فَذْلَكاتٌ لُغَويةٌ سياسيّة (5)

فَذْلَكاتٌ لُغَويةٌ سياسيّة (5)

(من وَحْي الواقع البعيد عن منهج الله عز وجل)

 ( لو قلّبنا النظر في لغتنا العربية ، لوجدناها قد وَسِعَت كلّ المفاهيم والمصطلحات ، لكن بالنسبة للسياسة ،  فاللغة تغوص في عُمْقِ أعماقها .. أي في الصميم ) .

بقلم : الدكتور محمد بسام يوسف

فَذْلَكَةُ الجيم (1)*:

( جَارَ ) وأخواتها !..

جَثَمَ ، جَأَرَ ، جَثَا ، جَرَمَ ، جَذَعَ ، جَحْدَرَ ، جَرْمَزَ ، جَحْفَلَ ، جَزَرَ ، جَهَمَ ، جَدَعَ ، جَحُظَ ، جَرَدَ ، جَسَدَ ، جَلَفَ ، جَلَخَ ، جَرَحَ ، جَرَضَ ، جَزَلَ ، جَنَزَ ، جَذَرَ

 (جَارَ) تعني : ظَلَمَ ، ومن يمارس الظلم يُسمى : (جائِر) أو ظالِم !.. والظلم أنواع ، أخطرها وأشدّها : ظلم الحاكم لرعيّته ، وأوضحها : الظلم الناجم عن وضع منهجٍ للحياة غير منهج الله عز وجل ، ثم إجبار الرعيّة على تنفيذه .. فالظلم في هذه الحالة ينجم عن الخطأ الذي يوجد في المنهج الوَضْعِيّ ، لأنّ الإنسان كثير الأخطاء ، وكل خطأٍ في منهج الحياة الذي يضعه البشر ، سيؤدّي إلى ظلمٍ عند التنفيذ في موضع الخطأ!.. والمنهج الوحيد الخالي من الظلم ، هو المنهج الخالي من الأخطاء ، لأنّ مَن وضعه لا يخطئ ، وهو الله سبحانه وتعالى المُنَزّه عن الخطأ !..

عندما تنفِّذ الرعيّة -مرغَمَةً- المنهج الوضعيّ الذي يضعه البشر ، فإنّ ذلك يعني أنّ أبناءها قد رضوا بالظلم الواقع عليهم أو الذي يصيبهم بلا حَوْلٍ منهم ولا قوّة .. فيتحوّلون إلى عبيدٍ للظالم الذي وضع لهم منهج الحياة من عنده ، فيتحوّل واضع المنهج أو التشريع هذا ، إلى رَبٍّ مزيَّفٍ للرعيّة ، أي يتحوّل إلى (جِبْتٍ)!.. والجِبْت هو : كل ما يُعبَدُ من دون الله ، وقد ورد في محكم التنـزيل قوله عز وجل : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ .. ) (النساء: من الآية 50) .

(الجِبْتُ) في هذا الزمان ، حين يكون من البشر ، فإنّه يحوّل نفسه إلى (جبّارٍ) ، والجبّار هو : القاهر العاتي المتسلّط .. مستخدماً الـ (جَبَروت) ، أي : القهر والقمع .. للسيطرة على عبيده الذين هم أبناء رعيّته التي ابتُلِيَت به !.. ويبقى (جاثِماً) على صدر الرعيّة إلى ما يشاء الله ، و(جَثَمَ) تعني : لزِم مكانه فلم يبرح ، أي في حالتنا التي نعرضها : لزِم كرسيّه فلم يبرح !..

إذا ما (جَأَرَ) أيّ فردٍ من الرعية إلى الله عز وجل ، أي : تضرّع واستغاث بالله ورفع صوته بالدعاء على الجائر ، كما ورد في محكم التنـزيل : ( .. إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ) (المؤمنون: من الآية 64) .. فإنّه سيخضع إلى سلسلةٍ من الأعمال التنشيطية ، تنتهي به إلى (جِنازة) ، أي : نعشٍ يُنقَل فيه إلى مثواه الأخير !.. إذ بعد أن يُكَبَّل -رحمه الله- بـ (جَنـزيرٍ) ثخين .. يؤتى به إلى أحد جبابرة الأرض ، فيوضع أمامه على طريقة (جَثَا) ، أي : جلس على ركبتيه ، وقد ورد في محكم التنـزيل قوله عز وجل : ( .. ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ) (مريم: من الآية 68) !..

