حالة فلسطينية باستثناء !!!

حالة فلسطينية باستثناء!!!!!!!

نوال السباعي /مدريد

الحدود المرسومة بين أقطار هذه الأمة بذكاء شيطاني عجيب ,بمسطرة فرنسية وقلم أحمر بريطاني, وغياب عربي فضائحي, تقطّع أوصال هذه المساحة الجغرافية الممتدة طبيعيا من طنجة الى المنامة , كرست المشكلات السياسية ورسمت معالم الأزمات الماضية والحالية والمستقبلية بين الأقطار العربية , وشلت وتشل قدرة هذا الجسد الواحد على النهوض من عثرته الكأداء ..

. هذه الحدود هي حالة فلسطينية , وضرورة يهودية, كان لابد منها لانشاء ذلك الوطن القومي الدخيل سكين مغروسة في الأحشاء !.

الخلافات القُطرية العميقة والخطيرة والتي وصلت حدّ غزو بعضنا لبعضنا الآخر واحتلال أراضيه واستباحة دمائه وأعراضه ولأكثر من مرة خلال تاريخنا الحديث الأسود , مع انعدام أية فرصة للوصول الى أي نوع من أنواع الاتفاق ولو من باب ذرّ الرماد في العيون من قبل الزعامات في بلادنا - اللهم الا النذر النادر- , هو حالة فلسطينية باستثناء , تقتضيها الحماقات العربية كما المخططات الغربية التي شجعت مثل هذا النوع من السلوكيات بين الدول العربية , ونصّبت نفسها مستشارا غادرا تُملي علينا سياسات تجعل من تمزيق الصف العربي نهجا ثابتا في حياة العرب منذ نشأة دولهم هذه بشكلها الحالي قبل نصف قرن وعقب خروج المستعمر عسكريا من بلادنا أول مرة ..ولقد منحت هذه الحالة أولياء أمورنا من الدول الغربية حق التدخل المباشر في شؤوننا والعودة بخيلهم ورجلهم الى بلادنا باسم تخليص بعضنا من بعضنا وباسم تحرير بعضنا من بعضنا!!.

الأميّة المنتشرة والمستفحلة في معظم البلدان العربية الى درجة مخجلة ومؤسفة وماعاد يمكن السكوت عنها في زمن انتشار التعليم والتقنيات المتطورة , انما هي حالة فلسطينية مؤكدة , وضرورة يهودية مُلِّحة, فاستمرار الأوضاع على ماهي عليه في أرضنا المقدسة المحتلة يستدعي أن نكون على مانحن عليه من أميّة ..بل أميّات , أميّة لغوية مضاعفة , أميّة تقنية مخزية , أميّة اجتماعية مَعيبة , أميّة دينية محزنة, أميّة انسانية فاضحة !, أميّة تستدعيها الحالة الفلسطينية , كما يستدعيها بقاء الاستيطان في قلب هذه الأمة.

الفوضى الفكرية العامة المرتبطة بقضية الانتماء , والتي عاشها الناس متخبطين بالأمس وخلال نصف قرن بين سلطات حاكمة تريد فرض عقيدة القومية الاشتراكية بقوة البطش والارهاب وسطوة الاعلام والمال وجرائم استئصال دموي متوحش للمجموعات العرقية التي jتشكل جزءا لايتجزأ من هذه الأمة وجودا وثقافة , وبين جماعات ثائرة تطالب بأن تحكم البلاد بالاسلام  مستأثرة بفهمه محاولة التحدث وحدها باسمه ومن ثم فرض رؤاها الخاصة به على عباد الله .

 هذه الفوضى التي تمخضت عن صراعات مريرة وضحايا ليس أولها القضية الفلسطينية ولاآخرها الزج بخيرة شباب الأمة في المعتقلات الغير انسانية وتحول البلدان العربية الى بيئات طاردة للعقول والسواعد والأقلام والأفكار , هذا الصراع عاد يطل علينا برأس أفعاه من جديد مفَعلا بأيدي وألسنة وأقلام دعاة نفي وجود الأمة الاسلامية ورفض الدين الذي ارتضته هذه الأمة وخالط لحمها وعظمها وأمشاجها , وبين أنصار زلزلة القناعات بوجود الأمة العربية التي أصبحت حلما له من القوة والنفوذ مايجعل استئصاله اليوم من العقول والنفوس جريمة تاريخية نكراء لايمكن غفرانها.

