مكانة دمشق وما تمثله للمنطقة!!

فيصل الشيخ محمد

قبل قرن تقريباً تنبه توماس إدوارد لورنس – المعروف بلورنس العرب – إلى مكانة دمشق وما تمثله من أهمية في المنطقة، ففي تقريره الذي رفعه للمخابرات البريطانية في عام 1916 – وهو بالمناسبة عميل لهذه المخابرات – يقول:

(إن كنا نريد أن نضمن تكريس سبل السلام في جنوب سورية وجنوب بلاد الرافدين وجميع المدن المقدسة – مكة والمدينة والقدس – فينبغي أن نحكم دمشق مباشرة أو من خلال حكومة صديقة غير إسلامية).

ما دفعني إلى الاستشهاد بما قاله لورنس قبل قرن تقريباً، هو ما يتطابق مع ما أعتقده ويعتقده الكثيرون، وخاصة من عرب الشام.. من أن دمشق كانت وستبقى حاضراً ومستقبلاً مفتاح السلام والحرب، والأمن والاضطراب، والعبودية والحرية في المنطقة.

من هنا فإنني أعتقد جازماً أن قضية فلسطين (قضية العرب الأولى) مفتاح حلها بيد من يحكم دمشق.. ومن يحكم دمشق عليه – ليس فقط أن يعي ذلك – بل عليه أن يمتلك العقل والدراية والصبر والحلم والحنكة والشجاعة، وهذا لا يكون إلا بتحصين دمشق، ولا يتم التحصين إلا بوحدة أهلها وتضامنهم وتحمل الجميع أعباء هذه المسؤولية التي شرفها الله بالتصدي لها.

أقول إن على من يحكم دمشق أن يكون لكل أهل دمشق، دون محاباة أو تمايز أو تفاضل أو إقصاء أو إهمال، فكل من فيها متمم للآخر ومكمل له، وبدون هذا الآخر لا تمام ولا كمال، وبالتالي شقاق وخصام وتنافر وتباغض وأحقاد وضعف وهوان ولا مبالاة.. وسيكون المستفيد الوحيد من هذه الحالة العدو المتربص الذي عرف من أين تؤكل الكتف.. تؤكل من دمشق غير المحصنة!!

إن كل ما أردته من هذه المقدمة إيقاظ النائمين في دمشق، المخدرين بأحلام صولجان الحكم.. الفرحين بما في أيديهم من جاه وسلطان وسطوة.. وأدعوهم أن يثوبوا إلى رشدهم ولا يفرحوا كثيراً بمن يقدم إلى دمشق من وفود غربية وأمريكية، ما هي إلا ملهاة لهم ليحجبوا عن عقولهم الهدف الأبعد، فهذه الوفود التي تتمتع بدبلوماسية وحنكة سياسية عالية، لن يقدموا لدمشق شيء.. فهذه الدول التي تأتي هذه الوفود منها لها أجندة وسياسات واستراتيجيات ترسم في الغرف المقفلة، بيد علماء ومفكرين وجهابذة يقدمون مصالح أوطانهم على مصالح ذواتهم وذوات من يكونون في الحكم، وبالتالي فهناك خطوط حمر لا يمكن لمن هم في الحكم تجاوزها أو اختراقها أو حتى الاقتراب منها.

وآن لأهل الحكم في دمشق أن يشبوا عن هذا الطوق، ويعودوا إلى حضن الجماهير الدافئ، الذي منه يستمدون المنعة والحياة والديمومة والبقاء، فالجماهير هي القلعة الحصينة التي تحميهم وتحمي أوطانهم من غوائل الدهر وإحنه، وهي التي تفشل المشاريع والمخططات التي يريدها العدو لدمشق وأهلها، حكاماً كانوا أو محكومين.

جماهير دمشق تنتظر من حكامها بناء وحدة وطنية حقيقة، تقوم على التوازن بين كل مشاربهم وألوانهم وأطيافهم، دون احتكار أو محاباة أو تمايز أو نفي أو إقصاء أو إبعاد أو استهانة أو احتقار.

جماهير دمشق تريد من حكامها احترام الرأي الآخر والحوار معه بكل شفافية والتزام، فدمشق لم تكن يوماً حكراً لفكر أو رأي دون آخر، فقد كانت على الدوام محطة فكرية متنوعة، لا يفسد لأي لون معارض للود قضية مع أهل السلطة..فالتداول السلمي للسلطة من حق الجميع، وإذا ما احتكر طيف الحكم فليس هذا قاعدة بل شذوذ عن القاعدة، ولابد من التصحيح.. وجماهير دمشق تطالب حكامها بالتصحيح، والعودة إلى القاعدة مَكْرَمة، والتخلي عن الشذوذ فضيلة.

وبغير الوحدة الوطنية والتلون الفكري المعتدل لن تكون لدمشق أية قيمة في عيون أعدائها، ولن تقوى على التصدي لما يراد لها وما يحاك.. وآن لحكام دمشق أن يشبوا عن طوق الوهم، ولا يفرحوا كثيراً بمن يستقبلون ويودعون..وآن لهم أن يعرفوا قيمة دمشق وما تمثل للمنطقة، وقيمة دمشق ليس بأحجار مبانيها أو تراثها، وإنما قيمتها بشخوص أبنائها الأحرار، أصحاب القامات المنتصبة، والهامات العالية، والنفوس الأبية، والبطون الممتلئة، والأجساد المكتسية.