يقوم السيد (جبّار الأرض) بـ (جَرْمِهِ) ، أي : إكسابه جُرْماً وذنباً ، ثم يأمر بـ (جَذْعِهِ) ، أي : حَبْسه .. بعد (جَحْدَرَتِهِ) ، أي : صَرْعه ودحرجته ، التي تسبقها عملية (جَرْمَزَتِهِ) ، أي : جمع بعضه إلى بعضٍ بضمّ أطرافه إلى بدنه !.. التي تتبعها عملية (جَحْفَلَتِهِ) ، أي : صَرْعه ورَمْيه إلى خارج مكتب السيد الجبّار!.. ثم يُنقَل إلى المكان الذي يُعَدّ لاستضافته ، واستضافة كل مَن يعرفه ، أو تعرَّف عليه ، أو كان ينوي التعرّف عليه !..

إذا ما وصل حياً إلى مكان (جَزْرِهِ) ، أي : نَحْره .. (جَهَمَهُ) ، أي : استقبله بوجهٍ كريهٍ .. أحد الساهرين على راحة النـزلاء الضيوف !.. ثم (جَدَعَهُ) ، أي : قطع أنفه ، وهي تحية الاستقبال !.. ثم أوكله إلى مجموعةٍ خاصةٍ بتكريم الضيوف الأعزاء ، أفرادها على هيئة البشر !.. فإذا ما استلموه يداً بيد ، (جَحُظَت) عيناه ، أي : نتأت حَدَقَتَاهما وبرزتا ، من شدّة الفرح والسرور !..

في الحال ، يخضع لعملية (جَرْدٍ) ، أي : تقشيرٍ !.. إذ يزيلون ما عليه مما بقي من ثيابٍ ، ويقوم أحدهم بـ (جَلْدِهِ) بسوطٍ لم يرَ مثله في حياته ، بينما يقوم الآخرون بـ (جَسْدِهِ) ، أي : بضرب جسده كله!..

بعد أن يتعبوا من عمليات الضيافة الخاصة بالاستقبال المناسب ، يستعدّون للجولة الأخيرة من التكريم ، بـ (جَلْخِ) سكاكينهم جيداً ، أي : شحذها لتصبح حادّةً ، ثم يَدهمون الضيف الكريم في زنزانته ، ويقومون بـ (جَلْفِهِ) ، أي : بسلخه ، ثم بـ (جَرْحِهِ) في كل ناحيةٍ من جسمه ، و(جَرَحَه) تعني : شقّ في بدنه شِقّاً !.. إلى أن ينفّذوا فيه الخطوة الأخيرة ، فإن بقيت فيه بقيّة من روحٍ .. قام أحدهم فـ (جَرَضَهُ) ، أي : خَنَقَهُ .. أو (جَزَلَهُ) ، أي : قَطَعه نصفَيْن !.. وإن كان الضيف المسكين المظلوم من أصحاب الحظوة ، فقد يقومون أخيراً بـ (جَنْزِهِ) ، أي : بوضعه في نعشٍ ، يُنقَل فيه إلى حيث يختفي حتى يوم القيامة !..

هكذا ، يكون السيد (جبّار) الأرض العادل !.. قد (جَذَرَ) أحد أحبّائه الكرام ، أي : استأصله وانتهى من أمره .. وما أكثر أحبّاء السيد الجبّار ومحبّيه !..

ــــــــــــــ

* الفَذْلَكَة - كما ورد في المعجم الوسيط - تعني : [ مُجْمَلُ ما فُصِّلَ وخُلاصَتُهُ ] ، وهي [ لفظة محدَثة ] .