 هذه المحن الفكرية المزلزلة انما  هي حالة فلسطينية يقتضيها اذهال الناس عن هويتهم العربية الاسلامية , وعما يجري في فلسطين وفي القدس وصرف تفكيرهم عن مجرد الشعور بالانتماء الى هذه القضية التي هي رأس القضايا كلها , والتي لايستقيم وجود عربي اسلامي بغير حلها , والتي يجب أن تكون هوية خاصة بكل عربي ومسلم على وجه الأرض يشعر بها ويألم لها قبل أن يألم لما يصيبه في لحمه وفلذات أكباده لأنها قضية تتعلق بعقيدته وانتمائه ووجوده وحاضره وماضيه ومستقبله.

ارتفاع نسبة البطالة المادية والمعنوية الى درجة الانفجار الاجتماعي والدمار الوطني هو حالة فلسطينية بامتياز , فكلما انتشر الخراب الصناعي والاحساس بالفراغ الجماعي والفردي , والاستثمار في غيرمامصلحة الشعب والوطن كلما خدم ذلك مخططات الكيان الصهيوني في تقديم نفسه كبديل لادارة اقتصاد وثروات منطقة لاتعرف الاستفادة من ثرواتها ولامن مكانتها الجغرافية ولامن قدراتها.

ازدياد أعداد الفقراء المعدمين في بلاد حباها الله بجميع أنواع وأسباب التقدم والرفاهية , انما هو حالة فلسطينية ممتازة , يعجز الناس فيها عن تقديم يد المساعدة لاخوانهم من أهل الأرض المحتلة , بحيث يُتركون لأقدارهم في القهر والحرمان والجوع وانعدام المعين والنصير..لأن المواطن في المنطقة العربية بطولها وعرضها ليس أفضل حالا من اخوانه الفلسطينيين لاماديا ولامعنويا ولاأمنيا في زمن جعلت فيه أجهزة الأمن والاقتصاد العربي من حياة الانسان نسخة مطابقة عن حياة الفلسطيني تحت نير الاستيطان والاستئصال والسلب والتعجيز وعرقلة الحياة اليومية وجعلها صعبة قاسية مريرة , تطحنه بين رحى البحث عن اللقمة ورحى العيش الكريم , وتمنعه من التمتع بأدنى أنواع الخدمات الانسانية التي كانت تتوفر حتى في العصر الحجري والذي يبدو بالنسبة للمواطن في منطقتنا الناطقة بالعربية أرحم من العيش في ظل هذه الأوضاع الارهابية الدموية غير الانسانيةالمكرسة وجودها على حساب راحته وكرامته وانسانيته.

امتداد وانتشار وازدهار السجون والمعتقلات والمقابر الجماعية في طول البلاد العربية وعرضها , والاصرار على سياسات السحل وارهاب الدولة وقمع الحريات واعدامها بفرمانات قوانين الطوارئ الخاصة بمواجهات تمثيلية مع العدو الذي ماعاد اليوم عدوا , وتكميم الأفواه والأنفاس والأفكار , كل هذا حالة فلسطينية بامتياز , تحول وباستمرار دون تعبير الشعوب في المنطقة العربية عن ارادتها فيم يُصنع على عينها من سياسات تخص هذه المنطقة تنطلق وتلف وتدور وتعود ودائما الى فلسطين , فالقضية هي المشجب الذي عُلقت عليه كل مآسي هذه الأمة , والقضية هي التي باسمها حكمنا من حكمنا من الثوريين والتقدميين والاشتراكيين والرجعيين واليمينيين واليساريين والفوقييين والتحتيين , وباسم القضبية وحدها نُهبت أموالنا وودُمرت دولنا ومزقت مجتمعاتنا وحُكمنا بالدم والنار والحديد والقهر والتعذيب ونلنا من ذوي القربى مالم نناله ولا حتى على يد الاستعمار الفرنسي الاستئصالي للجزائر خلال أكثر من مائة وثلاثين عاما , حتى جأر الناس الى ربهم أن يغير أحوالهم ولو عن طريق المستعمر الأمريكي ليتخلصوا من هذا الظلم المطبق على حياتهم ووجودهم وأوطانهم!!.

