تساؤلات مشروعة برسم المعارضة الديمقراطية داخل سوريا
تساؤلات مشروعة
برسم المعارضة الديمقراطية داخل سوريا
لؤي عبد الباقي
[email protected]
إن
تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمواطن السوري، والاستياء العام من تفشي
الفساد في جميع أجهزة الدولة من قمة هرمها إلى أسفل قاعها، إضافة إلى استمرار
النظام الأمني في الإمعان بسياسات القمع والتضييق ومصادرة الحريات، كل ذلك من
العوامل والدوافع التي تجعل من الثورة الشعبية والانتفاض الجماهيري ضد الوضع القائم
إمكانية ماثلة واحتمالا غير بعيد، حسب معظم النظريات الاجتماعية والسياسية. فإذا
سلمنا بأن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سوريا قد وصلت إلى هذه
الدرجة الغير مسبوقة من التدهور والانحدار، كما يشير الكثير من المراقبين
والمحللين، فما الذي يؤخر أو يعيق حتى الآن الانتفاضة الجماهيرية والهبة الشعبية ضد
الوضع القائم في سوريا؟
التأمل في هذا السؤال على ضوء المعطيات المتوفرة حول تدهور الواقع السوري، يدفعنا
إلى تساؤلات بل وشكوك أخرى تتعلق ببعض المفاهيم التي كثيرا ما نتداولها كمسلمات
نظرية حول سيرورة التاريخ البشري والتحولات الاجتماعية: فهل صحيح أن الجماهير قادرة
على تحقيق التغيير إذا ما أرادت ذلك بالفعل؟ وهل من الممكن للإرادة الشعبية أن
تتحدى أو أن تصمد أمام فتك الآلة القمعية الشرسة لدولة بوليسية مرعبة كسوريا؟ ما هي
فرص نجاح المعارضة السورية في التأثير على الشارع السوري الراكد وتحريكه كي يخرج من
صمته الطويل ويستعيد حريته السليبة وكرامته المنتهكة؟ أسئلة كثيرة وتحديات كبيرة
على المعارضة السورية أن تعيد النظر فيها لتجد لها إجابات شافية ومقنعة، وإلا فإنها
ستحكم على نفسها بالاستمرار في حرب الشعارات ومصارعة طواحين الهواء.
حسب معظم النظريات الاجتماعية
والسياسية، عندما تصل كمية الإحباط في نفوس المواطنين إلى درجة معينة تصبح عوامل
الاستقرار والإبقاء على الوضع الراهن عرضة للانفجار والتدهور، وتصبح عوامل اندلاع
انتفاضة أو ثورة شعبية أكثر نضجا وتتزايد احتمالاتها طردا مع تزايد حجم الضغط
النفسي والإحباط العام. عند ذلك لا تنفع السلطة الأمنية الحاكمة سياسة استعراض
العضلات وإرهاب المواطن، إذ لا يبقى لدى المواطن ما يخاف عليه بعد أن يجد نفسه بين
خيارين: الاختناق البطيء حتى الموت أو المواجهة الخطرة والغير مدروسة. وبما أن حالة
الضغط والإحباط لا تسمح بالتفكير المنهجي المدروس، فإن رد الفعل الشعبي يصعب التنبؤ
به وبمدى قوته أو توقيت انفجاره، إذ أن إخفاء عدم الرضا وعدم التعبير العلني عن
اليأس والرفض والإحباط، بسبب الظروف الأمنية، ليس دليلا على الاستقرار، فغالبا ما
يتفاعل الغليان البركاني بشكل من الهدوء والركود حتى تكتمل عوامل الانفجار،
وما أن يبدأ المواطن بتحدي النظام علنا حتى يظهر عجز النظام الأمني عن إيجاد ما
يكفي من الإرهاب والسجون. ولا ينفع دائما الاعتماد على محض القسوة والوحشية لقمع
التحرك الشعبي كما فعل النظام السوري في الثمانينيات في ظل ظروف دولية كانت تحكمها
قواعد الحرب الباردة التي لم تعد متوفرة حاليا.
