صندوق الاقتراع الفلسطيني!

صلاح حميدة

[email protected]

قبل سنوات وفي برنامج( الاتجاه المشاكس) لفيصل القاسم على قناة الجزيرة، قدم هذا المذيع لحلقته حول الانتخابات والديمقراطية في العالم العربي، وذكر نكته حول النسبة الانتخابية للأحزاب الحاكمة العربية والرؤساء العرب ونسبة التصويت المرتفعة لهم والتي تنحصر في الرقم (9) فقط، وقال أن أحد الرؤساء العرب طلب من مخابرات بلده أن يبحثوا عن النسبة التي لم تنتخبه والتي تنحصر بالرقم(1)، فقال له مسؤول المخابرات لم نجدهم !، فرد نائبه بأن هؤلاء مودعين في السجون عندنا!(كان يقصد الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد).

بعد ما يقارب السنة تنازل الحكام العرب وأحزابهم (مشكورين ) عن الرقم (9)  حتى تصبح نسبة التصويت مقبولة إعلامياً،  في ظل وجود المنافسين الرئيسيين في غياهب السجون أو مطاردين مقهورين في فجاج الأرض!.

 للانظمة العربية باع كبير في تنظيم الانتخابات والاستفتاآت،  من العراق وسوريا  إلى مصر والأردن،  وذروة السنام في الجزائر وتونس ، حيث خرج الرئيس الجزائري علينا هذه الايام برغبته لتعديل الدستور ليصبح رئيسا حتى الموت مثل جاره في تونس، وفاز انتهاءً بنسبة رقم(9) .

في مواجهة هذه الظاهرة الغريبة،  يتساءل العديد من المحللين حول التأخر الكبير للأنظمة العربية الجمهورية في الارتداد عن جمهوريتها، والاعلان عن نفسها ملكية وكفى حفظاً لماء الوجه للمنافقين والمطبلين والمزمرين والمروجين وقالبي الحقائق وملوني الدساتير حسب رغبات الأنظمة والأحزاب وتوفيراً للأموال.

فلسطينياً، بقي الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال لفترة طويلة، وانقسم الشعب بين من أصبح يطلق عليهم( عرب اسرائيل) والذين يحق لهم أن يمارسوا الديمقراطية المجتزأة، والترشح للبرلمان الصهيوني، فيما شارك الفلسطينيون في الضفة والقطاع بالانتخابات البلدية في السبعينات، والتي سمحت بها (إسرائيل) حتى تبرز قيادات موالية لها، مما كان يعرف ب(روابط القرى)  ولكن الشعب الفلسطيني عبر عن توجهاته بطريقته،  وفازت القوى الوطنية المناوئة للاحتلال في ذلك الوقت ، مما جعل الاحتلال يجعلها التجربة الأولى والأخيرة.

بقي المتنفس الوحيد للانتخابات في الضفة والقطاع، في الانتخابات الطلابية في الجامعات، والتي لم يكن للاحتلال دور فيها، ولذلك بقيت مستمرة ومتواترة كل سنة تفرز من يختارهم الطلبة الفلسطينيون، واعتبر هذا الاستثاء الديمقراطي العربي الوحيد تقريباً.

عند تأسيس السلطة الفلسطينية، جرت انتخابات تشريعية ورئاسية، شارك فيها حزب السلطة فقط، ولم تشارك المعارضة لأسباب سياسية حينها، ولم تجر انتخابات بلدية لأنه كان متوقعاً أن تشارك فيها المعارضة الفلسطينية وأن تحقق فوزاً، ولجأت السلطة الفائزة -بالتزكية -عد أن تنافست مع نفسها -إلى التعيين في البلديات، واستمر الوضع بلا انتخابات جديدة لمدة تقارب العشر سنوات ، حتى ظهور موضة الاصلاح والانتخابات ومحاربة الفساد، وانتهاءً بتنظيم انتخابات أظهرت استطلاعات الرأي أن حزب السلطة سيكتسحها وسيبقى في الصدارة.

 بعد الانتخابات التشريعية والبلدية ( البلدية جرت بشكل جزئي وبالتقسيط)  إنتبهت الأنظمة العربية والقوى الدولية الداعمه لها، إلى أن خطراً محدقاً يحيق بالنموذج الذي تسعى لبنائه في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن هذه الانتخابات أتت بما لا تهوى سياسات أعداء الشعب الفلسطيني، وأن الشعب الفلسطيني لم يتم تدجينه وتطويعه كما في الدول العربية، ولذلك سعت لإجهاض التجربة الانتخابية الحرة  بعدة وسائل ..

كانت وسيلة الحصار من أقذر الوسائل التي استخدمت، ولا زالت تستخدم حتى الآن تجاه الشعب الفلسطيني، وهي وسيلة تستخدم بأبشع الطرق ل( كي الوعي) للشعب الفلسطيني، بأن انتخاب من يطالب بالحقوق الفلسطينية ويقاوم الاحتلال سيجوع، وأن الشعب إذا أراد الطعام، فعليه أن يلفظ من انتخبهم وأن يثور عليهم.

أسقط في يد المحاصرين للشعب الفلسطيني، بعد الصمود الأسطوري في مواجهتهم، ففقدوا توازنهم ولجأوا إلى حرب الاستئصال والقتل والدمار عل هذا الوعي يكوى، حرب الاستئصال على الطريقة الجزائرية، وعلى الطريقة المصرية، وعلى الطريقة التونسية ؟!.

