من ذكريات الأضحى فى بلاد الأمريكان

من ذكريات الأضحى فى بلاد الأمريكان

ورفعنا الأذان فى مذبح اليهودى

بقلم: الدكتور جابر قميحة

[email protected]

«الغربة كربة» عبارة كنت أسمعها من أمى فى طفولتى الباكرة، وأدركت صدقها بعد أن شببتُ، وتقدمت بى السنّ، وجربتُ الغربة بضع سنوات متفرقات، فليس أقسى على النفس من أن يترك الإنسان وطنه، ويفارق أهله وأسرته، ويعيش فى مغتربه نهب الأشواق، وقد يعدم المؤنس والنصير، فتستبد به الوحشة العاتية.

ومن الوقائع التى تقطع بصدق هذا الاستخلاص أن القاضى إياس بن معاوية - وكان يضرب به المثل فى الذكاء - نزل ضيفًا على إحدى القرى، فخرجت كلاب القرية، وأخذت تنبح بشدة من كل جوانب القرية، قال إياس لمستقبليه: إن بين هذه الكلاب كلبًا غريبًا، وتعجب مضيفوه وسألوه، إن كان ما قلت صحيحًا، فكيف عرفت وأنت سمعتها ولم ترها؟ فأجاب قائلاً: لأن فى صوت نباحه انكسارًا وترددًا، وهذا شأن الغرباء من البشر، واكتشفوا أن استنتاجه صادق صحيح.

عيد الغرباء

وتشتد لوعة الشوق والشعور بالكربة والوحشة على المغترب إذا ما حلت الأعياد عليه، وهو فى مغتربه بعيدًا عن أبنائه وأهله وأحبابه، ولعل المتنبى أشهر وأقدر من عبر عن هذه الحال النفسية القاسية بقصيدته التى مطلعها:

عيد بأية حال عدت يا عيد

بما مضى أم لأمر فيك تجديد؟

أما الأحبة فالبيداء دونهمو

فليت دونك بيد دونها بيد

(البيد: جمع بيداء وهى الصحراء)

ـــ

وقد جربت الغربة وحيدًا لعدد من السنين متفرقات لأداء مهمات علمية، أو للقيام بالتدريس فى الجامعات العربية والإسلامية فى الكويت والسعودية وباكستان والولايات المتحدة الأمريكية، وبجانب ذلك كنا نؤدى دورنا الدعوى – بقدر ما نستطيع -  قاصدين بذلك وجه الله.

وقد وجهنا ديننا إلى الحرص على النظر والاعتبار، واستخلاص الدروس والعبر التى تنفعنا فى دنيانا وأخرانا {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً} (الإسراء:36).

ومن الوقائع ما يكون صغيرًا عابرًا لا يشغل حيزًا واسعًا من الزمان والمكان، ومع ذلك يستطيع المسلم أن يعتصر - بالتأمل والفكر الثاقب - ما يحمله من دلالات وتوجهات، وأسوق إلى القارئ مثالاً لهذا النوع من الوقائع:

الأضحى فى المغترب الأمريكى

تركت أسرتى فى القاهرة فى منتصف أكتوبر سنة 1981 مبعوثًا من وزارة التعليم العالى، وجامعة عين شمس لأداء مهمة علمية «بجامعة» يل Yale استغرقت عامًا وأشهرًا، قضيتها فى مساكن الجامعة بمدينة «نيوهافن» بولاية «كنكتكت»، وفى هذه المدينة ومدن تجاورها يعيش عدد من الطلاب العرب والمسلمين جاءوا من بلادهم للحصول على درجات الماجستير والدكتوراه.

وفى طعامنا لم نكن نطمئن للحوم المثلجة مع أن الإسلام أحل للمسلم ذبيحة الكتابى، ولما أهل هلال ذى الحجة سنة 1402هـ - سبتمبر 1982 بدأنا نفكر فى «لحمة عيد الأضحى». قال أحد الإخوة الخبراء: هناك فى ضاحية «الأورانج» - وهى لا تبعد عن نيوهافن أكثر من سبعة أميال - مجزر كبير متكامل، يملكه يهودى، وملحق بالمجزر حظيرة واسعة ضمت من الخراف والعجول الكثير والكثير، وليس بها «خنزير واحد» ويمكننا أن نشترى من الخراف ما نشاء، ونذبحها بأيدينا، ويقوم عمال المجزر بعد ذلك بالسلخ والتنظيف والتقطيع.

