"صحافيون للبيع" في المزاد
"صحافيون للبيع" في المزاد
على أونا... على دوّي ... على تري ...
الطاهر إبراهيم
خواء النفس وجشعها لما في أيدي الحكام والدول، يدفع البعض ،ممن "يتعيّش" بالدولارات التي ترمى له ثمنا لماء وجهه، إلى ركوب الطرق الملتوية التي يعتقد أنها أسرع في الوصول إلى ما يريد من مال ومنصب، ولو كان ذلك على حساب شتم الأشراف وتقزيم العمالقة الكبار بين يدي من يرجو نواله، ويهريق ماء وجهه على أعتابه.
وإذا كانت قد انقرضت ،أو كادت،مهنة الشعر التي كان يتكسب بها من هانت عليه نفسه من النظامين في أعتاب الملوك
والسلاطين، فلعل مهنة الصحافة اليوم ،إلا ما رحم ربي، قد ورثت عن مهنة الشعراء في بلاط السلاطين، هذا الاكتساب المهين.
وحتى لا نعمم، فقد رأينا صحافيين يفضلون الجوع على أن يبيعوا أقلامهم لمن يدفع أكثر، في وقت باع فيه صحافيون وكتاب شرف الكلمة بدراهم معدودة أو طمعا في منصب رئيس تحرير صحيفة أو حقيبة وزير.
ولقد رأينا صحيفة مهاجرة لا تضيق ذرعا بكثرة المرتجع من أعدادها، ولا يضيرها أن دولا عربية عديدة منعت توزيعها لأنها رفضت المساومة. كما أنها تفتح صفحاتها ليكتب فيها كتاب رفضت معظم الصحف النشر لهم لأنهم معارضون . بينما رأينا صحفا أخرى تبيع صفحاتها لمن يدفع أكثر.
وإذا كانت فترة العقد الأخير من القرن العشرين وما تبعها من سنوات هذا العقد الحاضر، يصح فيها أن تسمى "الفترة الأمريكية"، فإن أوضح ما طبع هذه الفترة هو هجوم أمريكا على العروبة والإسلام، بل وكل ما يمت إلى الإسلام الحضاري بصلة، وقد تبعتها صحف كثيرة في هذا السير، طمعا بنوالها، أو دفعا لأذاها.
واقتباسا من عالم الصحافة، فقد كان العنوانان الأبرز بين عناوين هذه الفترة هما "صحف للبيع" و"صحافيون للبيع"، رُفعت كلافتة ضخمة في سوق نخاسة الإعلام، وتم طرح هذين العنوانين –البضاعتين- للتداول بين الدول، بيعا وشراء.
وكمقدمة للوصول إلى أعتابها، فقد حاول بعض الصحافيين المرتزقة القراءة في أهداف أمريكا وما تنوي فعله، فطبعوا كتاباتهم وما ينثرونه من أفكار فيها بما يتلاءم مع تلك الأهداف، ولو كان ذلك على حساب دماء الشعوب المقهورة ".
ولعل أسوأ ما يمكن أن يقوم به صحفي، هو أن يتكسب رزقه على حساب الأوطان المنكوبة، وأن يفبرك الأخبار في الاتجاه الذي ترضى عنه أمريكا. وليعذرنا أي صحفي يرد اسمه في هذه السطور، فلن نستحيي أن نشير إلى ما كتب، طالما أنه لم يخجل مما كتب.