مايجري اليوم من ارهاب منظم للمواطن ولأصحاب الفكر والرأي وللقيادات السياسية والفكرية المعارضة الشريفة المخلصة , وماجرى بالأمس القريب في مجمل الدول العربية , من قمع وحشي لأي ارادة للتحرر أو أي نوع من أنواع الرغبة في التغيير أو أي تطلع ما لتعديل أوضاع هذه البلدان , انما كان حالة فلسطينية , تتطلب ابقاء الحال على ماهو عليه , لأن أي تغيير حتى لو كان اجتماعيا بحتاً يعني المساس ومباشرة بالأوضاع الكئيبة للفلسطينيين , لأن التغيير في بلادنا يعني تحقيق ارادة شعوب المنطقة في التكاتف والتعاضد لحل المشكلة الفلسطينية المرتبطة بشكل لايقبل الجدل ولا المساومة بالمسجد الأقصى الذي يمثل جزءا من عقيدة أمة تُحارب شئنا أم أبينا في عقيدتها وثقافتها وحضارتها وقناعاتها الى درجة جعلت كل تفكير شبابها على اختلاف مشاربهم السياسية وتوجهاتهم الفكرية يمر من فوهات البنادق , بعد أن سُدّت في وجوههم وبالارهاب منقطع النظير كل كوى النور والأمل والحرية والتعبير عن ارادتهم في الانتماء الى هذه الأمة وهذه العقيدة وهذه القناعة الوحيدة بأن كل مايعيشونه اليوم ليس الا حالة فلسطينية امتدت كالسرطان من المحيط الى الخليج .

              

كل شاب يعتقل ظلما أو قهرا أو تحسبا  , كل سجن يغلق على مظلوم أو ثائر تعذيبا وتغييبا وقتلا بطيئا للارادة والكرامة والحرية والوجود الانساني , كل حرة شريفة ينتهك عرضها في مراكز المخابرات العربية المتحدية والمتصدية والساهرة لخدمة البلاد والعباد!! , كل فتى يلقى حتفه غرقا وغربة في مياه مضيق جبل طارق  أو في أي مياه تفصل عوالم الظلم التحتية عن عوالم الظلمة الفوقية , محاولا الفرار نحو بلدان طالما ادّعت الحرية والديمقراطية والعلمانية وحقوق الانسان والحيوان , كل شارع لم تقم الدولة بتعبيده , كل برميل بترول تجري سرقة ثمنه , كل فضائية تكرس الفرقة والتجزئة , كل جهة اعلامية تحذف أو تسقط أو تمنع كلمة حق من الأن تصل الى الناس , كل داعية الى جزئيات جامدة متجمدة في هذا الدين تزيد الناس نفورا وابتعادا عنه ,كل مكرس لأوضاعنا الاجتماعية المتعفنة المتفسخة المريضة ,  كل ناعق باسم الاستعمار ونظرياته الحمقاء العقيمة مُروِجٍ الى تطبيقها في أرضنا , كل موت بسبب افتقاد الدواء أو ارتفاع ثمنه , كل تفكير في هجرة وانتفاء , كل انتحار أو خروج , وكل تكفير أو تفكير في تفجير ....كل هذه حالات فلسطينية باستثناء , لأن هذه الأمة مازالت تعيش منذ نصف قرن هذه الحالة الفلسطينية التي أريد لنا أن ننسى وجودها بيننا وأن ننفي معاناتنا اياها , كما أريد لنا أن ننفصل عنها , وكأننا اذا انفصلنا عنها ستنفصل هي عنا.

انها حالة فلسطينية هذه التي تعيشهاالمنطقة العربية اليوم بعربها وأكرادها وأمازيغييها وسنتها وشيعتها ومسلميها ونصاراها , بثوارها ومشايخها  بيسارييها ويمينييها بنسائها ورجالها وأطفالها , حالة فلسطينية لابد من الاعتراف بها بعد نصف قرن من التضييع ومحاولات التذويب والنسيان , لابد من الاعتراف بها , لأنه ومن فلسطين وحدها تمر اليوم كل الطرق المؤدية الى تحرير الأرض والانسان والفكر العربي المعاصر , ومن القدس وحدها تنطلق كل سبل النهوض بهذه الأمة عربية كانت أم اسلامية .

كل الطرق التي أدت بنا الى الهاوية انطلقت من سقوط القدس وتمزيق فلسطين واستلابها , واليها وحدها يجب أن تذهب كل طرقنا التي نحلم بأن نسلكها نحو التحرر والخلاص ...والغد الآت ..حتماً أكيداً لانشك فيه قيد أنملة .