طرطيرة وزوجة وسبعة أولاد...

مثال صغير على انجازات نظام التقدم والاشتراكية والممانعة  

طرطيرة وزوجة وسبعة أولاد...

والباقي تتكفل به الحاويات!!

علي الأحمد

[email protected]

توقفت الطرطيرة التي تقلهم (الأب وأطفاله الخمسة) قرب إحدى الحاويات، كانت الساعة الثانية بعد منصف الليل، قفز الأولاد الذكور وخاضوا وسط تلال القمامة المتناثرة، فيما بقيت الشقيقتان على متن الشاحنه ترتبان ما يجده الأشقاء من (كرتون وبلاستيك وأكياس نايلو شفاف..) وتضعانه بعناية في مكانه المناسب.

(أبو فارس) كان منهمكاً في إصلاح عطل ما طرأ على شاحنته، فتمدد تحتها ثم نهض واخرج (مناويل) ووضعه في مقدمتها إلى أن ارتفع صوتها هادراً ليستأنفوا رحلتهم الليلية من جديد.

منزل بلا نوافذ..

بعد شهر من ذلك اللقاء الليلي، قصدتُ البويضة بريف دمشق ودخلت في ما يشبه السرداب المفضي منزل العائلة المكون من غرفتين معتمتين بلا نوافذ.

أشياء المنزل بسيطة، حصير على الأرض، فراشين وطاولة قديمة فوقها تلفزيون صغير، مرآة فخمه قديمة وجدت فرصتها لتستعيد مجدها قرب الباب.

ثلاثة فرش على البلاط حيث ينام الأطفال، وحيز صغير يستخدم بوصفه مطبخ، طنجره فيها سلق هي وجبة العائلة لذلك اليوم كما تشرح الزوجة.

جلست على احد فراشي غرفة "الاستقبال" بينما جلس قبالتي على الحصير-المثقب بأكثر من موضع- ابو فارس وزوجته وابنتهما (كتيبه) وابنهما (حسين).

تَفَقد..وفتى مفقود

عائلة (أبو فارس) مكونة من الزوج وزوجة والأولاد السبعة ولكن..

1. عبد الستار(15 سنه) الابن الأكبر: خرج منذ نحو ثلاثة أشهر ولم يعد، ولا يعرفون أين هو، (سبق وان فقدوه لمدة سنة ووجدوه عن طريق نشر صورته ببرنامج خبرني يا طير التلفزيوني).

2. عبد الجبار(14 سنه) يغيب عن البيت عادة بين يومين إلى ثلاثة ثم يعود ليختفي من جديد، والآن غير موجود ويعتقد والده انه في بيت جده.

3. رغدة(12 سنه) في زيارة بيت جدها لامها في المليحة( ذهبت علّها تجد هناك ما تأكله وفق تعبير الام)

4. كتيبه(11 سنه) الوحيدة بين إخوتها التي درست إلى الصف الرابع وتعرف القراءة، موجودة بالمنزل.

5. علي (10 سنوات) يعمل عند "كومجي" بأجر أسبوعي 150 ل.س، وهو الآن بالعمل..

6. احمد(8 سنوات) في زيارة بيت جده لامه في المليحة(ذهب علّه يجد هناك ما يأكله)

7. حسين(7سنوات).. موجود بالمنزل.

أعمارهم تقريبية، حيث لا يعرف الأب عمر أولادة بالضبط، كما ان زوجته الحالية هي الثانية بعد انفصاله عن ام فارس ومعلوماتها تقريبية.

سيرة العائلة الذاتية..

تمتهن العائلة جمع القمامة منذ نحو ثلاث سنوات يروي رب الأسرة (ابو فارس) محمد إبراهيم العلي (68 سنه) المريض بالسكري والقلب سيرة حياته:" بالأساس أنا من الحسكة، كنت يتيم الأب والأم، ربتني أسرة أرمينية حتى أصبح عمري 5 سنوات أخذني أقاربي وشغلوني بتربية الغنم، وحين وزعوا الأراضي لم احصل منهم على شيء".

