعم.. كان ذلك قديمًا أيام أن كان اليهود مثل الشعوب العربية الحالية".