صفحات مجهولة

صفحات مجهولة

من حملة نابليون على مصر

فيصل الشيخ محمد

يوم الاثنين الماضي السادس من نيسان كان يوم غضب للشعب المصري احتجاجاً على الحالة المتردية التي وصل إليها في ظل الحكم الشمولي للحزب الوطني، الذي أحكم قبضته الأمنية على كل مناحي الحياة في مصر اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً، وبسط نفوذه عن طريق التزوير والبلطجة – كما كنا نشاهد على شاشات الفضائيات، ومن خلال التقارير الصحفية المحايدة -  على المؤسسات التشريعية (مجلس الشعب، ومجلس الشورى)، وأفسد مؤسسة القضاء التي كانت تفخر بنزاهتها وحيادها مصر على الدوام.

يوم الغضب لم يتخلف عنه – رغم تجييش عشرات الألوف من رجال الأمن لتطويقها ومنعها – لم يتخلف عنه أي شريحة من شرائح المجتمع المصري من عمال وطلبة وفلاحين ومثقفين وأحزاب معارضة، في مواجهة حفنة من بلطجيي الحزب الحاكم وحيتانه، الذين استحوذوا على رغيف الخبز الذي لم يعد في ظل حكم هذا الحزب الشمولي سلعة سهلة المنال، وفي متناول يد المواطن المصري المطحون.

الأوضاع المتردية في ظل حكم الحزب الوطني الشمولي طالت كل مناحي الحياة في مصر.. الزراعة، والصناعة، والحرف، والإسكان، والتوزع السكاني، والفساد الإداري، واستئثار مجموعة من حيتان هذا الحزب على 95% من ثروات مصر ومداخيلها.. وفوق كل ذلك رهن مصر نفسها لاتفاقية (كامب ديفيد) المذلة.. ولابتزاز المعونة الأمريكية التي تُقدم لقاء رهن القرار السياسي المصري.. وجاءت ذروة غضب الجماهير المصرية من الحزب الوطني الشمولي الحاكم مواقفه المخزية من العدوان الصهيوني الهمجي على قطاع غزة.

هذه المقدمة كان لابد منها كي نلج إلى موضوع مقالنا حول (الصفحات المجهولة من حملة نابليون بونابرت على مصر) قبل أكثر من قرنين من الزمن.

فقد اتجهت أطماع نابليون إلى غزو مصر عقب انتصاراته في حروب إيطاليا فبدأ يفكر في تمهيد الطريق لإنفاذ حملة كبيرة في البحر المتوسط واحتلال مصر ليتخذها قاعدة عسكرية يصل منها إلى الأملاك الإنجليزية في الهند من ناحية، ومن ناحية أخرى ليلتهم أملاك الإمبراطورية العثمانية التي أصبحت فعلاً ضعيفة والحكم فيها مترهل واهن.

ومن أجل تحقيق ذلك – وهذا ما تعلمناه في كتب التاريخ – تحركت أولى جيوش فرنسا من مياه مالطة في يوم 19 حزيران سنة 1798، ثم وصل جنود الحملة غرب مدينة الإسكندرية يوم 2 تموز من نفس السنة، واحتلوها في ذلك اليوم، دون مقاومة بعد فرار حاميتها، ثم أخذ نابليون يزحف على القاهرة عن طريق دمنهور حيث استطاع الفرنسيون احتلال مدينة رشيد – بعد مقاومة شعبية رائعة – في 6 تموز من نفس الشهر، وواصلوا تقدمهم إلى الرحمانية، وهي قرية على النيل، وخاضوا معركتين مع المماليك وانتصروا عليهم، ودخلوا القاهرة في 21 تموز سنة 1798.

وكان أول ما فعله نابليون في مصر هو محاولته التقرب من شيوخ الأزهر والمسلمين، وأعلن أنه أسلم، وأنه بدل اسمه من نابليون بونابرت إلى (بونابردي باشا)، وراح يتجول في القاهرة وهو يرتدي الملابس الشرقية والجلباب ويضع على رأسه العمامة.. وكان يتردد على الجامع الأزهر في أيام الجمع ويصلي مع المصلين وينصت لخطبة شيخ الأزهر وإلى جانبه ترجمان ينقل إليه ما يقوله الخطيب، وراح أبعد من ذلك، فكوّن ديواناً استشارياً مؤلفاً من المشايخ وعلماء المسلمين.

