حين تعني عبارة حرية التعبير في بلد ما الريبة والشك والإتهام!
حين تعني عبارة حرية التعبير في
بلد ما الريبة والشك والإتهام!
حكم البابا*
سأعترف منذ البداية بأن وجود صحافي سوري مقيم داخل بلده في لقاء يحوي عنوانه عبارة (حرية التعبير) أمر يدعو للدهشة ويثير الاستغراب، فهاتان الكلمتان كما هو معلوم للقاصي والداني غريبتان عن الصحافي السوري، سواء في حال كانت كل كلمة منهما منفصلة عن الأخري ، أو في حال اجتماعهما معاً، ولكن الأكثر إثارة (للفزع هنا وليس للدهشة) أن تكون الجهة الداعية للقاء أو المنظّمة له هي (اللجنة العربية لحقوق الانسان)، فعند ذلك سيكون جرم الصحافي السوري الذي سيسافر من دمشق إلي باريس لحضور اللقاء من الكبائر، لأن كلمة حقوق الانسان تثير في دمشق نوعاً من الشعور بعدم الارتياح لمن يسمعها، فيتململ في جلسته مباشرة ويتلفت حوله بحركة لا إرادية، فما بالكم لمن ينطقها؟! ورغم ذلك فعندما تلقيت الدعوة الموجهة من اللجنة العربية لحقوق الانسان لحضور هذا اللقاء تقدمت بطلب إلي مدير عام جريدة تشرين السورية التي أعمل بها محرراً صحافياً منذ عام 1986، للموافقة علي إيفادي للمشاركة في اللقاء وتغطيته، علي الرغم من النصائح التي تلقيتها من أصدقائي الصحافيين بأن أكتم الدعوة وأسافر علي شكل سائح، لأن مجرد إعلاني للدعوة سيضيف مزيداً من إشارات الـ(X) إلي اسمي في السجلات الأكثر أهمية بالنسبة للمواطن السوري وهي بالطبع السجلات الأمنية، وكانت النتيجة كما توقع نصّاحي من الأصدقاء حاشية من مدير عام جريدة تشرين الدكتور خلف الجراد علي طلبي المقدم إليه تقول بالحرف (أن أمر الندوة لايخص المؤسسة مباشرة) وعليه فإن رأيه (مع عدم الموافقة). واعتقد أصدقائي الذين نصحوني بعدم اعتماد العلنية في سفري، بأن قرار مدير عام الجريدة والذي توقعوه قبل صدوره سيصيبني بنوع من الاحباط، لكنهم دهشوا عندما وجدوني راضياً بالقرار، وأكاد أقول أني سعيد به، وعلي هنا أن أقدم كامل امتناني للدكتور خلف الجراد لعدة أسباب: أولها لأنه بقراره هذا يؤكد أن لاشيء تغيّر، ولاشيء سيتغير ـ في المدي المنظور ـ في العقلية التي تسيطر علي الاعلام والصحافة في سورية علي الرغم من كل دعوات الاصلاح وشعاراته، وهذا بالتالي سيجعلني في مأمن من الوقوع في أي مغالطة لواقع حرية التعبير في سورية عند حديثي عنها، وثانيها لأن الدكتور الجراد في حاشيته التي كتبها علي طلبي والتي تري أن موضوع حرية التعبير لايخص جريدة تشرين مباشرة، وأضيف أنا لا يخصها بشكل غير مباشر أيضاً، وصّف الجريدة التي يديرها، ولذلك لن أتهم بأي افتراء علي ما أعتقد في حال تناولت موضوع غياب حرية التعبير في جريدة تشرين كمثال أعرف دقائقه وتفاصيله في ورقتي هذه، مادام المدير العام يعترف خطياً بذلك، أما ثالث الأسباب التي تجعلني ممتناً للدكتور الجراد فهو بمنحه لي ـ عبر رفضه الآنف الذكر ـ مدخلاً مناسباً لما أريد ذكره فيما يلي حول غياب حرية التعبير في الصحافة السورية.
السادة المشاركين في هذا اللقاء.