فالتجربة الجزائرية ضليعة في الانقلاب على نتائج الانتخابات الحرة والقضاء على الخصم الفائز بدموية وحرب استئصال تميز بها النظام الجزائري، وفي النهاية يتم اتهام من فاز بالانتخابات أنه هو المنقلب على النظام والنظام الذي انقلب على الفائز في الانتخابات هو الضحية!. وعندما تجري الانتخابات بعد استئصال الفائز بالانتخابات، يفوز الحزب الحاكم بنسبة الرقم(9)!.

أما في تونس، فحرب على كل شيء ولا تستثني أي شيء، لا تحدها حدود ولا تقف عند حواجز، كل شيء فيها مباح لتغييب الخصم السياسي، في ظل استفتاآت لا تبرز إلا الرئيس الذي لا يوجد مثيل له؟!.

أما في مصر،  فالتعامل يتم بطريقة السماح جزئياً بانتخابات على مقاس النظام، فيها حدود معينة للخصوم، مع استهداف ورقابة أمنية شديدة، يسمح للخصوم بالمشاركة جزئياً، حتى تنكشف خطوط الاتصالات التنظيمية والنشطاء، ثم يتم اعتقالهم وملاحقتهم وهكذا دواليك، وفوق ذلك يتم تزوير الانتخابات بوسائل متعددة، من ضمنها استخدام سيفي المال والأمن.

حرب الحصار على الطريقة الدولية لم تجدي، فلا بد من استنساخ الحرب على الطريقة العربية (بالدمج بين التجارب الثلاثة السابقة )عل وعسى يفيد مع هذا الشعب الذي أطلق عليه الرئيس الراحل ياسر عرفات لقب( شعب الجبارين) والذي اطلقه تيمنا بالآية الكريمة ( إن فيها قوماً جبارين) المشكلة في هؤلاء الذين يسعون لاستنساخ التجارب العربية، أنهم نسوا أنهم في قرن المعلوماتية، والقرن الذي لا تحجب فيه المعلومة عن الناس، ونسوا أيضاً أنهم يحاولون الترويج والتنفيذ لتجارب أنظمة على شعوب مقهورة من يوم أن أعلن أنها استقلت عن الاستعمار، في حين الشعب الفلسطيني الذي يحاولون استنساخ هذه التجارب عليه هو الشعب الذي أصر أن يمارس انتخابات حره يختار فيها ممثليه، حتى وهو تحت سيف وقهر الاحتلال .

يسعى مستنسخوا التجارب العربية، إلى حرب الاستطلاعات التي تمجد الحزب الحاكم وسياساته، يسعون للترويج الاعلامي للحزب الحاكم في وسائل إعلام المطبلين والمزمرين والمنتفعين والخائفين .

يسعى هؤلاء للاستنساخ وسط حملة أمنية لاستئصال المنافس السياسي، بالاعتقال والملاحقة والتشويه الاعلامي، وانتهاءً بالاعلان عن الفوز الساحق والفوز الكبير الذي جاء نتاجاً للعمل الجاد والمتواصل الذي وصل الليل بالنهار، وتكلل ب(هروب) المنافس السياسي من ميادين، وعدم فوزه في أخرى؟!.

من خلال المتابعة والمراقبة، يتضح أن منفذي تجارب الاستنساخ الرسمية العربية في الانتخابات وصلوا إلى قناعه فشل التجربة، مع أنهم يهللون لفوز مبتور  في المناطق الوحيدة التي لم يستطع أحد أن يمنعها من ممارسة نوع من الانتخابات (الجامعات الفلسطينية) والذي يجسد هذه الحقيقة  أنه وبالرغم من( استطلاعات الرأي )التي تشير إلى أن فوزاً ساحقاً سيكون من نصيب طرف معين، إلا أنه يسعى للتمديد لولايته!.

فاذا كنت ستفوز بنسبة ساحقة كما تقول( استطلاعات الرأي) ويؤيد ذلك النتائج الانتخابية التي جرت في الجامعات بفوزك(الكبير) و( الساحق) على منافسك المسجون والملاحق ، فلماذا تريد التمديد ولا تريد الانتخابات؟!.

الغريب أن الانتخابات تكون جيدة إذا فزنا فيها ( اتحدث بضمير الحزب العربي الحاكم) وإذا جاءت بنتائج لمعارضينا، يجب أن نجري انتخابات في اليوم التالي، ونزورها، بعد أن نستأصل منافسنا السياسي ضمن رؤيا أمريكية، وعلى يد قوى (مهنية) مدربة أمريكيا أيضا؟!.

 إن محاولات استنساخ تجارب الأنظمة العربية على الشعب الفلسطيني، لن تنجح على شعب تربى وعاش وقاوم في بطن الأسد ، وإن شعباً لا زال تحت الاحتلال لن تنفع معه كل أساليب القمع والاستهداف، وإن كل هذه الجزئيات من انتخابات وغيرها، وحتى التنظيمات، لا أهمية لها أمام حرية هذا الشعب وإحقاق حقوقه المشروعه، فقائد الشعب الفلسطيني هو من يقف في الصف الأول دفاعاً عن حقوقه المشروعه، ويضع رقبته على مذبح الحرية لهذا الشعب، ولذلك فأي تنظيم أو تشكيل يسعى للترويج لنفسه أنه قائد هذا الشعب وأنه الأجدر بقيادته، فامتحانه يكون بمقاومة الاحتلال، ودفع الظلم عن الشعب الفلسطيني، والتضحية من أجل القضية والشعب والأرض، يمنّ عليه الشعب والوطن، ولا يمنّ هو على أحد، فمن قاوم ودافع يحظى بهذا الشرف لأنه قام بواجبه وليس له منّة على أحد بأن ناضل أو قاوم في يوم من الأيام، والأفعال والبطولات تقاس بديمومتها واستمرارها لا بانتمائها للماضي، هذا هو( صندوق الاقتراع الفلسطيني) ذو الماركة المسجلة.