دمار... وإعمار
صلاح حميدة
يعمر الناس الأرض ، لكن هناك من يسعى لتدمير ما بنوا، ومن ثم يصبحون بحاجة إلى الإعمار من جديد، وقيل أن الدمار سهل والإعمار صعب، فلسطينياً، كان الفلسطينيون على موعد مع الدمار على مر التاريخ، ففلسطين ممر الحضارات والجيوش ومطمعها، ولذلك شهدت فلسطين وما حولها معارك فاصلة في التاريخ، وبالتأكيد ناب فلسطين من دمار هذه الحروب ما نابها، أما منذ بداية القرن الماضي فكانت فلسطين على موعد مع دمار الاستعمار، وما لحقه من احتلال استيطاني عنصري لأرضها، وترافق هذا الاحتلال دوما مع الدمار، الفلسطينيون يبنون، وهو يدمر، وهكذا دواليك، حتى أصبحت الجرافة في العقل الفلسطيني ترتبط بالدمار لا بالإعمار، فالجرافة دائما هي التي تهدم بيت الفلسطيني وتقلع أشجاره وتدمر مصنعه ومتجره، وتحرث شوارعه، وتدهس جثث أبنائه.
بنى الفلسطينيون بيوتهم بكدهم وعرقهم وتعب وعمل السنين، ولم يجد الفلسطينيون إلا نادراً من يدعمهم ليعمروا ما دمره الاحتلال، وفي قطاع غزة كانت ذروة الدمار في الحرب الأخيرة، بالرغم من كون آلة الدمار لم تتوقف بحق الفلسطينيين في كل فلسطين التاريخية، منذ ما قبل قيام الاحتلال وحتى اليوم، في غزة كما لبنان والعراق وغيرها، دمار ودمار ودمار، حرب طاحنة، يتم التفاوض فيها مع المقاومة عبر الدمار، ترفض الاستسلام نقصف المدنيين أكثر؟!
في العراق والكويت( في الحربين) الدمار كان واسعاً، فالفاتورة للقنابل مدفوعة سلفاً؟! والإعمار سيكون من نصيب الشركات التي صنعت القنابل؟! فالربح من الدمار والربح من الإعمار؟! ثم تضيع الأموال بيد الفاسدين ويسرق النفط ولا يجني الشعب إلا الدمار.
في لبنان، كان الدمار والتدمير جزءاً من التفاوض للاستسلام، وكلما صمدت المقاومة، زاد التدمير، في نهاية الحرب كان من حظ المقاومة اللبنانية أن على حدود لبنان دولة كسوريا وليس مصر أم الدنيا؟ وكان من حظها أن من تتبعهم مذهبياً كانوا سباقين لدعمها بالمال وبسخاء، فلم تعدم الوسيلة ولا المال، ولكن بالرغم من ذلك احتجزت مساعدات كثيرة في مطار بيروت بيد لبنانية! ثم احترقت بقدرة قادر! مثلما احتجزت المساعدات لغزة في العريش وغرقت وسرقت وتلفت! بعض الدول العربية ساهمت في إعمار لبنان بنفسها، وأنجزت ما ذهبت لأجله بسرعة قياسية، والمقاومة اللبنانية أنجزت الكثير، فيما الأموال التي جمعت في مؤتمر إعادة الإعمار حتى اليوم هناك جدل حول تسليمها لأصحابها بعد ثلاث سنوات على الحرب؟!.