لا أعرف بالضبط مدي علاقة سورية بموضوع لقائكم المعنون (الغرب وحرية التعبير في العالم العربي)، فعلي الرغم من أن الغرب بمؤسساته ومنظماته الأهلية والحكومية المعنية بحرية التعبير، لم يكن يترك انتهاكاً ضد حرية التعبير في أية بقعة من بقاع الأرض إلا ويدينه أو يشير إليه علي الأقل، إلاّ أنه كان يتناسي موضوع حرية التعبير في سورية، ولهذا لم يعوّل الصحافيون والكتاب السوريون علي هذا الغرب في يوم من الأيام، علي الرغم من قرارات منع الكتابة التي كانت تصدر شفهياً وبالجملة لأعداد غير قليلة من الكتاب والصحافيين السوريين، التي لم تكن تقف عند حدود المنع من الكتابة، بل وتتعداها إلي منع ذكر الاسم في أية وسيلة إعلامية سورية، فضلاً عن الاجراءات العقابية المختلفة، والمضايقة بلقمة العيش، وبإمكاني أن أعدد عشرات الأسماء التي منعت من الكتابة، فمن منا لايذكر قصصا مثل منع الصحافي والشاعر ممدوح عدوان من الكتابة عدة مرات، ونقله من محرر في جريدة الثورة أواخر سبعينيات القرن الماضي بأوامر من وزير الاعلام الأسبق أحمد اسكندر أحمد إلي عمل مكتبي في وزارة الاعلام، وسحب جواز سفره ومنعه من السفر، ومراقبته من خلال دورية أمنية تطارده كظله في تسعينيات القرن الماضي بأوامر من وزير الاعلام الأسبق محمد سلمان، ومنع الشاعر نزيه أبو عفش من الكتابة ونقله من التدريس بحجة كونه خطراً علي الجيل الجديد إلي وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ومنع الكاتب ميشيل كيلو بحكم أبدي من الكتابة إلي حد تهديد المنظمة الحزبية في جريدة الثورة عام 2001 بعدم طباعة الجريدة فيما لو نشر اسمه فيها عندما أراد المرحوم محمود سلامة استقطاب الكتاب السوريين بجميع أطيافهم أيام كان مديراً عاماً لجريدة الثورة، إضافة إلي أوامر منع من الكتابة لأسماء مثل عادل محمود وأحمد دحبور ومحمد الماغوط وزكريا تامر وسعد الله ونوس وشوقي بغدادي وسهيل ابراهيم وخيري الذهبي، وكاتب هذه السطور الذي نقل إلي قسم الأرشيف أكثر من مرة ونفي إلي مكتب الجريدة في حلب واستدعي للتحقيق الأمني، وقد لا يتسع المجال هنا لأعدد أسماء الكثيرين من الكتاب السوريين الذين منعوا من الكتابة أو اتخذت بحقهم اجراءات عقابية، أو الصحفيين السوريين الذين تمنع مقالاتهم بالعشرات في الصحف السورية، أو الكتاب والشعراء العرب الذين كان مجرد ذكر اسمهم يعتبر تهمة، فقد كان أدباء ومفكرون من وزن نجيب محفوظ ومحمود درويش وصادق جلال العظم وأدونيس وزكريا تامر ونزار قباني علي اللائحة السوداء للإعلام السوري خلال فترات ماضية وبتهم مختلفة، فقد أعطي وزير الاعلام السوري محمد سلمان أوامره بعدم الكتابة عن نزار قباني عند رحيله، بسبب ما أشيع آنذاك عن كلام قالته ابنته عندما جاء ممثل للسفارة السورية في بريطانيا لتعزيتها، ومنع المدير العام السابق لجريدة تشرين محمد خير الوادي الكتابة عن ديوان لمحمود درويش لأنه من جماعة اتفاق أوسلو وعن كتاب لأدونيس لأنه من دعاة التطبيع حسب رأيه، كما منع المدير العام الأسبق لجريدة تشرين عميد خولي الكتابة عن رواية لنجيب محفوظ لأنه من جماعة كامب ديفيد الخونه، وأجد من المفيد أن أذكر هنا حادثة طريفة كنت شاهدها لدلالتها الواضحة، فقد دعيت عام 1999 إلي معرض القاهرة الدولي للكتاب الحادي والثلاثين، وكان برفقتي علي الطائرة الدكتور عبد الكريم عبد الصمد رئيس القسم الثقافي في جريدة تشرين السورية، للمشاركة كممثل لسورية في مؤتمر كتاب في جريدة الذي يعقد علي هامش المعرض، وكان يسألني عن أسماء الكتاب السوريين المناسبين لنشر كتبهم ضمن خطة كتاب في جريدة خلال عام، وعندما ذكرت له أسماء مثل محمد الماغوط ونزار قباني وأدونيس وزكريا تامر، أجابني بأن هؤلاء غير مرغوبين من الجهات الرسمية، ولم يسجل أسماءهم في قائمة كتابه المرشحين، لكن الطريف في الحادثة (وهو مؤلم أكثر من كونه طريفاً) أن الأعضاء العرب المشاركين في المؤتمر هم الذين طرحوا أسماء هؤلاء الكتاب السوريين الأربعة لاصدار كتبهم ضمن خطتهم وأقروها، والأكثر إيلاماً أن ممثل سورية هو الذي أبدي تحفظه تجاه هذه الأسماء!