ومما يؤسف له أن نجد صحفيا مثل "كميل الطويل" ،يعمل في مكتب "الحياة" التي تصدر في لندن، يكتب في عدد هذه الصحيفة الذي صدر يوم الأحد 5 أيلول"سبتمبر"الجاري تحت عنوان لافت للنظر هكذا "الزرقاوي موجود وأنصاره في كل مكان". ويظن هذا الكاتب أنه قد عمل "خبطة صحفية" عندما كتب عن: ( قيادي إسلامي، على اتصال مستمر معي –كميل-منذ نهاية التسعينيات، وبداية الألفية الجديدة،كان معارضا لنظام الحكم في بلاده، يروّج لمعلومات عن هجمات يقوم بها "المجاهدون" ضده –أي ضد نظام الحكم-. وكان دائم التنقل بين دول عربية وأجنبية، لكنه "اختفى" فجأة، بعد شهور قليلة من هجمات 11 سبتمبر عام 2001 ،انقطع الاتصال به ...حتى صباح السبت 4 أيلول،اتصل ليزودني..رقم هاتفه...من الفلوجة العراقية). ويتابع الصحفي اللامع قائلا:
(سألته عن وجود "أبو مصعب الزرقاوي" في الفلوجة؟ فقال إنه موجود فعلا وأنصاره في كل مكان، ربما كلمته هي الأولى الآن .. وجماعته تضم ما لا يقل عن بضعة آلاف... إنهم يسيطرون على الشوارع، ويسيرون فيها بحرية مرتدين لباسهم الأسود المميز... ..) ..
لا نريد أن نناقش صحة هذا الكلام، فهو أقل ما فيه أنه متهافت لا يسنده الواقع العملي، ويفتقر إلى الحد الأدنى من الصدقية. وإلا فأين يعيش بضعة الآلاف هؤلاء –وبضعة آلاف أقلها ثلاثة آلاف-، وهم في عرف تعداد الجيوش الحديثة يقدرون بلواءين، في كل لواء عدة كتائب وسرايا مستقلة. أين ينامون؟ والفلوجة بيوت بسيطة من الطين أو اللبن الاسمنت،لا يعيش في داخلها أحد إلا ويظهر للعيان. وأين يخبئون أسلحتهم التي يقاومون فيها الدبابات ويسقطون الطائرات؟ وكيف يدبرون أمر معيشتهم؟ وعندما تقصفهم الطائرات فيسقط منهم قتلى وجرحى، كيف لا يعرفهم أطباء المستشفيات وكلهم موظفون لدى حكومة علاوي؟
ثم ماذا يعني هذا الكلام للفلوجة وأهالي الفلوجة؟ إنه سيجعل الطائرات الأمريكية تفرغ كل مخزون صواريخها فوق رؤوس أهالي الفلوجة وفوق بيوتها الطينية التي لا تكنّ ساكنيها من المطر والبرد، فكيف بالقنابل التي تزن الواحدة منها أكثر من ألف كيلوغرام.
ولقد حصل ما كنا نخشاه -بعد المقال الذي كتبه الطويل- بالضبط.فلم يكد يشرق اليوم التالي إلا وكانت حصيلة القتلى بالعشرات والجرحى بالمئات، وما يزال مسلسل القصف على "الفلوجة" مستمرا حتى كتابة هذا المقال. وابتدأ النزوح عن الفلوجة من جديد. وعلى مدار ما يقرب من ثلاثة أسابيع كاملة سقط مئات الشهداء وأكثر من ألف جريح، وهدمت مئات البيوت.
وهذا الخبر الكاذب مفضوح الكذب،ولا يقف على قدمين. وإلا لكان الذي اتصل بالصحفي "كميل الطويل" من الفلوجة هو الآن في سجون أمريكا إلى جانب "ابن الشيبة"، الذي اعتقل بعد لقاء مع سري مع مراسل الجزيرة "يسري فودة"، تحت جنح الظلام. ولا يزال الناس يذكرون كيف قتلت طائرة روسية زعيم الشيشان "جوهر دوداييف" وهو يتكلم بهاتف "الموبايل"،بعد أن التقطت أقمار التجسس الأمريكية ذبذبات الهاتف وأعطتها للجيش الروسي.
ولا يكتفي "كميل الطويل بما تسبب به مقاله في 5 أيلول الجاري من مآسي. فقد أراد أن يثير الفتنة الطائفية في العراق، وكأن العراقيين تنقصهم المصائب حتى يضيف لهم فتنة الطائفية. فقد "فبرك" اتصالا آخر مع "القيادي الإسلامي"إياه،صديق "أبو مصعب الزرقاوي" ونشرته الحياة يوم 10 أيلول "سبتمبر" الجاري. سأله عن موقف:
"الزرقاوي من الشيعة فقال: "لكن كل التيار السلفي الجهادي يؤمن بأن الشيعة فكرة كفرية (...) أنا اعتقد بذلك وأعتقد أن أبو مصعب يؤمن بذلك أيضاً. إن الشيعة كعقيدة ومنهاج عقيدة كُفرية".
