قمة الدوحة ومبادرة السلام العربية
د. علاء الدين شماع
ُتجَذِرُ الصهيونية الصراع لتعيده سيرته الأولى,من خلال تكريس نظرتها إلى العالم على أنه "فيدرالية أديان" و هي بذلك تجدد أزمتها التي صاحبت نشوء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين ,في ترسيخ صيغة شعب الله المختار ,التي تفترض تعالياً مفتوح الأبعاد يصاحب الأخيار كلما انغلقوا على ذواتهم أكثر, باتخاذهم العنف هوية يدرأ الخطر عنهم .
إن الدلائل المُستشفة من الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة تُؤشر بما لا يدع مجالاً للشك على مغادرة قوى التيار اليساري العلماني مواقعه , و هو الذي يعود إليه تأسيس الدولة بعد اتخاذه من اليهودية مطية , إلى أشكال و مواقع أخرى تجسد العنصرية اليهودية و إعلان كيان يقوم على يهودية الدولة, و انعكاس تأثير ذلك على قضية السلام , مهما تلطى وراء انتخابات ديمقراطية مخاتلة هدفها الأساس دعائي موجه للغرب.
إذ تفترض قضية السلام في الشرق الأوسط,إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي من خلال التوصل إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية "حل الدولتين" و الانسحاب الكامل من الجولان السوري المحتل و مزارع شبعا اللبنانية, مقابل الاعتراف العربي بالدولة الإسرائيلية و التطبيع معها, وهو ما بات يُعرف كلاسيكياً بمبدأ "الأرض مقابل السلام".
غير أن الأسلوب الصهيوني المراوغ , و الذي تتم على أساسه مقاربة قضية حساسة مثل قضية السلام , وذلك منذ مؤتمر مدريد و من بعدها اتفاقيات أوسلو , خلق أجواء رمادية هي أقرب إلى حالة من اللاحرب و اللاسلم, وهو ما بات يُعرف بسياق الحرب الباردة في نسختها الشرق أوسطية , بما توفره من زمن أكثر من كافٍ للدولة الصهيونية لقضم مزيد من الأرض العربية و تهويدها . مقابل مساكنة عربية مع الأمر الواقع ,و ذلك من خلال مبادرات للسلام, إن كان في نخستها المعروفة منذ مؤتمر بيروت و القابلة للتعديل من خلال نسخة جديدة في مؤتمر القمة العربية القادم في الدوحة !.
و حسب ما يتطلبه رصد الحالة من قضية السلام, وضرورة تبيان الأساس الذي يقف عليه تناقض الموقفين العربي و الإسرائيلي منها, على أهميتها بالنسبة لشعوب المنطقة , و جب التمييز بين معنيين .
إذ يقدم قادة إسرائيل قضية السلام على أنها موضوع( Subjective)يحمل من الذاتي و الشخصي الكثير ( في شخص رئيس الوزراء) بما تفرضه هذه الحالة من تقييم لقضية السلام على أساس من المصالح الحزبية الضيقة و التحالفات اللاحقة التي قد يحتاجها في تشكيل الحكومة أو إدامة بقائها,وهو ما يتمثل في هدم و إعادة هدم ما توصلت إليه تفاهمات السلام مع الطرف العربي ( الفلسطيني على الأخص) مع كل حكومة إسرائيلية جديدة , بما يبعد عملية السلام عن أن تكون موضوعية .ولعله في نظام الانتخاب النسبي الذي تعتمده إسرائيل ما يسهل الأمر في تمييع الوعي لدى الناخب و هو ما دفع مثلاً بكثير ممن كانوا نشطاء في حركة السلام الآن إلى أن يؤيدوا الليكود و يصوتوا له في الانتخابات الأخيرة دون أن يجاهروا بتغيير مواقفهم.
في المقابل , يقدم الجانب العربي و جهة نظر مغايرة عن قضية السلام, هي أقرب إلى الموضوعة (doctrine) تدخل في صلب السياسات الأساسية للحكومات و مرفقة ببيان ( مبادرة) بما يحولها إلى التزام في صوغ علاقاتها الدولية ,وهي غالباً ما تأتي تحت صيغة الخيار الاستراتيجي, تخفيفاً من وطأة الثبات على الأحكام و التصورات المسبقة التي تنم عن ضعف صوغ سياسات بديلة أمام التنصل الإسرائيلي من العملية السلمية برمتها.
