حماس هي فتح الحقيقية..!

د. محمد يحيى برزق

[email protected]

عندما أتوجه إلى عملي صباحا.. لا يهمني نوع أو لون السيارة التي ستقلني لأن الذي يحدد ذلك هو الهدف الذي حددته أنا ومن الطبيعي بناء على ذلك  أن أرفض كل سيارات الأجرة التي لا تتجه نحو الهدف الذي أقصده مهما كان لونها وعددها, وإذا ما وافق أحد السائقين على أن يأخذني حيث أريد ثم تكشّف لي أثناء الطريق أنه ذاهب إلى شاطئ البحر, ولو بحسن نية, كأن يشرب معي فنجان قهوة هناك, فإن من حقي أن لا أتعامل معه بلطف بل بخشونة واضحة مستنكراً إخلاله بالاتفاق الذي بيننا وأن أطالبه بإعادتي إلى المكان الذي أخذني منه بل وربما أستدعي له الشرطة لأنه أخّرني عن عملي..

نعم.. عندما أقرر أن أذهب إلى عملي فإنني لن أركب إلا في سيارة تذهب بي إلى حيث أريد إذ لا وقت لدي أضيعه في أي مكان آخر حتى شاطئ البحر الجميل. وأنا متأكد أنني عندما أقف هذا الموقف وأتمسك به فلن يتهمني أحد بالتعصب والتطرف والتزمت أو الأصولية -لا سمح الله- وهو نفس الموقف الذي ألتزمه عند اختياري لكل الوسائل الأخرى التي توصلني لمختلف الأهداف الأخرى التي تفوق سيارة الأجرة أهمية وقداسة وسموا.. بما في ذلك مصيري في هذه الحياة التي منحني الله إياها.. من هذا  المنطلق كنت ووالدي مثل أحبابي وجيراني وجل شعبي قد اخترنا حركة فتح التي أعلنت بيانها المبارك في 1/1/1965.. الذي تعهّدت فيه فتح أن تحرر فلسطين.. كل فلسطين وذلك من خلال حرب الشعب طويلة الأمد أسلوبا والكفاح المسلح وسيلة.

 انطلقنا جميعاً إلى رصيف فلسطين في محطة التحرير حيث قطار الفتح الكبير بعرباته التي لا يمكن عدها يتأهب لبدء رحلته التاريخية على سكة التحرير الطويلة نحو الهدف الأسمى والأقدس.. نحو فلسطين.. كل فلسطين.. حرب الشعب طويلة الأمد أسلوبا والكفاح المسلح وسيلة. لا سلام ولا كلام, لا وصاية ولا استزلام (بالزين وبالسين).. صعدنا إلى قطار الفتح.. قطار التحرير ونحن نعلم جيداً طبيعة هذه الرحلة التي ارتحلتها قبلنا كل الشعوب التي أبت الظلم والهوان كما في مصر والجزائر وسوريا والعراق وليبيا.. كانت عربات القطار وأرجاء المحطة تشاركنا أناشيد الفتح الوطنية وشعاراتها.. "في الواحد واحد خمسة وستين صرنا ثوار ومش لاجئين" .."أنا يا أخي آمنت بالشعب المضيع والمكبل" .."ثوري ثوري يا جماهير الأرض المحتلة.. ثورتنا انطلقت جيدي (أي أوقدي) من دمك الشعلة".."أنا ابن فتح ما هتفت لغيرها ولجيشها المقدام صانع ثورتي".. "ما بنتحول ما بنتحول عن حبة رملة.. هذي طريقنا واخترناها واحنا بنتحمل"...

لقد كان كل من في القطار يعي تماما أنه يدفع حياته وكل ما يملك ثمنا لتذكرة القطار, راضيا مستبشرا بنصر من الله وفتح قريب.. لقد بدأت الرحلة ومضت قاطرة الفتح بنا سريعا نحو انتصارات أعادت للشعب الفلسطيني والعرب شيئا من العزة التي أهدرت في نكبة 1967, لكن القطار بعد محطة الحرب الأهلية في بيروت أفرغ حمولته في سفينتين.. بعد أن كان على مرمى سهم من فلسطين.. يخلي المقاتلين ويبقي الأطفال والنساء ويتوقف متجمدا على سكة التحرير ليأتي وحوش الكتائب بفؤوسهم ومناجلهم ومداهم ليبيدوهم أبشع إبادة بتغطية من الجيش الإسرائيلي والأنظمة العربية.. لم نعد نسمع أناشيد العاصفة ويا للعجب فنحن لم نعد نسمع أحداً يبكي علينا كما كان معتادا في مثل هذه المناسبات الفلسطينية الحزينة. لقد ظن الفتحاويون أنهم غُلبوا وأنهم بغُلبهم قد غُلب الشعب الفلسطيني وظنوا كذلك أنهم قدر هذا الشعب المقدور ويملكون أن يعلنوا باسمه الهزيمة تماما مثلما كانوا يريدون إعلان الانتصار. لقد فوجئ الجرحى والثكلى ممن تبقى في قطار الفتح أن القطار يعلن رحلة تاريخية إلى "سنغافورة".. وفعلا تم توقيع اتفاقية أوسلو (سنغافورة)..

الشرط هو التنازل عن التاريخ والجغرافيا ومشاركة العالم الديمقراطي حربه "المباركة" ضد الإرهاب في كل مكان..عاد قادة أوسلو السنغافوريين إلى قطارهم القديم  لكنهم في هذه المرة عادوا وحدهم وبنفر قليل وبلا أناشيد ولا شعارات بل بأصوات مثل النباح والعواء وفحيح الثعابين أداروا القطار ليسير عكس الاتجاه الذي بدأ فيه رحلته.. نحو سنغافورة فلسطين.. في الواقع لم يتمكن قطار سنغافورة من الوصول لشيء وكان قادة القطار يظنون أنهم كلما قذفوا بركّاب القطار وكراسيه بل وعرباته خف وزنه وزادت سرعته.. فجأة فوجئ السنغافوريون بقطار عملاق أخضر يسير على نفس السكة ولكن باتجاه فلسطين.. كل فلسطين.. أي عكس الاتجاه الذي يسيرون فيه.. لم يكن أمامهم إلا أن يصطدموا به وليهوي إلى الواد السحيق.

لم يكونوا قد اكتشفوا بعد أن قطارهم المصفر كان خفيفاً لدرجة لم يتصورها أحد.. إذ ما أن وقع الارتطام بين القطارين فإذا بقطار سنغافورة الأصفر يطير في السماء ثم يهوي ليتحطم على صخور الوادي السحيق.. حادث أليم ومروع لكنه حتمي..

مازال القطار الأخضر يسير في اتجاه فلسطين.. كل فلسطين وما زال يستقبل الركاب الجدد كل يوم ومن بينهم كاتب هذا المقال الذي يؤمن بأنه عندما ترك القطار الأصفر وركب القطار الأخضر لم ينقلب على فتح أو ارتد عنها.. إنني أؤمن بأنني مازلت فتحاويا أصيلا رغم أني من نخاع حماس فالقضية قضية مبادئ والمبادئ يا إخواني في فتح وحماس أغلى من الروح بل لعلها الروح ذاتها ونحن بلا روح نتعفن بسرعة وفي الختام السكة أقدس من القطار والطريق أقدس من الطارق وإذا كانت فتح هي التي شقت مشكورة طريق التحرير وأن كل من يسير فيه هو بالضرورة فتحاوي. يجب أن يرى الفتحاويون الحقيقيون ممن لم يصابوا بعد بعمى الألوان الحقيقة الساطعة وهي أن حماس هي فتح الحقيقية.