في حرب غزة، كان الأمر فيه اختلاف بعض الشيء، فالتدمير كان كبيراً لدرجة لم تشهدها فلسطين من قبل، ومن المتفق عليه أن هذا التدمير كان مقصوداً، بعد تيقن الاحتلال أنه لن يدخل غزة إلا إذا دفع ثمناً كبيراً، فقرر تدمير ما يمكن تدميره، وهذا التدمير كان بضوء أخضر من كل من سهلوا للحرب ودعموها سياسياً وعسكرياً وإعلامياً، ولذلك فكر هؤلاء بالدخول إلى غزة وتطويع المقاومة الفلسطينية من خلال الجرافات التي تبني، بعد محاولة دخولهم عبر الجرافات التي هدمت. أعلنت عدة دول عربية عن نيتها دعم إعمار غزة، فيما قامت المقاومة والحكومة الفلسطينية في غزة بدعم المواطنين هناك بما يسد حاجتهم حتى يتم بناء ما تم هدمه، وكان واضحاً أن الحكومة هناك لم تحرص على استلام الأموال ، بل طلبت الإشراف على الإعمار، وهذا حقها، وطالبت الجميع بأن يأتوا ويقوموا بالبناء والإعمار بأنفسهم، وهي بهذا سدت الذرائع، بعدم إعطائها المال مباشرة لأنها توصف في العرف الدولي الظالم بأنها إرهابية.هذا الموقف وضع الأطراف التي تحاصر وتريد أن تستثمر الدمار ومعاناة الغزيين في تركيع المقاومة الفلسطينية، أمام موقف صعب، فقاموا بإفشال اتفاقية التهدئة التي كانت على شفا التوقيع، والتي كانت ستعجل في البدء بالإعمار وتفقد هؤلاء ورقة هامة، ثم عجلوا بالحوار الداخلي، ولكنهم لمسوا ثباتاً في المواقف، وليونة في لغة الحوار حول ما لا يمس الثوابت، فكان لا بد من مؤتمر إعادة الإعمار في شرم الشيخ، ليضعوا العربة أمام الحصان مجدداً، فلا رفع للمعاناة في غزة إلا بالخضوع للشروط الدولية بالاعتراف والتنازل عن فلسطين، والقبول بدولة الجدار التي تمر في قناة التخريج النهائية، وتنتظر القضاء على مشكلة المتمترسين في غزة. بين هذا المؤتمر في شرم الشيخ العديد من القضايا، وسيتمخض عنه العديد من النتائج على الأرض، بعضها في العاجل والآخر في الآجل:
* على صعيد العلاقات الفلسطينية الفلسطينية: عمق هذا المؤتمر الانقسام بصورة جذرية، ووضع الحوار في القاهرة الذي سينطلق في العاشر من الشهر الجاري في مهب الريح، وستتبين قوى المقاومة أثر هذا المؤتمر على الوفد الفتحاوي عندما تجلس معهم، فاللغة ستختلف حتماً، فالأمر لن يختلف إن كان سيتم توظيف نتائج المؤتمر وورقة معاناة الغزيين للضغط على فصائل المقاومة، أم لإفشال الحوار وفرض الاستسلام، وبالتالي تعميق وتجذير الانقسام بشكل نهائي.فتصرفات حكومة الانقسام بقيادة فياض لا توحي أن هناك تصالحاً سيتم في القريب، أو ما يطلق عليه حكومة توافق وطني، بل مبادرتها ببرنامج الإعمار عن بعد بالريموت كنترول، عبر إعلانات الصحف، سيفتح الباب امام التزوير والمحاباة، ومنح هذا ومنع ذاك، فهل سيعطى عناصر المقاومة ( الإرهابيون ) أموالاً من التي ستمر عبر هذه الحكومة؟ وهل ستصل الأموال أصلاً إلى مستحقيها؟ وكيف ستتم؟ وهل حكومة تعلن عن إفلاسها واقتراضها من البنوك سترسل الأموال لمستحقيها في غزة؟ أم ستصرفها على نفقاتها في الضفة؟ وهل سيتحرك جيش الفاسدين ليقتطع حصته من هذه الأموال، بحيث لا يصل من الجمل إلا أذنه كما قال منير شفيق؟
إن المبالغة في الترحيب والاعتراف برئيس يتهم أن ولايته انتهت، وحكومة انقسام لا أرضية نيابية لها، وتنصيبها ممثلاً للفلسطينيين، والإعلان أن التعامل لن يتم إلا معها، أفشل الحوار مقدماً، وبين أن الأمور ستسير باتجاه التأزم والمواجهة، داخلياً وخارجياً. هذه السياسة ستعيق الإعمار وبناء ما دمره العدوان على القطاع المحاصر، وهذه السياسة تحديداً ستكون سيفاً ذا حدين، وأول من سيدفع ثمنها الطرف المتماهي مع الأطراف الدولية والمتساوق مع مطالبها، إضافة إلى الدولة المضيفة لهذا المؤتمر.
