مذكرات مجنون في فضائل الكركونات والسجون !
مذكرات مجنون في
فضائل الكركونات والسجون !
مصباح الغفري
السجنُ مدرسَةٌ ، إذا أعددتَها أعْدَدْتَ شعباً طَيّبَ الأخلاق
أرجو من القراء الكرام والقراء اللئام أيضاً ، أن يأخذوني بطولة البال حتى أكملَ حديثي إلى آخره. فأنا اليوم من أشَدّ أنصار السجون والمعتقلات حماساً ، حتى أنني أفكر في افتتاح مقهى أو مطعم في باريس ، مقسم إلى زنزانات ، الكراسين فيه يرتدون لباس الشرطة العسكرية ، والمحاسب ضابط مخابرات أزرى به الدهر ، والنادل علي دوبا مثلاً !
ذلك أنني بعد التفكير والصفن ، إكتشفت أن السجن في الصغر ، كالنقش على الحجر . هل كان من الممكن أن أكون أنا أبو يسار الدمشقي القنواتي ، ديموقراطياً لولا الفلقة التي تكرّمَ علي بها البروفيسور عبد الوهاب الخطيب ذات يوم ؟
إيماني المُفاجىء بفضائل الحبس الإحتياطي والوقائي والتنفيذي والكيفي والتعسفي ، سببه السيد نيلسون مانديلا ، هذا الرجل قضى في السجن أكثر من ربع قرن ، وخرج رئيساً للجمهورية ، يحترم حق الإنسان الأبيض والأسود والخلاسي ، في الكلام والتظاهر وتأليف الأحزاب وتوليفها ، فلو أنه لم يُسْجَن بدون وجه حق ، هل كان يستطيع فهم الديموقراطية ؟
أجل ، السجن خير مدرسة ، وأعتقد أنه مدرسة تفوق في أهميتها جميع الكليات العسكرية ، فالكليات العسكرية عندنا ، تخرّج منها جنرالات متعددو المواهب ، منهم من أصبح رئيساً ومنهم من أصبح وزيراً مُزمناً ، ومنهم من ينتظر ! وما بدّلوا تبديلا !
أما السجن ، فقد تخرّجَ منه شاعر تركيا الكبير ناظم حكمت ، وقال في ذلك :
" في الماضي ، كان جدي باشا ، ولذلك لم يَقضٍ خدمَة عشر سنوات في الطائف . أما أنا ، فقد غيّرْت طبقتي وأصبحت شيوعياً ، ولذلك قضيت خدمة عشر سنوات في السجن ! "
وللعلم ، فإن شارع ناظم باشا في حي المهاجرين في دمشق ، هو باسم ناظم باشا جد ناظم حكمت .
إذن ، السجن مدرسة ، إذا أعددتها ، أعددت قادة وزعماء ووزراء وشعراء ومطربين وكتاب وأصحاب جرانيل ، يدافعون عن الحرية والديموقراطية بالنواجذ والأسنان.
وبناء عليه ، فمن أجل النضال بنجاح في سبيل الحرية والتعددية وإلغاء قانون الطوارىء ، وفي سبيل الإنتهاء من الفساد وانتهاك حقوق الإنسان ، ومن أجل هاتف خلوي تعود أرباحه إلى الشعب لا إلى ذوي القربى ، ومناطق حرة في المطارات لا تُفَرّخ أصحاب مليارات ، لا بدّ من النضال الدؤوب وبلا هوادة ، في سبيل فتح أبواب المعتقلات ، وزيادة عدد أماكن التوقيف ، ووضع خطة خمسية لبناء أكبر عدد من المخافر والكركونات وأقبية التحقيق .
يا جماهير أمتنا العربية ، إرفعوا شعار : زنزانة منفردة لكل مواطن !
لتحقيق هذا البرنامج الطموح والرائد ، لا بديل عن جعل السجن كخدمة العلم ، يقضي المواطن ثلاث سنوات كحد أدنى ، ضيفاً على المخابرات العسكرية أو فرع فلسطين أو الأمن القومي ، الشهور الستة الأولى ، يتعرض لتدريب على احتمال الألم لإثبات رجولته ، ولدينا والحمد لله ، خبراء في هذا المجال ، تمت تربيتهم على أيدي كبار المفكرين الأمنيين ، ولا حاجة لذكر الأسماء ، فهم يُعرفون بسيماهم .
بعد إنهاء هذه الخدمة الوطنية الإلزامية ، يحصل المتخرّج على شهادة ، وبموجب هذه الشهادة ، يحق له العمل في وظائف الدولة. كل من يريد أن يشغل منصب وزير أو نائب ( وتُجْمَع على نوائب ، فاقتضي التنبيه ) أو لأي منصب عام ، عليه أن يثبت أنه " خريج حبوس " وكلما علا المنصب الذي يطمح إليه المواطن ، إرتفعت مدة المحبوسية المطلوبة . فالترشيح لمنصب رئيس وزارة أو رئيس مجلس الشعب ، لا يجوز أن تقل مدة محبوسية طالبه عن عشرة أعوام ، أما طلب منصب الرئيس ، فيحتاج إلى شهادة تثبت أنه سجن عشرين عاماً كحد أدنى، ويفضل أن يكون ذلك بتهمة منافية للآداب !
المواطن الزاهد في وظائف الدولة ، يمكنه أن يدفع البدل النقدي لإعفائه منها ، ولكنه يمنع من ممارسة حقوقه السياسية ، فمن لم يدخل الحبس فليس منا ، وإن تعدوا " نِعَمَ " الحبس لا تحصوها .
لكي تصبح ديموقراطياً وإنسانياً وقومياً ووطنياً ونظيفاً لا ترتشي ولا تقبض ولا تعذب الناس ولا تجلدهم, لا بديل لك عن أن تتعرض للتعذيب والظلم والسجن بدون محاكمة بأوامر عرفية . عرفت هنا في باريس بعض فقهاء القمع ، الذين كانوا من كبار المنظرين للتسلط والطغيان والديكتاتورية ، فإذا بهم بعد أن سُجنوا وعانوا الأمرّين من حجز الحرية والفلقة والكرباج والكهرباء ، قد تحولوا إلى مدافعين عن الحرية والديموقراطية . عندها أدركت فضائل الحبس وأقبية التعذيب.
من الآن وصاعداً ، على كل أب أن لا يزوج ابنته إلا لعريس لديه شهادة تخرج من أي حبس ، وعند تكاثر العرسان ، يفضل العريس الذي سجن مدة أطول !
المرشحون للنيابة سيتبارون في بياناتهم الإنتخابية بعدد السنين التي قضوها خلف القضبان ، وقانون الموظفين سيتضمن شرطاً أساسياً للتوظيف : لائحة الإسباقيات.
السجون والمخافر وأقبية التحقيق مأكولة مذمومة ! لولاها لكان نيلسون مانديلا نسخة فوتوكوبي عن صدام حسين أو القائد الرمز ، ومأساة الحكام الطغاة أنهم لم يدخلوا السجن ، ولذلك أدخلوا الناسَ إلى السجون زرافات ووحدانا .
قال أبو يسار الدمشقي :
حدثني من أثق به ، أن القيادات التاريخية والسلطات الأمنية العربية ، تنبهت منذ زمن بعيد ، إلى الأبعاد الحضارية للسجن العربي . وهي حين حبست بعض المعارضين ، إنما انطلقت في ذلك من مصلحة قومية عليا ، الهدف منها خلق قيادات سياسية واعية كنلسون مانديلا ، والله أعلم !