و لعل قضية حساسة مثل حل الدولتين يضع الأمر كله على محك التقييم , و الذي أخذت تتناوله الصحف العبرية في الآونة الأخيرة على أنه خط أحمر يلزم العمل على تفوت الفرصة أمام الإدارة الأميركية الجديدة في القول به أو تبنيه ,من خلال استثمار لعبة الوقت ,وهو في مطلق الأحوال حل افتراضي يرتبط بشخصانية الرؤية للقيادات الحزبية الإسرائيلية كما أسلفنا , ويدخل في مجال الاستثمار السياسي الداخلي, بما يطرحه من ضبابية متعمدة و تشويش في الخيار أمام شريك السلام الفلسطيني , حتى لتبدو قضية حكومة وحدة وطنية إسرائيلية غير ملتزمة بحل الدولتين حسب رأي ليفني غير قابلة للتشكيل , وهي وان كانت , تمثل فرصة لا تعوض, بما يطرحه هذا من ابتزاز سافر و اشتراطات أمام المفاوض الفلسطيني بالتزام خارطة الطريق وشروط الرباعية و مقررات مؤتمر أنابوليس و هو ما يمثل انتحارا سياسياً بالنسبة لمن يقول به أو يعمل على أساسه من الفلسطينيين وقد رأينا بعضاً من نتائجه الكارثية على القضية الوطنية الفلسطينية. هذا , مقابل حكومة ائتلافية تقوم بين اليمين و اليمين المتطرف برئاسة نتنياهو تنسف العملية السلمية من أساسها .و تقدم الحل على أساس السلام الاقتصادي للفلسطينيين و السلام مقابل السلام مع السوريين.
على أن الصهاينة في تناولهم موضوع حل الدولتين يلامسون فكرة أخرى هي فكرة الدولة ثنائية القومية إسرائيلية- فلسطينية بشكل يستبعدون معه كلياً أن يتم قيامها و بالتالي تسفيه من يقول بها من الإسرائيليين (إنهم يطرحون قضايا وجودية لم تكن لتطرح قبل نتائج الانتخابات الأخيرة). وهي ملامسة تتطلب وضع الفكرة على المحك من الجانب العربي أيضاً, وان كان تناولها يتم حتى الآن على مقاربات متصورة ليس إلا . ذلك أنها فكرة تقوم على أساس الهوية العربية المنافسة في كبح عنف هوية إسرائيلية عدوانية , و هو ما يعرف "بالقوة المحركة للهويات المنافسة"بما تتطلبه هذه الحالة من عمل على إلغاء كل طرف للطرف الآخر و هو هنا سيكون موجهاً ضد الطرف العربي حتماً وبالقوة .
إن البحث عن الخلل في الوضع القائم, يعود في كثير من مسالبه إلى العرب فيما تقدمه مبادرتهم للسلام من صورة لصاحب الحق و كأنه صاحب حاجة يأمل و يرغب! و هو طرح لا يمكن أن ييسر قيام مواثيق بين دولانية تحفظ الحقوق و ترد الأرض بما لم تحققه حتى الآن من شروط إتقان إدارة الصراع في منطقة حساسة مثل الشرق الأوسط ذات التقاطعات الإقليمية والدولية في تصيد المصالح على حساب المصالح العربية .
و قمة الدوحة تعد فرصة مواتية لإعادة صوغ بنود مبادرة تنقذ النظام العربي من نفسه ,لا يدخل في أساسياتها ما قدمته المبادرة حتى الآن من حلول مفتوحة على الوهم .ذلك أن المصالحات العربية و ما تشيعه من أجواء متفائلة تنزع الحجة من تلك الاصطفافات التي سادت حتى الآن بين معتدل وممانع, حتى ليكاد السؤال مشروعاً:معتدل في وجه من وممانع ضد من ؟ إن لم تكن الممانعة والاعتدال قد كانتا حتى الآن ضد الأطراف العربية بعضها البعض.
إن الافتراض المتفائل المعقود على قمة الدوحة في مقرراتها , فوق أنها قمة لتكريس المصالحات العربية , هو إمكانية طرح تعديل بنود المبادرة العربية للسلام , إن كان من ناحية المدة على أن لا تبقى مطروحة للأبد, و أن تتضمن شرطاً عقابياً ( التلويح باستخدام القوة). عندها يمكن أن تفرض الشرعيات العربية نفسها على كل الأطراف الإقليمية و الدولية , في أنها الجهة الوحيدة التي تجب مخاطبتها على أساس أنها تستمد قوة قرارها من شعوبها و هو ما يرفع الاستشكال( في الحقيقة يضيق شقة الخلاف) مع المقاومات العربية التي استحوذت على أفئدة الشعوب أمام تلك الأنظمة الباحثة عن شرعية .
ولعل التقاءها في نقطة وسط تقوم على حالة يمكن وصفها بحالة اللا اكتراث الاكتنازي أو الفعال في رد العصا و عدم قضم الجزرة ,و تستند على قوة الحق و إمكانات الأمة في فرض تصوراتها عن السلام كما الحرب عندما تفرض ,هي حالة يمكن أن تمتحن التغيير في سياسة الإدارة الأميركية و مقاربتها لموضوعة السلام في الشرق الأوسط . ذلك أنه لم يعد من المقبول أن نقدم إنسانيتنا على بحور من دمائنا إرضاء للآخر بغية الحصول على حقوقنا .