واذا كان هذا التعامل هو القاعدة مع أسماء لها سمعتها العربية والدولية، فكيف يكون التعامل مع صحافيين محليين ليست لهم تلك السمعة الكبيرة .. لو دخلنا في التفاصيل سأسرد مئات بل آلاف القصص التي تعتبر أمثلة نموذجية عن غياب حرية التعبير في الصحافة السورية، ابتداءاً من المواضيع الكثيرة المحظر علي الصحافي السوري الخوض فيها، ومروراً بمنع الصحافي من التعقيب علي رد لجهة رسمية تناولها بمقال، أو حجب المعلومات عنه، أو الاتصال برئيس التحرير المعني لايقاف موضوع يحقق به صحافي ما، فيقوم رئيس التحرير بنجدة المتصل وينصره علي الصحافي، أو التدخل من قبل مسؤول النشر في مادة الصحافي ليس بالشطب فقط بل بإضافة أسطر إلي المادة قد تبدل توجهها، إلي غياب كامل لدور اتحاد الصحافيين السوري، الذي يتشكل مجلسه التنفيذي ـ وهو السلطة صاحبة القرار فيه ـ من رؤساء تحرير الصحف السورية أنفسهم، لذلك لا يجدي الصحافي السوري أن يرفع أي شكوي علي إدارته إلي نقابته المهنية، كون من سيحكم في مظلمته هم ظالميه أنفسهم، ولذلك لم يسجل لاتحاد الصحافيين السوريين عبر تاريخه كله أنه أنصف صحافياً في وجه إدارته، وهنا أود الاجابة علي سؤال افتراضي قد يخطر في ذهن أي منكم وهو التالي: مادام الوضع علي هذا النحو من السوء لماذا لم نسمع عن سجناء رأي من الصحافيين السوريين؟ وجوابي لأن العقلية التي تدير الاعلام السوري (وهو إعلام رسمي حكومي) نقلت حراس السجون من الوقوف التقليدي علي أبواب المهاجع والزنازين، إلي الجلوس خلف مكاتب رؤساء ومدراء وأمناء التحرير ورؤساء الأقسام في الصحف السورية، واعتمدوا العلاج الوقائي ضد فيروس حرية التعبير حتي لايصلوا إلي حالة العلاج السريري، ولهذا فإن كل مسؤولي النشر في الصحافة السورية الذين استمروا وارتقوا السلم الوظيفي كانوا علي علاقة ما بالأجهزة الأمنية، بينما أقصي شبه المستقلين في أول فرصة أتيحت لمن هم غير مرتبطين به أن يقصيهم، وعبر هؤلاء الحراس الذين ارتدوا أزياء مسؤولي النشر تم منع المقالات أوالحذف منها وإلغاء أي رأي يمكن أن يشكل خطراً ما ـ حسب رؤيتهم ـ سواء من الرأي أو حتي من تأويله، وبهذه الطريقة تمت إدارة الصحافة السورية وألغيت حرية التعبير نهائياً، إلا إذا اعتبرنا أن الفارق بين مقال يمدح قراراً حكومياً ما، ومقال آخر يبالغ في مدح القرار يعتبر نوعاً من حرية التعبير.
السادة المشاركين في هذا اللقاء.