كانت طموحات نابليون أبعد مما قرأنا في كتب التاريخ أو ما نُقل إلينا، كانت طموحاته تهدف إلى إقامة إمبراطورية فرنسية شاسعة تضم مصر ووادي النيل وبلاد الشام، وكان لابد من المال والغذاء لقيام هذه الإمبراطورية الواسعة، وكان يعتقد أنه لا يمكن توفر هذه الأسباب إلا في بلد كمصر، حيث النيل العظيم ومياهه المتدفقة، وثرواتها الطبيعية الهائلة، والعمالة المتوفرة.

ما نقوله ليس من بنات أفكارنا أو تخيلاتنا، بل هو ما اطّلعنا عليه في مذكرات نابليون نفسه وما كتبه في تلك المذكرات، عن الدوافع التي جعلته يغامر ويقود حملة على مصر بعيداً عن موطنه آلاف الأميال، ويفصله عن مسقط رأسه بحار وقفار.. فقد وجد نابليون في مصر ونيلها شريان حياة وسلة غذاء لفرنسا وأوروبا.

نابليون يحلم بإقامة إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، اعتماداً على ما في مصر من مياه وخيرات وثروات فائضة تسد جوع فرنسا والغرب في حينها.. واليوم مصر – بعد أكثر من قرنين -  لا تستطيع سد حاجة أبنائها من مادة القمح، فتقف على أبواب صوامع الحبوب الأمريكية متسولة تريد القمح حتى لا يجوع شعبها، فإذا ما توقفت أمريكا من شحن الحبوب إليها عشرين يوماً – كما صرح بذلك السادات يوماً – سيموت شعب مصر جوعاً!!

نابليون كتب في مذكراته عن الدوافع التي جعلته يغامر في حملته على مصر فيقول:

*لو حكمت مصر لن (أضيّع قطرة واحدة من النيل في البحر)، وسأقيم (أكبر مزارع ومصانع) أطلق بها إمبراطورية هائلة، ولقمت (بتوحيد الإسلام والمسلمين) تحت راية الإمبراطورية ويسود العالم السلام الفرنسي.

*في مصر قضيت أجمل السنوات، ففي أوروبا الغيوم لا تجعلك تفكر في المشاريع التي تغير التاريخ، (أما في مصر فإن الذي يحكم بإمكانه أن يغير التاريخ).

ويستشهد نابليون بالدولة التي أقامها النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيقول:

*الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) بنى إمبراطورية من لا شيء.. من شعب جاهل بنى أمة واسعة.. ومن الصحاري القفر بنى أعظم إمبراطورية في التاريخ.

حلم راود نابليون وسعى لتجسيده حقيقة بحملته على مصر ونيلها.. في زمن لم يكن فيه تكنولوجيا العصر ولا سد أسوان العظيم (السد العالي) ولا هذه النخبة من علماء مصر ومفكرييها وعمالتها الفنية المتعلمة والمحترفة، الذين يعدون بالملايين، وتستفيد من خبراتهم معظم الدول الغنية والمتقدمة في أوروبا وأمريكا، كان نابليون يريد من مصر أن تكون سلة غذاء وشريان حياة لفرنسا وأوروبا، فما الذي منع حكام مصر منذ تولوا حكم بلادهم من جعل مصر دولة متقدمة ومتطورة ويستغلون ما حباها الله من ثروات طبيعية هائلة، في مقدمها النيل العظيم ومياهه المتدفقة، وقد قيل قديماً (مصر هبة النيل)؟ وما الذي جعل بلاداً مثل الهند والصين وأندونيسيا وماليزيا وتايلندا، وقد استقلت بعدها، وكلها دول تفتقر لما في جعبة مصر من حضارة وعلم وخيرات وثروات، دولاً تنافس كبريات اقتصاديات الدول المتقدمة الغنية الكبرى؟

إن من حق الشعب المصري وهذا حاله (فقر، وتخلف، وسوء إدارة، وفساد، وجوع، وقهر، وإذلال، وهيمنة، واستئثار) من أن يغضب ويغضب.. حتى يؤوب الحزب الوطني الحاكم إلى رشده، وقد أخفق في تأمين الحد الأدنى من الحياة الكريمة لشعب مصر، وينسحب من الحياة السياسية ليترك المجال لمن هو أكفأ منه ومن هو أصدق في التصدي لأمانة الحكم وتحمل المسؤولية.