يتابع "أتيت إلى دمشق منذ أربعين سنه، أعطتني شركة (شل) الأجنبية "طنبر" وعملت بتوزيع المازوت، وحين كان يموت الحصان كان يصرفون لي ثمنا لحصان آخر، وحين يتعطل دولاب يعطوني بديلاً عنه" يضيق عينية فيبدو كمن ينظر إلى البعيد ثم يقول بحسرة "كانوا يصرفون للعاملين على الطنابر 1000 لتر مجاناً".

يلتقط شروده ثم يستأنف "ثم ذهبت الشركة الأجنبية، وحل محلها التموين كجهة مشرفة على عملنا، وأعطونا رخصة عبارة عن (نحاسه) كنت أعلقها على "الطنبر"، إلى أن طلعت الشاحنات، فبعت "الطنبر" واشتريت شاحنة بثمنه...

حين تحسنت أحوالي بالثمانينات تزوجت واشتريت ارض بخربة الشياح بريف دمشق بـ35 ألف ليرة ، بنيت غرفتين (لف) ووضعت فوقهما "شادر" واستقريت مع عائلتي...

واصلت العمل بتوزيع المازوت إلى أن رفض مدير التموين تجديد رخصتي في عام 2005 رغم أني اعمل بهذا المجال منذ نحو 38 سنه" ينظر إلى عيني متابعا "قال لي اذهب واشترِ سيارة بأربع دواليب كي أجدّد لك الرخصة".

يتابع (ابو فارس) :"أصبت بجلطة برجلي ودخلت المشافي، تبيّن بأن معي السكر أيضا، دفعت الكثير ثمن أدوية للأطباء (يصفهم بان ليس في قلوبهم رحمة) وتعطلت لأشهر حتى استطعت أن أقف على قدميّ من جديد".

يتابع (أبو فارس)" في بداية مرضي بعت الشاحنة القديمة بعشرة آلاف، ثم بعت البيت بـ250 ألف..

وبعد أن تعافيت اشتريت شاحنة أخرى بـ80 ألف، وأخذت اعمل عليها في جمع الكرتون والبلاستيك من الحاويات ما بعد منتصف الليل، متحديا كل المخاطر، أبيع ما اجمعه لأتمكن من دفع أجرة البيت (5 آلاف) وشراء ما يسد الرمق".

أحداث بعد منصف الليل

عندما يكون الطقس ملائماً عادة ما تنطلق الأسرة على الطرطيرة في التاسعة ليلاً، تقصد مناطق السبينه وببيلا وصولاً إلى جرمانا والمليحة، كل فرد بالعائلة يعرف عمله جيدا، الأولاد الثلاثة ينبشون الحاويات بحثنا عما يباع والشقيقتان ترتبان المحتويات في الشاحنة والأب يشرف على العمل، بينما تبقى زوجته في البيت بعد ان منعها أخوتها من الخروج مع الأسرة للعمل كما تقول.

على نحو تقريبي يجمعون في رحلتهم التي تستمر حتى الثالثة أو الرابعة صباحا ما بين 60 إلى 170 كغ من الكرتون، وبالخامسة صباحا يصطحب (أبو فارس) احد الأولاد قاصداً احد مراكز على طريق ببيلا القريبة ليبيع محتويات شاحنته.

سعر كيلو الكرتون 3 ليرات، وكيلو البلاستيك 7 ليرات، وأكياس النايلو بـ10 ليرات، بالتالي فإن دخل الأسرة اليومي (عندما يكون الجو مناسبا للعمل) ما بين 300 إلى 400 ليرة بما فيها ثمن مازوت الشاحنة. .." ويعرض (ابو فارس) وصل بيع الكرتون لليلة السابقة (95 كيلو) بقيمة 300 ليرة.

وعن سبب العمل بالليل يوضح (ابو فارس) "في الليل يفرد أصحاب المحلات بضاعتهم ويرمون الكرتون، وبالنهار المنافسة صعبه لأنه يوجد حوالي 200 شاحنة غير راكبين الدراجات الذين يعملون بنفس المجال في جرمانا وحدها".

