حتى نستقوي بمصر وتستقوي هي بنا

حتى نستقوي بمصر وتستقوي هي بنا

كلوفيس مقصود

 تنعقد غداً قمة "المصالحات العربية". حبّذا لو لم تكن كذلك! فالمصالحة تكون عادة بين خصوم او اعداء، واذا أحسنّا الظن فلعل هذا التوصيف هو من قبيل المبالغة. أما الحقيقة فان الالتباس حاصل لكون الرابط القومي المتراخي في النظام العربي، بل المعطوب، ادى الى وهن يكاد يتحول شللاً وفقدان مناعة.

هذا العطب حوّل في كثير من الاوقات الاختلافات نزاعات، ومن ثم خصومات، نظراً الى غياب آلية تضبط مسيرة العمل العربي المشترك، والمفروض ان توفرها الجامعة العربية وعلى الاخص اجهزة ومؤسسات الامانة العامة. واما ترميم العطب فيستوجب اللجوء الى "مصالحة"، وهذا بدوره يتطلب مراجعة نقدية صريحة واختراقاً جدياً يستهدف تغييراً جذرياً في الثقافة السياسية السائدة التي يغلب عليها التكاذب المتبادل واجترار العموميات البديهية في البيانات الصادرة عن اجتماعات القمم التي فقدت صدقيتها وفاعليتها.

ولعلّ مقاطعة الرئيس المصري حسني مبارك لقمة الدوحة أدخل عاملاً جديداً الى ملف "المصالحات"، وهو الحرد الذي بدوره يختزل الخصومة والخلاف كي يصبح غطاء كثيفاً يتلطى وراءه من لا يرغب في ان يوصف بأنه خصم او متحد او غاضب او معطّل. ثم ان الحرد، وخصوصاً اذا لازم سلوك رئيس اكبر دولة في النظام العربي، فانه يوحي عدم جدوى اي قرار لا يساهم عملياً في صناعته. وما يزيد "الطين بلة" كما يقال، ان الرئيس مبارك لم يكتف بعدم الحضور، وحتى لم يجز لوزير خارجيته المشاركة في الاجتماعات التي تمهّد للقمة، والتي بدورها تصوغ معظم – ان لم يكن كل – مشاريع قرارات القمة التي يتخذها رؤساء الدول العربية. صحيح ان حضور وزير مصري في القمة يحول دون الحديث عن مقاطعة، الا ان خفض مستوى التمثيل الى الدرجة التي وصل اليها تمثيل مصر في قمة الدوحة يجعل "حرد" الرئيس مبارك عرضة للعديد من الافتراضات والتكهنات، وهو ما لا يتناسب مع حجم مصر ودورها على مستوى التزام القرارات الصادرة عن "قمة المصالحة"، وبالتالي يفرغ "القرارات" من احتمال اخذها على محمل الجد، ويفقدها الفرصة لتأكيد حضور مميز للامة العربية في مرحلة انتقالية حاسمة يتقرر خلالها مصير حقبات عديدة لشعوب العالم، وعلى الاخص للشعب العربي في القرن الحادي والعشرين.

واذا كان التكهن يفتقد كل الدوافع والمعلومات، فهذا لا يعني انه يفتقد المنطق والاحاطة بالظروف التي تسبب امتناع الرئيس المصري عن المشاركة في القمة العادية، لكن المنعقدة في ظروف استثنائية للغاية.