هذه الأخبار المختلقة نوع من التهويش الصحفي، وهي بالنتيجة قد تتسبب بفتنة طائفية لا تبقي ولاتذر. وهي متاجرة بدماء الأبرياء العراقيين الذين لا تنقصهم المصائب. ثم ينقل عن صديق الزرقاوي قوله "لكن ما أقوله لك هو أن باقر الحكيم من رؤوس الضلال التي يجب أن تُقتل". وقد استنكرت كل الهيئات الإسلامية مقتل "الحكيم".
وهذا خلاف ما يعتقده العراقيون على نطاق واسع، بأن من قتل "الحكيم" أراد أن يؤجج النعرة الطائفية، عدا عن أنه خبير دار، يعرف خبايا المنطقة ودخائلها.
وإذا أردنا أن ندقق بخبر "الزرقاوي في الفلوجة" لوجدناه خبرا يكذبه الواقع. وإلا فكيف نصدق أن أهل الفلوجة يقبلون بآخرين يدافعون عنهم، وهم الذين شكلوا مجلس شورى للمجاهدين يظهرون على الفضائيات بمقابلات. و"كميل الطويل" يزعم أن أنصار الزرقاوي "يسيطرون على الشوارع ،ويسيرون فيها بحرية مرتدين لباسهم الأسود المميز..". فأين إذن لواء الفلوجة الذي تشكل بعد مواجهات أيار الماضي؟.
والذين يتابعون ما يكتبه "كميل الطويل" يعتقدون أنه أخذته الغيرة مما وصل إليه زميله السابق الصحفي "موفق حرب "، الذي صعد كالصاروخ في الإعلام الأمريكي، وكان يعمل قبل ذلك مندوبا لصحيفة "الحياة اللندنية" ومحررا فيها من "واشنطن".
واستطرادا فإن "حرب" قبل أن يصل إلى ما وصل إليه، كان يشدد النكير على العراق، بعد ما لاحت في الأفق نذر الحرب الأمريكية ضده. وقد كوفئ بعدها، فترك عمله في صحيفة الحياة، ليتسلق بسرعة في مناصب الإعلام الأمريكي المرئي والمسموع. وكان من أعجب ما سمعت من هذا الصحافي الذي أصبح رئيس تحرير قناة فضائية "الحرة" الأمريكية، في مقابلة مع قناة الجزيرة، يتهمها بأنها منحازة ضد أمريكا. وقد ساق دليلا على ذلك أنها أذاعت خبرا قالت فيه:
"هاجم طيار إسرائيلي مدنيين فلسطينيين بطيارة مصنوعة في أمريكا!!! .
ثم رأينا "سلامة نعمات" وهو صحافي آخر، ما يزال يعمل من واشنطن، مندوبا لصحيفة "الحياة" أيضا، حاول أن ينسج على منوال سابقيْه، قد أكثر من الهجوم على قناة "الجزيرة" القطرية بعد أن وُضعت هذه القناة على قائمة الاستهداف الأمريكي، كما أن معظم تعليقاته في "الحياة" تشدد النكير على المقاومين العراقيين.
ففي مقاله: "العراق وأبطال المقاومة" ("الحياة" في 9 أيلول/ سبتمبر) ينكر وجود المقاومة العراقية, وهو ما لم يقله حتى جورج بوش نفسه. ولو سلم "نعمات" جدلا بوجود مقاومة، فهي خليط من "جماعة أبو مصعب الزرقاوي الأردني" و "أتباع مقتدى الصدر ("الجهلة"), على حد وصفه, ثم "أتباع صدام حسين وأمثالهم من المجرمين الذين يستهدفون العراقيين الأبرياء أكثر مما يستهدفون القوات الأمريكية". وما ورد ضمن المزدوجات من كلام "نعمات" لا يحتاج إلى كثير تعليق لتدرك أن صاحبه قد يمم شطر أمريكا.
