باكستان تضع قدمها على عتبات التعايش السلمي
بين أطيافها ومكوناتها
فيصل الشيخ محمد
قلوبنا كانت دائماً مع إخواننا في باكستان، نرقب الصراع الدامي على أرضه بمزيد من الحزن والألم، وقد وضعنا آمالاً كباراً على باكستان وقد دخلت النادي النووي من أوسع أبوابه، لتقف نداً لكل الدول النووية المحيطة بها، ولتكون القلعة المنيعة التي يتطلع إليها المسلمون في كل أنحاء العالم، على أنها السند والموئل لكل الدول الإسلامية المستضعفة، وقد راح الأعداء ينهشون كياناتها واحدة بعد الأخرى.
الغرب وأعداء الإسلام الذين هالهم ما فعلته باكستان – رغم ما كانوا يفرضون عليها من حصار ومضايقات – بتفجيرها لقنبلتها النووية الأولى، عقب تفجير الهند لقنبلتها الأولى، وهي الجارة العدوة التقليدية لها، والتي خاضت معها ثلاثة حروب مدمرة، لم تنقصهم الحيلة في إجهاض التقدم العلمي والتكنولوجي الذي وصلت إليه باكستان، فراحت في مسعى حثيث لإشغال باكستان بنفسها، فحركت بعض ضعاف النفوس في الجيش الباكستاني لينفذوا انقلاباً عسكرياً ضد حكومتها الوطنية التي اختارها الشعب الباكستاني، والتي كانت وراء ما وصلت إليه باكستان في تطورها العلمي والتكنولوجي حتى فجرت قنبلتها النووية الأولى.. فغذّت الصراعات القبلية والمذهبية، وابتدعت ما سمته (الحرب على الإرهاب)، فراحت باكستان بكل مكوناتها القبلية والمذهبية والفكرية في صراع مجنون بلا هدف، إلا القتل وسفك الدماء، والتي بدورها تجر إلى الأحقاد والثارات وردات الفعل، التي يدفع ثمنها في كل الأحوال الشعب الباكستاني بكل مكوناته.
ولعل من أهم ما تمكن برويز مشرف، الذي قاد الانقلاب ونصب نفسه رئيساً للباكستان، هو زعزعزة قاعدة العدل في البلاد، المتمثلة في المحكمة العليا وقضاتها الذين اشتهروا بنزاهتهم ووطنيتهم، فعزل رئيس المحكمة العليا افتخار تشودري وعزل طاقم المحكمة الذين يحظون بالتقدير والاحترام من كل فئات الشعب الباكستاني ومكوناته، ليصفو له الجو في إصدار المراسيم التي تخدم أغراضه الشخصية، وترضي الغرب الذي كان وراء نجاح انقلابه، ويسدد له الفواتير التي تخدم أجندته وأهدافه وأطماعه في المنطقة.
وأسقطت المعارضة الباكستانية برويز مشرف، وتنادت إلى انتخابات حرة ونزيهة، لتعود الحياة الدستورية إلى البلاد التي ذاقت الويلات في عهد برويز مشرف، الذي جرها إلى أتون مستنقع دموي لم يستثنى من مقصلته أي طيف أو مكون لمجتمعاته المتلونة.
ومرة ثانية يتمكن أعداء باكستان من تغليب جناح من المعارضة على الآخر، رغم ما كان بينهما من عهود ومواثيق عندما كانا يداً واحدة في مواجهة الديكتاتورية العسكرية، فوقفت وراءه تحرضه وتدفعه وتورطه.. ولكن المعارضة الحية والقوية الجذور في باكستان، استعادت زمام المبادرة ، وقررت التصدي للحكومة التي أرادت أن تكون البديل لحكم العسكر الديكتاتوري بقالب دستوري، بمساعدة الغرب الذي يلتقي معها في علمانيتها وأفكارها التي تتعارض وتوجهات الشعب الباكستاني، الذي يتمسك بأهداب الدين الإسلامي ويسعى لتحكيم الشريعة في باكستان، ويحصد من ورائها المكاسب التي تحقق له أجندته وأطماعه في المنطقة.
المعارضة التي قررت التصدي لهذا الواقع المخزي، والذي يقود باكستان إلى الدمار والتمزق والحرب الأهلية، سيّرت المظاهرات السلمية الضخمة الكبرى، التي انطلقت من جميع المدن الباكستانية، وهدفها الوصول إلى المجلس التشريعي في العاصمة إسلام أباد لإسقاط الحكومة، التي رهنت مصير باكستان بيد أعدائها، ونادت بعودة رئيس المحكمة العليا افتخار تشودري والقضاة المعزولين إلى مناصبهم، يتقدمها رجال القانون ونخبة الوطن في باكستان، وحاولت الحكومة – عبثاً – أن توقف هذه المظاهرات، وقد جندت لذلك عشرات الألوف من رجال الأمن، فاعتقلت وتصدت بالنار لها، ولكن إصرار الجماهير الباكستانية الغاضبة على متابعة المسيرة حتى إسلام أباد، كانت فوق طاقة الحكومة وإمكانياتها، وخشيتها من تدخل الجيش وعودة العسكر مرة أخرى إلى الحكم، كل هذا جعلها ترضخ لمطالب المعارضة، وتصدر قرارها بعودة تشودري وكل القضاة المعزولين إلى مناصبهم، في خطوة عقلانية تهدف إلى نزع فتيل الأزمة السياسية المتفاقمة بينها وبين المعارضة بزعامة (الرابطة الإسلامية – جناح نواز شريف)، كما أصدرت أمراً بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين والمحامين الذين أوقفوا خلال الأسابيع الماضية.
على الحكومة الباكستانية القائمة أن تعي الدرس جيداً لكل الذي حدث ويحدث في باكستان، وأن تعي أن الحل يكمن في التعايش السلمي بين فئاتها ومكوناتها، وأن الاستئثار بكل السلطات لا يخدم الشعب الباكستاني وتطلعاته وطموحاته وأمانيه، وأن عليها أن تجد صيغة مقبولة مع كل أطياف المعارضة لتشكيل حكومة وطنية لوقف شلال الدم الذي يتدفق من شمال باكستان إلى جنوبها، وأن تسعى لعقد مصالحة وطنية واسعة بين مكوناتها الدينية والعرقية والمذهبية والفكرية، بعيداً عن وصاية الغرب وتدخلاته، وأن تنتهج سياسات داخلية وخارجية بما يتوافق مع تطلعات الشعب الباكستاني وأمانيه وطموحاته!!