انطلاقاً من هنا، علينا ان ننفذ الى الدوافع التي نعتقدها منطقية لجعل مصر تشارك في قمة الدوحة بهذا المستوى المتدني – مع احترامنا لشخص الوزير المصري الحاضر – والاعتقاد السائد ان مصر النظام ترغب في تجنب الاحراج في علاقاتها الديبلوماسية مع اسرائيل لكون القمة سوف تتطرق حتما الى المجازر التي نفذتها اسرائيل ضد اهالي غزة. وقد اقترح الامين العام للجامعة العربية عمرو موسى عدم الاكتفاء بادانة حرب اسرائيل على غزة، بل العمل على تبني المجهود الكبير لاقامة دعوى على اسرائيل لارتكاب جرائم حرب وخرق القوانين الدولية والانسانية وتقتيل المدنيين عمداً، كما ورد في شهادات مجنّدين اسرائيليين اضافة الى تقرير "هيومن رايتس واتش" وتقرير البروفسور ريشارد فولك مقرر لجنة حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة وغيرها العديد من منظمات قانونية دولية تعمل على دفع محكمة الجرائم الدولية لملاحقة المسؤولين السياسيين والعسكريين الاسرائيليين بغية التحقيق والمساءلة والمعاقبة ان تمت ادانتهم. إن قراراً تتبناه قمة الدوحة في هذا الشأن يعبر عن اقتناع ورغبة واضحين لدى الشعب العربي، وان ما اعطاه الأمين العام للجامعة هو اولوية حاسمة ذات دلالات تشير الى اصرار عربي جامع على الا تبقى اسرائيل في مأمن من اية معاقبة لأي من الجرائم التي تقترفها ولأي خرق للقرارات الدولية كما حصل ولا يزال.

ويصر المسؤولون في النظام المصري على ان الرئيس مبارك لا يتخذ اي قرار الا بعد دراسة مسهبة للبدائل المتاحة لأنه يحترم مسؤولياته حيال السياسات العربية والاتفاقات الدولية، مما  يجعل قراراته متميزة ب"الحكمة" وبالتالي فان قراره عدم المشاركة في القمة يندرج في المنهج "الحكيم" والمدروس لالتزاماته، وبالتالي يكون قرار الغياب منسجما مع رغبة في ارباك العلاقة مع اسرائيل على رغم استياء الرئيس مبارك من تعمد اسرائيل احراجه امام الرأي العام العربي والمصري على وجه الخصوص.

قد يندرج ما لمحت اليه من اسباب عدم مشاركة الرئيس مبارك في قمة الدوحة في خانة "الحرد". اما ان يقصد الرئيس مبارك ان يمتنع رأس الديبلوماسية المصرية من المشاركة، فهذا يعني ان لمصر حق الاكتفاء بالتمثيل الرمزي او الشكلي مما يجعل منطق قراءتي للقرار المصري يتجاوز كونه تكهنا!

*    *    *

يجيء قرار عدم المشاركة للرئيس مبارك على خلفية ان المصالحة التي عمل على انجازها بين الفصائل الفلسطينية وخصوصا بين "حماس" و"فتح" لم تحصل بعد عشرة ايام من المحادثات المكثفة، بحيث انه سلم ادارة عملية المصالحة الى رئيس اجهزة المخابرات التي افتقدت الى حد كبير ترجيح الميزان السياسي ومستلزمات الوحدة – بل اللحمة – الوطنية الفلسطينية. وان عدم استكمال "المصالحة" الفلسطينية هو عامل آخر من عوامل عدم مشاركة الرئيس مبارك في قمة كان يريد ان يكون انجازه فيها بمثابة معاهدة الصلح مع اسرائيل التي تسهل الحلول بدل تعطيلها. لكن حتى هذا الانجاز لم تتجاوب معه الحكومة الاسرائيلية. لذا اذا كان صحيحاً ان الرئيس مبارك يتخذ قراراته بعد الاحاطة الشاملة بكل الخيارات والبدائل، فلعل "الحكمة" التي يدعيها "واقعيو السلطة المصرية" تدفعهم الى مراجعة شاملة تعيد الى مصر دورها المركزي في الامة العربية، وبالتالي تصحح العطب في النظام العربي القائم لتستعيد مصر قوميتها وخصوصا ان الحكومة الاسرائيلية العتيدة برئاسة بنيامين نتنياهو ستعمل وفق سياسات مسمومة بمصطلحات معسولة مثل "السلام الاقتصادي"، مما يجيز اعادة النظر في المعاهدة المشؤومة مع اسرائيل، حتى يعود العرب يستقوون بمصر وهي بدورها تستقوي بهم. قد يكون الآن الوقت المناسب حتى تنعتق مصر الرائدة من التكبيل الخانق لدورها القومي والتحرري حتى يسترجع العرب مرجعيتهم وبوصلتهم. فقوة مصر تقوي العرب وتكبيلها يبقيهم مبعثرين وتائهين.