ثم اسمع له على قناة "العربية" في برنامج "عبر المحيط" من واشنطن مع "هشام ملحم" بتاريخ يوم السبت 29/5/2004 حيث قال "نعمات":
(إن الفرنسيين قتلوا مليون جزائري، ولكن الحكومة الفرنسية لم تحاكم أحدا من قياديها، بينما يسجل حسنة للأمريكان أنه عندما يتم الكشف عن مثل هذه الجرائم في صفوفها فهي تسارع إلى محاسبة المسئول ومرتكب الخطأ).
انتزعت هذه الأمثلة الثلاثة من صحافيي الحياة لأني أقرأها باستمرار، -وليس كل صحافييها هكذا، وقد يكون غيرها من الصحف فيها أكثر مالحياة- لأضرب مثالا على ما يمكن أن يفعله كاتب أو صحافي، من المتسلقين على حبال النميمة والنفاق، إذا ما وضع نصب عينيه الوصول إلى أحضان سيدة العالم قوة وثراء.
ومن يقرأ عناوين صحف "النخاسة الإعلامية" في هذه الأيام، يكاد يصعق من تلك العناوين. ونأخذ عناوين من صحيفة عربية مهاجرة ،من دون أن نسميها، فسنقرأ في يوم الأربعاء 15 أيلول:"حرب الزرقاوي تحصد عشرات من الشرطة" وقبلها في 13 أيلول: "42 قتيلا في حرب شوارع بين أنصار الزرقاوي والقوات الأمريكية".
هذا السوبرمان الزرقاوي، قد لا يكون موجودا، حسب رواية بعض من يعرفه، وأنه مات متأثرا من جراح أصيب بها قبل ثمانية أشهر. وحتى لو كان موجودا فإحدى رجليه مقطوعة نتيجة معركة في أفغانستان، وهذا يجعله قعيد مخبئه لا يغادره، فكيف يقود أنصاره في طول العراق وعرضه، تحت بصر وسمع مخبرين لأمريكا موجودين في كل مكان؟.
غير أن الأهم من كل هذا، أن الذين يكتبون المانشيتات، إنما يكتبونها من وراء مكاتبهم من دون أن يسمعوا لآراء العراقيين أنفسهم. ففي مقابلة مع قناة الجزيرة ذكر نائب رئيس تيار وطني عراقي معارض، نقلا عن صحيفة "الوطن" الموالية للحكم العراقي، ما يلي: "إن الجهة التي كانت وراء مقتل 12 نيباليا هي جهة غير مسلمة" ويعقب على ذلك بقوله: "لا يوجد جهة غير مسلمة في العراق إلا جهة واحدة"، ويقصد بذلك الجنود الأمريكيين.
إذا كان العراقيين قد ذاقوا الويلات في النظام السابق، فإن ما يحيق بهم من جيش الاحتلال، ربما جعلهم يترحمون الآن على النباش الأول.ومن لا يود أو لا يقدر على مساعدتهم، فليكفّ ،على الأقل، عن إيذائهم بما يروّج من أخبار كاذبة.
إن الاستهانة بعنفوان الشعب العراقي عندما يُزعم بأن مقاومة الاحتلال جاءت من وراء الحدود، هو شتيمة لئيمة بحق العراقيين، وهي دعاية مجانية رخيصة تقدم لأمريكا التي تصور الشعب العراقي مهزوما من الداخل عند ما يقبل بها مخلصا.
رحم الله "أبو جعفر المنصور" الذي رفض تهنئة المهنئين بمقتل أحد أبناء علي بن أبي طالب، وكان قد ثار عليه في الكوفة. وعندما جاءه أحد القواد وقال له "أعظم الله أجرك في موت ابن عمك يا أمير المؤمنين" انفرجت أساريره وزال ما به من غم.