واسترحنا لهذا الحل، وبعد صلاة الجمعة (5 من ذى الحجة 1402هـ - 4 من سبتمبر 1982م) توجهنا للمجزر المنشود فى ضاحية الأورانج.

الله أكبر .. حى على الصلاة

وقام أحد الإخوة السعوديين بذبح الخراف التى انتقيناها من حظيرة المذبح، وقام العمال بالباقى، واكتشفنا أن أغلب العاملين من أبناء صاحب المجزر وبناته، وحل ميعاد العصر، فتوضأنا من ماء المجزر، وكل من فى المجزر يعجبون، وربما ينكرون على هؤلاء الذين يغسلون وجوههم، وأيديهم، وأرجلهم بماء بارد، وقد هبطت درجة الجو إلى 6 درجات تحت الصفر.

وعلى الأرض الخضراء الممتدة خارج المجزر شرع  الأخ السعودى «إبراهيم المعتاز» وكان نديّ الصوت، يرفع صوته بالأذان، ومع كل كلمة كنا نشعر بالدفء يتدفق فى أجسادنا والقلوب، سبحان الله، لقد وصل صوت محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى هنا؛ حيث البرد، والجليد، والمادية الصماء.

ومن عجب أن نرى صاحب المجزر وعماله يغادرونه إلى حيث نصلى على الرقعة الخضراء، وعيونهم معلقة بنا فى صمت عميق، كأن على رؤوسهم الطير، وبعد أن سلمنا ظلوا واقفين كأن أرجلهم قد سمرت بالأرض، وكأنهم يريدون مزيدًا من هذه الحركات والسكنات الخاشعة فى ركوع وسجود، ورأيت صاحب المجزر اليهودى يردد بينه وبين نفسه Fine - Fine أى: حسن .. جميل.. رائع.

حقائق ودروس

وغادرنا المجزر، ونحن نحمل ما اشترينا من لحم، وكان حديثنا فى عودتنا عن هؤلاء اليهود الأمريكان الذين أُخذوا بمنظر الصلاة، قال أحد الإخوة: «لقد شعرت بأن قلوبهم بدأت تميل إلى الإسلام»، وقال ثان: «لو شاهدوا الصلوات الجهرية لأسلموا»، أما أنا فلم أتكلم، فقد كانت نفسى - بكل حواسها - مفعمة بكلمات الرجل Fine - Fine؛ لأنها قادتنى إلى تذكر عدة حقائق ربما غابت عن كثيرين، وأهمها:

الحقيقة الأولى: اعتقادنا الخاطئ أن الآخرين من غير المسلمين - فى أوروبا وأمريكا بخاصة - يعرفون جوهر الإسلام وقواعده، ويعرفون واقع قضايانا، ولكنهم يغالطون ويسلكون سبيل الشيطان والباطل تعصبًا وتعاميًا، مع أنهم - فى أغلبهم - يجهلون حقائق ديننا ومبادئه، وأبعاد قضايانا.

والحقيقة الثانية: أن المسلمين - على المستوى العالمى - فقراء فى الدعاة، ومن الإحصائيات المفزعة أن عدد الدعاة المسلمين العالميين لا يزيد على ثلاثة آلاف داعية، مقابل ربع مليون مبشر مسيحى، يتقن كل منهم عددًا من اللغات، زيادة على مهارات وتخصصات فى الطب، والطب البيطرى، وأمور الزراعة والبناء والهندسة، وتحت أيديهم إمكانات مادية هائلة.

وقد انتشروا فى كل أنحاء العالم، وخصوصًا أحراش آسيا، ومجاهل أفريقيا، وهم يجدون مرعاهم الخصيب فى أوساط الفقراء من المسلمين والوثنيين.

والحقيقة الثالثة والأخيرة خلاصتها أن أغلب دعاتنا المحليين لا يصلحون لنشر الدعوة على المستوى العالمى، لافتقارهم للغات الأجنبية - من جانب - وللثقافات العصرية من جانب آخر؛ لذلك يجب أن تتكاتف الحكومات العربية والإسلامية لإنشاء أكاديمية الدعوة الإسلامية العالمية لتخريج دعاة متخصصين لمثل هذه الدعوة، مسلحين برصيد ضخم من العلوم الدينية والعلوم العصرية، واللغات الأجنبية، حتى يرتفع صوت الأذان فى كل مكان، وتكون كلمة الله هى العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.