ثم يروي (ابو فارس) حادثة جرت معهم منذ ايام قليلة للاجابة على مخاطر عملهم الليلي " كنت بالمليحة، حوالي الثانية ليلا، أتى رجل على دراجة نارية مدعياً انه من البلدية (مفروز) على شاحنات الكرتون، طلب بطاقتي الشخصية، لأنه يريد الحجز على الشاحنة" يتابع (ابو فارس) بقهر:" أنا مريض وليس باستطاعتي أن "أتكاون" (أي أتشاجر) معه، فأخذ مني 500 ليرة مقابل تركنا بحال سبيلنا وظل يرافقنا على دراجته النارية إلى أن خرجنا من المليحة ودخلنا بطريق جرمانا، قام احد الأولاد بشتمه، فرد عليه متوعدا بحجز الشاحنة إذا دخلنا المليحة مرة أخرى، ومن يومها لم نذهب إلى المليحة خوفا منه".

ويقسم (أبو فارس) بان الـ500 ليرة التي كانت بحوزته وأخذها راكب الدراجة هي دين، استدانها بنفس اليوم من احد معارفه ليشتري مازوت للشاحنة.

قوتهم خبز اليابس..

تقول زوجة (ابو فارس) التي تعمل بين الحين والآخر(لفايه) بأنهم:" في اليومين الماضيين أكلوا "معكرونة واليوم شورباء بالسلق ".

يفتح (أبو فارس) محفظته، ويرفع يده عاليا مقسما بان هذا كل ما يملكه، تبدو الـ (150 ليرة) في قبضت يده وكأنها راية بيضاء، يضيف بانكسار"الشبعان لا يعرف بالجوعان".

نسأله لماذا كل هذا العدد من الأولاد فيجيب بان الأمور كانت جيدة إلى اليوم الذي رفض فيه مدير التموين تجديد رخصة شاحنته لبيع المازوت، ويضيف بأنه طيلة عمله لمدة 37 سنة لم يرتكب مخالفة واحدة ولا يوجد أي ملاحظة بسجله.

يعتقدا ابو فارس بان منصب مدير التموين ربما أهم من وزير حيث يقول" أناشد المسؤولين بان يحكوا مع مدير التموين كي يجدد لي رخصة بيع المازوت..".

بينما تكشف زوجته بخجل، بأنه مرّ عليهم أيام لم يكن معهم ثمن الخبر، فقاموا بوضع الخبز اليابس الذي يجمعه الأولاد من الحاويات مع عدس وماء وطبخوه..

وبصعوبة تتذكر(كتيبة) آخر مرة أخذت بها مصروف (5 ليرات) اشترت بها بطاطا، ومعظم لباس العائلة من الحاويات، فمنذ أيام فقط وجدوا منامتين وحرام أطفال بإحدى الحاويات، بينما يركض (حسين) إلى مكان ما من البيت ليأتي بلعبة صغيرة وجدها بإحدى الحاويات ليعرضها علينا فرحاً.

الفقر برميل بلا قعر..

حين مرض (ابو فارس) قبل نحو سنتين باع شاحنته القديمة، ثم باع بيته، وأخر ما باعه قسائم المازوت (كل قسيمة بـ900 ليرة)، لتواجه الأسرة برد الشتاء بلا مازوت مدعوم ولا غير مدعوم.

في الشتاء يتراجع العمل بجمع الكرتون على الشاحنة المكشوفة، وبالتالي ما يخطط له (أبو فارس) هو بيع الشاحنة (رصيده الأخير بهذه الحياة) وفق تعبيره، ليمرر بقية هذا الشتاء، على أمل ان يشتري عربة يدفعها بيديه ويبيع عليها البزر.

قريباً لن تجد عائلة (أبو فارس) ما يباع، شأنها شأن الكثير من العائلات التي تجاوزت كل خطوط الفقر، فوفقاً لمسح وزارة الشؤون الاجتماعية للأسر الأشد فقراً، تشير الأرقام إلى تسجيل نحو نصف مليون أسرة( بالتحديد 495 ألف أسرة شملها المسح لغاية 21/2/2009) اي ما يقارب 2،5 مليون نسمه على اعتبار ان متوسط عدد أفراد الأسره السورية هو خمسة (عادة المتوسط لدى الأسر الفقيرة هو أكثر من ذلك)، هذا رغم أن المسح لم ينته بعد.

وبذات الوقت تشير إحدى الدراسات إلى ازداد الهوة بين الفقراء والأغنياء، حيث استهلك الـ 20% الأكثر ثراء 45% من مجمل الإنفاق في سوريا، بينما استهلك الـ 20% الأدنى من السكان 7% فقط من كافة الإنفاق.