أرجو أن لايفهم كلامي السابق علي أنه إلغاء للروح العنيدة التي يتمتع بها الصحافيون السوريون، أو جزء منهم، أولئك الذين مازالوا يحاولون توسيع هامش حرية التعبير، ويواجهون يومياً قرارات المنع، و يبتكرون الطرق التي تمكنهم من تمرير ما يودون قوله، أو علي الأقل جزء كبير مما يودون قوله، ويعاقبون أحياناً، ويهددون كثيراً، ويجد بعضهم متنفساً في الكتابة لصحف عربية خارج سورية إنما في الشأن السوري، وخصوصاً في شأن حرية التعبير، إلا أن كل المقالات التي تناولت حرية التعبير في سورية في الصحف العربية لم تستطع أن تصنع أي انفتاح إعلامي، أو تبدل في العقلية المتشنجة التي تحكم الاعلام السوري، فعلي الرغم من أن دعوات الاصلاح ـ ومن بينه الاصلاح الاعلامي ـ كانت شعار الثلاث سنوات الأخيرة، ورغم منح بعض التراخيص لصحف ومجلات مستقلّة، إلاّ أنها علي أرض الواقع كانت من أسوأ الفترات التي عاني منها مجتمع الصحافة في سورية، وهي الفترة التي تسلّم فيها السفير عدنان عمران منصب وزير الاعلام، فبعد أن كان يتم في السابق اختيار المدراء العامين للصحف السورية من ضمن الكادر الصحافي من المرتبطين بالأجهزة الأمنية، فرض علي مؤسسات الإعلام في هذه المرحلة مدراء عامين من خارج الكادر الصحفي، ليس لديهم أي مؤهل سوي ارتباطهم بالأجهزة، فحولوا هذه المؤسسات إلي منابر لشتم المثقفين السوريين ودعاة إحياء المجتمع المدني وقوي الحراك الاجتماعي في سورية، وأقرّ قانون المطبوعات الجديد الذي جعل من عقوبة السجن سيفاً مسلطاً علي رأس الصحفي، وضاق هامش حرية التعبير علي صفحات الصحف السورية بشكل أربك الأداء الصحافي، فصدر تعميم من وزير الاعلام عدنان عمران يحظر الكتابة عن أي نشاط ثقافي بدون الحصول علي موافقة وزيرة الثقافة علي مادة الصحفي، وآخر يمنع علي الصحفي السوري الكتابة في أي مطبوعة خارج جريدته دون الحصول علي موافقة وزير الاعلام، وأصدر مدير عام جريدة تشرين الدكتور خلف الجراد قراراً يمنع فيه الصحافيين من إجراء أي لقاء مع أي مسؤول إلا بعد الحصول علي موافقته الخطية، واستدعي عدد من الصحافيين للتحقيق الأمني بسبب مقالات كتبوها، وفرضت رقابة مسبقة علي الصحف المستقلة رغم مخالفة هذا الاجراء لقانون المطبوعات السوري، وألغي ترخيص الدومري أول جريدة مستقلة في سورية بعد مضايقات كثيرة تعرضت لها والتي صدرت بعض أعدادها أحياناً بصفحات أو فقرات بيضاء داخل المقالات دلالة علي تدخل الرقابة، واتهم ناشرها الفنان علي فرزات بالخيانة بصفحتين كاملتين نشرتا في جريدة تشرين التي منع عنه مديرها العام حق الرد، وتم التضييق علي مراسلي وسائل الاعلام العربية والعالمية فسحبت البطاقة الصحافية من بعضهم لفترات طويلة مثل مراسل جريدة الرأي العام الكويتية جانبلات شكاي، ومراسلة هيئة الاذاعة البريطانية سلوي اسطواني ومراسل جريدة الزمان اللندنية المرحوم ثائر سلوم، ورفض اعتماد بعضهم الآخر كمراسلي محطة الجزيرة الفضائية محمد العبد الله وليلي موعد، وطرد من سورية مراسل وكالة الأنباء الفرنسية ماهر شميطلي كونه فرنسي الجنسية من أصل لبناني.
السادة المشاركين في هذا اللقاء.
أعتقد أن كل مارويته لايثير دهشة أي صحافي سوري، فلدي كل صحافي عندنا مئات القصص التي تملأ رفاً من المجلدات لو كتبها، لكن الذي يثير دهشتي أنا وغيري من الصحافيين السوريين أن تصل يد الرقابة إلي حديث رئيس الجمهورية العربية السورية مع جريدة النيويورك تايمز الذي نشر بتاريخ 2/12/2003 في جريدة تشرين بـ(5705) كلمات، في حين نشر نفس الحديث في نفس اليوم في جريدة الشرق الأوسط اللندنية بـ(7850) كلمة، أي باختصار (2145) كلمة، ولدي تدقيقي نسختي الحديث تبين لي أن الأسئلة والاجابات المحذوفة في الصحافة السورية تتعلق بالشأن الداخلي السوري، وسأترك لحضراتكم قراءة دلالات هذه الحادثة.
السادة المشاركين في هذا اللقاء.
أرجو أن أكون من خلال هذا السرد السريع الذي قصرته علي موضوع حرية التعبير في الصحافة السورية قد أثبت لكم بأن حاشية الدكتور خلف الجراد مدير عام جريدة تشرين علي طلبي السفر للمشاركة في ندوتكم بأن موضوعها لا يعني جريدته ينبغي أخذه علي محمل الجد، لأنه يعبر عن واقع، ويشهد بحقيقة.
القدس العربي
16/12/2003
ـــــــ
* كاتب وصحافي من سورية، وهذه ورقة مقدمة إلي لقاء الغرب وحرية التعبير في العالم العربي المنعقد في باريس بتاريخ 12/12/2003 بدعوة من اللجنة العربية لحقوق الانسان.