من الواضح أن النظام السوري لم يعي حتى الآن دروس وتجارب الأنظمة الاستبدادية التي
انهارت بشكل مفاجئ وغير متوقع على الإطلاق. كما أنه لم يستوعب أثر المتغيرات
الدولية والمعلوماتية والإعلامية والاقتصادية التي استجدت منذ الثمانينيات. فمن
الصعب اليوم تخيل تكرار المجازر الدموية والوحشية التي ارتكبها النظام بحق الشعب
السوري في الثمانينيات لقمع الحراك الشعبي والسياسي آنذاك، وخاصة مجزرة حماه التي
راح ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى الأبرياء والمهجرين، من أطفال وشيوخ ونساء.. من
الصعب تكرار هذه الجرائم الإنسانية في ظل الانفتاح الإعلامي والمعلوماتي للقرن
الحادي والعشرين، وفي ظل غياب ظروف الحرب الباردة التي كانت تؤمن معسكرات حماية
دولية للأنظمة القمعية المجرمة في حق شعبها. ولعل من أبرز الأمثلة على فشل الأنظمة
القمعية في الاعتماد على الأساليب الوحشية لإخماد الثورة الشعبية في حقبة ما بعد
الحرب الباردة سقوط نظام الرئيس سوهارتو في إندونيسيا في العام 1998 حين اضطر
للتنحي بعد أن فشل في قمع الانتفاضة الشعبية ضد نظامه، إذ لم يدرك حجم
الانفجار الذي يمكن أن يتولد عن الاستياء الجماهيري من التضييق الأمني
والتدهور الاقتصادي، بالرغم من أن الشعب الإندونيسي عرف بأنه من أكثر شعوب العالم
هدوء ووداعة وأقلهم نزوعا إلى الثورة والانتفاض.
ولكن من ناحية أخرى فهذا لا يعني أن الظروف والعوامل التي توفرت للشعب الإندونيسي
هي ذاتها المتوفرة حاليا للشعب السوري، إذ أن أهم العوامل التي وفرت أسباب نجاح
الانتفاضة الشعبية الإندونيسية هي وجود كوادر وقيادات شعبية استطاعت تنظيم الحراك
الشعبي وتجييشه ومن ثم قيادته بشكل مسؤول، وهذا ما نحتاج منشاقشته بالنسبة للواقع
الحالي في سوريا. إذ أن الانتفاضة ليست عملية عفوية او مرتجلة. إن الانتفاضة
الشعبية تحتاج إلى فن في التخطيط والتنظيم، فلا بد أن تكون بطبيعتها منظمة، ولابد
ان تكون فعل واحد ومتوازي للأجزاء الحاسمة. ولكي تكتمل عوامل نجاح أي حركة تغيير
يجب أن تتوفر لها عناصر، أهمها كادر مدرب ومستعد للتضحيات وقادر على المبادرة. كادر
قادر على قيادة الجماهير بالاتجاه الذي يستغل طاقاتها نحو تمكينها من أداء المهمات
الوطنية والإنسانية، وتحقيق الأهداف في انتزاع كرامتها وحريتها من سيطرة المستبدين
بها. ولكي تكون فعل واحد متوازي الأجزاء يجب أن تتمتع بقيادة حكيمة فاعلة ومؤثرة.
قيادة قادرة على مخاطبة الجماهير بلغتها، وعلى التعبير عن وجدان الشعب، حتى تتمكن
من الوصول إلى قلب الجماهير لتحرك نبضها من خلال ضخ دم جديد في عروقها. قيادة
متفائلة بالمستقبل وواثقة من قدرة الجماهير على تحقيق أهدافها وفرض إرادتها.
من هنا أعتقد أن أهم ما تحتاجه المعارضة السورية في الداخل هو القدرة على صناعة
قيادات وإنتاج كوادر شعبية مدربة تحمل لواء الدعوة إلى التغيير والإصلاح انطلاقا من
القاعدة الجماهيرية وليس من الشريحة النخبوية التي لا تغادر أبراجها العاجية ولا
تخاطب الجماهير إلا عبر البيانات السياسية التي لا تصل سوى إلى نخب محدودة العدد.
إن
إشراك الجماهير في عملية التغيير والإصلاح وفي تفاصيل الحراك اليومي بوعي سوف
يعطيها دورا جديدا وإحساسا بأن التغيير ممكن وأن الإصلاح قادم بمقاييس جديدة.
الجماهير تحتاج إلى ما يطمئنها بأن لديها قيادة واعية تستطيع استشراف
المستقبل، وقادرة على التعامل مع الواقع بطريقة ملائمة.