ففي غزة يتم الآن صناعة التكفير والعنف الحقيقي الذي لم يشهده العالم من قبل، ففي هذا المعسكر الاعتقالي الأضخم في التاريخ، يتم ولادة جيل ناقم فقير معدم ناقم على كل شيء، جيل يحقد على العالم أجمع، جيل لا يستطيع فهم لماذا يحاصر ويجوع ويقتل ويقصف ويمنع من حقوقه الوطنية والأساسية، جيل سيجد أن الموت مع الأعداء وبينهم هو الحل، وقد تجد المقاومة الفلسطينية في غزة نفسها في وضع الذي يجعل هذا الاحتقان ينفجر خارجياً أفضل من أن ينفجر داخلياً.
وهل يسعى عرابو شرم الشيخ لتصدير الصراع إلى الداخل الفلسطيني وتأجيجه مجدداً حتى لا يقال أن حكومة تؤسس الآن في ( إسرائيل) هي التي تعرقل الأمور؟ وهل نحن مقبلون على تصعيد داخلي، حتى يغطي على التصعيد والاستيطان الخارجي؟ وهل غزة مقبلة على حرب جديدة؟.
* أظهر هذا المؤتمر أن ملف المشروع الاستيطاني في فلسطين عاد إلى الأوروبيين بعد أن خرج من أيديهم للولايات المتحدة الامريكية، ففي هذا المؤتمر سلمت أمريكا فرنسا والتشيك وروسيا وغيرها هذا الملف، وكان واضحاً تصدر الرئيس الفرنسي للغلو في مهاجمة المقاومة وتعبيره عن كون ( الجندي الصهيوني الأسير مواطناً فرنسياً)، يضاف إلى ذلك تصريحات رئيس الإتحاد الأوروبي الحالي ( جمهورية التشيك) بأنهم (جاؤوا لحماية الدولة العبرية، وأن هذا شأن أوروبي، ولم تعد مشكلة غزة قضية عربية)، بل عادت الآن جيوش الفرنجة وحملاتهم إلى الشواطىء والحدود الفلسطينية، وهذا يعكس من ناحية أخرى رعب هؤلاء من التجربة الإسلامية في القطاع واستماتتهم للقضاء عليها.
* تحدث بعض السياسيين عن السلطة الفلسطينية على أنها مشروع الدولة الفلسطينية، وهذا المشروع الذي أعلن من قبل وزيرة الخارجية الأمريكية، ممكن ان يلد دولة خلال هذا العام؟ فما هي هذه الدولة، دولة الجدار؟ دولة الإستيطان؟ دولة تهويد القدس وتهجير أهلها؟ دولة التنازل عن أكثر من 78% من فلسطين؟ دولة إلغاء حق العودة؟ أم دولة السلام الاقتصادي؟ أم دولة (نابلس أهم من أنابوليس)؟ وهل هناك سعي لتخليد الاحتلال مقابل بعض المال، وتسمية دولة الجدار بإمبراطورية؟!.
* لم يكن مصادفة أن تبدأ الجرافات بممارسة هوايتها في الدمار في بيوت المقدسيين والمؤتمر منعقد في شرم الشيخ، ولكن لا أحد تجرأ على ذكر وإدانة ما تم و سيتم من تدمير وتطهير عرقي لأكثر من ألف وخمسماية فلسطيني في القدس، عقد هذا المؤتمر بالتزامن مع إعلان الدولة العبرية عن مناقصات لبناء( 73000) وحدة سكنية للمستوطنين في الضفة الغربية والقدس المحتلة؟ فهل الإعمار المطلوب هو إعمار المستوطنات؟ فالدمار للفلسطينيين في فلسطين المحتلة من أم الفحم إلى النقب إلى غزة إلى القدس، بينما الإعمار للمستوطنين، وبعض من المال والقبلات والابتسامات لبعض الفلسطينيين، وعاشت إمبراطورية الجدار الفلسطينية؟!.
