تنوير الأنام في مسألة السرور بالكلام

تنوير الأنام

 في

مسألة السرور بالكلام

مصباح الغفري  / باريس

لو تطابقت الأقوال مع الأفعال ، لكان حكامنا من الأبدال !

زعموا أن العالم لا يخلو دائما من أربعين صالحاً ، كلما مات أحدهم حل محله بديل آخر ، ولذلك أطلقت عليهم تسمية الأبدال ، لاحظوا معي أن رقم الأربعين هو رقم يتمتع بصفات قدسية وسحرية كأقوال وحكم قياداتنا التاريخية التي تكتب بالإبر ، على آماق البصر ، لتجعلنا عبرة لمن اعتبر !

لكن ما يهمني اليوم هو شيء آخر ، تلك حكاية السرور بالكلام ، ولماذا كان الجذر الثلاثي ( قول ) في لغتنا العربية الشريفة على وزن بول ؟

     لابد من العودة إلى التراث لمعرفة ما جرى و يجري في المحيط المتجمد العربي . كان أبو جعفر المنصور مشهوراً بالبخل ، لايفك عقدة كيسه إلا إذا احتاج الأمر لإرسال من يتجسس على آل البيت ، و كان لا يعطي الشعراء مهما بلغ مديحهم له .

 ذات يوم جاءه شاعر و بدأ يلقي قصيدة عصماء في مدحه ، إنتشى المنصور وقال :

- أمرنا لك بعشرة آلاف درهم !

تفجرت عبقرية الشاعر فزاد في المديح ارتجالاً ، وكان كلما زاد في المدح زاد أبو جعفر في المبلغ ، حتى وصل المزاد إلى مئة ألف درهم ، وهنا توقف الشاعر عن الإنشاد ، مكتفياً بالثروة التي هبطت عليه ، وانتحى جانباً ينتظر تنفيذ أمر الخليفة ، لكن انتظاره طال ولا دفع ! قال للخليفة :

- هل تأمرون بدفع المبلغ ؟

ظهرت علامات الدهشة على وجه الخليفة وضحك حتى قلب على قفاه ثم أجاب :

- أي مبلغ ؟  إنما سررتنا بكلام ، فسررناك بكلام ، أما أن يكون كلام بفعال ، فهذا ليس من تقاليدنا !

     الحاكم العربي المعاصر أمين لتقاليد أبي جعفر المنصور ، ليس في البخل ، فما منهم والله إلا من هو أكرم من حاتم ، لكنهم أمناء على المعادلة ، نحن نسرهم بكلام عندما يفوزون في الاستفتاءات الشعبية بالنسبة إياها ( اللي ما بتتسماش ) ونُسرّهم بهتافاتنا لهم وافتدائنا لأشخاصهم بالدم والروح ، وهم يُسروننا بكلام عن الديموقراطية والتعددية والتوازن الاستراتيجي والتحرير والسلام العادل ، وعن التنمية ومجتمع العدل والكفاية ، ونستيقظ ويستيقظون ، لا نحن نفتديهم حقاً بالروح والدم ، ولاهم يكفون عن الأذى ، سرور بكلام يقابله سرور بكلام ، أما أن يكون كلام بفعال فهذا لاينسجم مع تقاليدنا و عاداتنا وتراثنا الذي نحافظ عليه كما نحافظ على بؤبؤ العين .

     المعادلة ذاتها قائمة بينهم و بين " مختار المخاتير " في واشنطن ، ينظمون القصائد المعلقات في امتداح الدور الأميركي في عملية السلام ، يرقصون على أبواب البيت الأبيض كما نرقص نحن في الشوارع والساحات بعد فوزهم في الاستفتاءات ، يسرهم سيد البيت الأبيض بكلام عن السلام مقابل الأرض ، وعن تطبيق قرارات الشرعية الدولية ، ثم يعودون إلى قصورهم ، لا هم يسألون عن التنفيذ ، ولا هو ينبس ببنت شفة ، وما من محتال إلا ويبتلى بمن هو أطول منه باعاً في عالم النصب و الإحتيال ، وإلى الله الرجعى والمآل .

     لنتصور أن حرباً نووية قامت وأبيدت البشرية ، ثم ظهرت بعد مئات السنين مخلوقات جديدة وعثر علماؤها على المجموعة الكاملة لخطابات وأقوال قادتنا التاريخيين ، لاشك أنهم سيكتبون تاريخ القرن العشرين باعتباره الحقبة الذهبية في تاريخ العرب ! فليس في هذه الخطابات غير الانتصارات والمنجزات والتقدم و الرفاه والعدالة ، ليس فيه حسب هذه الوثائق واللقيات الأثرية ، لاحبس بدون محاكمة ولا تصفيات جسدية ولا أناس يُثرون من الفساد والعمولات ، والأهم أن ليس في حقبتنا إطلاقاً إلا التفاني في خدمة الشعب والسهر على مصالحه حتى مطلع الفجر ، فمتى يأتي الفجر ؟