إن
بعض الذين يرفضون الرهان على الشعب يرون أن الشعب السوري قد استسلم للخوف أمام آلة
القمع والترهيب، واعتاد على الذل والهوان، حتى بات راضيا بحالة الظلم والطغيان
المفروضة عليه. هذه المزاعم التي تتردد على بعض الألسنة تعبر إما عن حالة يأس
وقنوط، أو عن جهل بتجارب الشعوب والأمم وسنن التاريخ.
الجماهير لا تخرج خلف كل من ادعى تمثيلها، ولا تلتف حول كل من تحدث باسمها، ولا
تضحي بما تملك، مهما كان ضئيلا، من أجل مستقبل أو هدف مجهول. لكي تكون قيادة
المعارضة فاعلة ومؤثرة لا بد أن تعبر عن فكرتها بشكل مفهوم من قبل الجماهير، وليس
من قبل النخب فقط، وإلا بقيت الفكرة محصورة ضمن دائرة ضيقة، وهذا ما نلاحظه على
معظم التيارات العلمانية النخبوية التي برعت في طرح الأفكار وبلورة البرامج
النظرية. حتى التحالفات التي جمعت تيارات متعددة بقيت بعيدة عن الجماهير ومحدودة
على مستوى النخب السياسية وبعض الشخصيات الثقافية.
إن
غياب التيار الإسلامي المتمثل بجماعة الإخوان المسلمين عن الساحة السياسية في
الداخل، بسبب النهج الاستئصالي للنظام، ترك فجوة واسعة وهوة سحيقة بين النخب
السياسية المعارضة والجماهير الشعبية، وهذا ما تهدف السلطة إلى تكريسه والمحافظة
عليه عبر التمسك بقانون التصفية الجسدية (رقم 49 لعام 1980) والذي يحكم بالإعدام
على مجرد الانتماء الفكري إلى هذه الجماعة المتجذرة في ضمير ووجدان شريحة واسعة من
الشعب السوري. لذلك فإن طاقات المعارضة السورية في الداخل والخارج مازالت
مبعثرة، ولا تكاد تجتمع في ائتلاف أو تحالف حتى تعود إلى نقطة البدئ مرة أخرى
لتلملم شعث تجربة قصيرة وتبحث عن إطار جديد. فإعلان دمشق في الداخل أصبح في مهب
الريح بعد أن غيب نظام الاستئصال الأمني قادته في غياهب المعتقلات، وتصدر الحديث
باسمه كل من زينت له نفسه ادعاء تمثيله. وقد سمعنا مؤخرا تصريحات إقصائية غير
مسؤولة تنبعث منها روائح التحيز الأيديولوجي العلماني ضد التيار الإسلامي. المعارضة
السورية في الداخل والخارج في أمس الحاجة إلى توحيد جهودها والبناء على ما هو موجود
على الأرض، لتواصل الطريق من حيث هي الآن، لا أن تعود إلى نقطة الصفر بعد كل محاولة
وإخفاقة.
على المعارضة الديمقراطية في الداخل أن تتخذ قرارا حاسما وجريئا يضعها على مستوى
التحديات أمام الشعب والتاريخ، وأن تقطع وبكل شجاعة ووضوح مع كل سياسات التردد
والضبابية، لتعلن موقفا صريحا من التيار الإسلامي، وخاصة المتمثل بجماعة الإخوان
المسلمين. فلم يعد مقبولا هذا التردد، ولن تسير الجماهير خلف قيادة مترددة هزيلة لا
تثق بقدرتها على ممارسة ما تعلنه من تبني نهج ديمقراطي تعددي منفتح على جميع شرائح
المجتمع السوري. لن تتمكن المعارضة الديمقراطية في الداخل من الخروج من أزمتها
الحالية، ولن تنجح في استقطاب الدماء الشابة الجديدة، التي هي الشريان الذي يمر
عبره الحراك الاجتماعي والسياسي، إلا بعد أن تتخلص من التفكير الاقصائي وتقطع مع
كافة أشكال التصريحات الانعزالية وأصحابها المشبوهين.
وبغير ذلك فإنها ستبقى فاقدة القدرة على استقطاب الحد الأدنى من شرائح الشعب ومن
تعاطف الجماهير معها.