* كان من الواضح أن هناك الكثير من الابتزاز السياسي قبل المؤتمر وبعده ، فقد صرح وزير خارجية السعودية بأن دعمهم سيكون سخياً حتى قبل أن تضع الحرب أوزارها؟! فيما صرح الأمين العام لجامعة الدول العربية بأن هناك( شنط مليانة فلوس) على حد تعبيره؟! فيما ممثل اللجنة الرباعية، عاد وأكد على لغة عمرو موسى؟! وجاءت تصريحات وزير الخارجية المصري في نفس السياق، وحرص من خلالها على المبالغة في الأرقام، فالأرقام التي ذكرت تنطوي على مبالغات مقصودة، إضافة إلى وضعها في إطار (من يزرع يحصد)؟! ( وافق تأخذ)، فأي مدقق في الأرقام يلحظ أن هذه الأرقام التي ذكرت في أغلبها ليست التزامات لإعادة الاعمار في غزة، فعلى سبيل المثال، الأموال الأمريكية ثلثاها للبرامج الأمنية في الضفة الغربية، والثلث الثالث، للمساعدات الإنسانية الاغاثية(طحين وخلافه) في القطاع، ولا بد من التذكير هنا بأنه غالباً لا يتم الالتزام بما يتعهد به من الدول المانحة، فليس كل ما يقل يصدق، فهذه التصريحات تذكرنا بتصريحات جعل غزة(سنغافورة الشرق الأوسط)؟! ولنا أيضاً بحكومة فياض المعينة عبرة، فهي تفعل أكثر مما يطلب منها ، ومع ذلك فهي تبكي وتصيح لعدم التزام تلك الدول بمدها بالمال المتعهد به؟!.
كما أن الكثير من الأرقام التي ذكرت، عبارة عن التزامات مالية وإغاثية لبرامج متعددة بعضها لغزة وأخرى لغير غزة، وفي أغلبها ليست لإعادة الإعمار، وإنما لبرامج عبر مؤسسات أهلية ودولية أو لحكومة فياض في الضفة، وما بقي من الأموال سيكون بعضها غير مرتبط بالأجندة التي أعلنت في المؤتمر، فبعض الدول ستباشر العمل بنفسها، كبعض الدول العربية: (ليبيا والجزائر وقطر)، كما أن هناك دولاً لم تشارك في هذا المؤتمر كإيران، والتي أعلنت عن استعدادها لإعمار كم كبير مما دمر في غزة، مضافاً إلى ذلك العديدون من الأفراد الأثرياء والمؤسسات التي لا ترتبط بالأجندة الغربية.
من الواضح أن هذا المؤتمر خرج بأجندة تعمل على ابتزاز المقاومة الفلسطينية بمعاناة شعبها، ويسعى هذا المؤتمر بسياسته هذه لإثارة النقمة الشعبية على المقاومة هناك، ولكن المقاومة الفلسطينية بيدها الكثير من الأوراق التي ستربك بها ما يخطط لها من تآمروا عليها في شرم الشيخ، كالاعتماد على دول عربية وإسلامية كقطر وليبيا والجزائر وإيران، والانتقال بالعلاقة مع إيران إلى مستوى أعلى من الموجود كنوع من المناكفة للرسميين العرب الذين يتوجسون من هذه العلاقة، ومن الواضح أن دول الخليج وعلى رأسها السعودية فهمت هذه المعادلة جيداً، وأدركت أن هذه تعتبر فرصة مفصلية في علاقتها مع المقاومة الفلسطينية، ولذلك أعلنت بشكل قاطع أنها لن تعطي الأموال لسلام فياض( وهذا ما أثار حنقه في المؤتمر) وأنها ستدير عملية الإعمار عن طريق الصندوق السعودي للتنمية، وهذا لاقى ترحيباً من المقاومة الفلسطينية، التي لا يهمها قبض المال، بقدر ما يهمها رفع المعاناة عن الغزيين.
على الدول العربية الرئيسية أن تعلم أن عليها أن لا تغالي في عداء المقاومة الفلسطينية وألا تضغط عليها ، فكثرة الضغط ستولد انفجاراً لن يدفع ثمنه إلا هذه الأطراف، فإيصال المقاومة والشعب الفلسطيني إلى درجة لا يعود معها هناك شيء يخسره، سيوصل المنطقة إلى مرحلة ستبكي هذه الأطراف ومن يدفعها دماً.