منظمة التحرير الأتاتوركية!
منظمة التحرير الأتاتوركية!
صلاح حميدة
مصطفى كمال أتاتورك معروف للكثيرين ، فهو هادم الخلافة الاسلامية ومؤسس الدولة التركية العلمانية ، وهو من ألغى الخط العربي والآذان وحارب الاسلام في كل مكان في المساجد والبيوت والجامعات والمدارس وفي البرلمان والحكومة وكل مناحي الحياة في تركيا، وهو الذي الحق تركيا بالغرب تطلب لاهثة الانضمام للاتحاد الاوروبي منذ عشرات السنين وهم يماطلون بالرغم من خلع اتاتورك والاتاتوركيين كل ما يمت للإسلام بصلة .
بعد موت أتاتورك ترك إرثه لمجموعة من العسكريين والنخب الفكرية والسياسية التي تمترست في المؤسسات العسكرية والقضائية والتعليمية ومنعت أي تغيير في الحياة السياسية التركية باتجاه رغبات وتطلعات الشعب التركي ، وبقيت هذه النخبة الغارقة في فسادها تؤله علمنة تركيا، طاردة لكل من يخالفها مدعية حرصها ودفاعها عن قلاع الاتاتوركية العلمانية، ولكنها عمليًا تدافع عن مصالحها وفسادها في وجه الإرادة الشعبية هناك .
لن أسهب في تحليل التجربة الكمالية الأتاتوركية في تركيا، لأن ظاهرة جديدة نشأت عند الفلسطينيين تستوحي وتتماهى مع تجربة الكماليين الأتاتوركيين في تركيا، فهناك فئة من الفلسطينيين تمترس في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وتضع نفسها وصيةً على الشعب والقضية وتعمل على تأليه منظمة التحرير ، وجعلها حكراً على هذه الأطراف، وأن أي قادم جديد يجب أن يقدم فروض الطاعة والولاء لهذه المنظمة ولبرنامجها السياسي، وعليه إن أراد دخولها أن يغير جلده حتى يقبل من تلك القوى التي أثبتت الإنتخابات التشريعية هزيمتها هزيمة ساحقة أمام القوى الشابة الناهضة .
منذ انشاء منظمة التحرير، لم يكن أحد يلقي لها بالاً، حتى دخلتها قوى المقاومة الفلسطينية المتمثلة بحركة فتح وقوى اليسار المقاتل في ذلك الوقت ، دخلتها تلك القوى ببنادقها ومنحتها شرعية البندقية والمقاومة، ولكن حدث أمر عجيب ، ألا وهو أن هذه المنظمة طوعت من دخلوها وليس العكس ، فبدأوا يخفضون سقفهم حتى وصلوا إلى اتفاقية الحكم الإداري الذاتي(اتفاقية أوسلو)، وخلال مشوارهم هذا أغرقوا بأموال النفط وتم إفسادهم بهذا المال، وحينما وصلوا إلى أوسلو، تحولوا من مناضلين الى تجار وموظفين ، وتم تدمير مؤسسات منظمة التحرير واختزالها في سلطة الحكم الإداري الذاتي .
بقيت منظمة التحرير على حالها غارقة في الفساد، خاضعة لسلطة حكم ذاتي، هي قانونيًا مسؤولة عنها ، وأخذت تدريجياً تغرق في فساد السلطة نفسه، ا وترتبط بمنافع اقتصادية مقابل خدمات أمنية تقدم للاحتلال، حتى زاد الفساد ، وانتشر العنف والفلتان وحكم العصابات في المجـتمع الفلسطيني في الضفة وغزة، فيما أهمل فلسطينيوا الشتات والداخل الفلسطيني .
شكلت الإنتخابات البلدية و التشريعية في عامي2005-2006 م تاريخاً مفصلياً في فلسطين والعالم ، عندما قرر الشعب الفلسطيني وقف مسيرة التراجع وتغيير البوصلة ، وانتخاب قيادة جديدة أوضح طرحاً وأنظف كفاً، شكلت نتيجة الإنتخابات صاعقة على حركة فتح و(فسائل ) منظمة التحرير،فقد اكتشفت أن تمثيلها للشعب الفلسطيني طار من بين يديها وأنها إن أتمت ما اتفق عليه في اتفاق القاهرة، من إصلاح لمنظمة التحرير الفلسطينية على أساس نتائج الانتخابات التشريعية، فستصبح خارج اللعبة تماماً، هذا الذهول لم يقتصر على هذه القوى وحدها بل انتقل الى الدول العربية المحيطة والتي بذلت جهوداً جبارةً، وضغطت ضغوطاً هائلةً على منظمة التحرير بفصائلها، حتى طوعتهم وصولاً إلى مرحلة أوسلو، يضاف إليهم الاطراف الدولية الفاعلة والكيان الصهيوني .
صدر القرار بوقف تنفيذ اتفاق القاهرة ، ثم تلا ذلك ما عايشناه، و انتهاءاً بالصراع المسلح والإنقسام، وما تم من فشل(فخ) لمشروع الحوار المصري، وليس انتهاءً بالمحاولة الفاشلة للقضاء على القيادة المنتخبة الشرعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
قررت حركة فتح وفسائل منظمة التحرير التمترس في ما تبقى من هيكل المنظمة ، على فسادها وترهلها وعدم مشروعية وقانونية كافة تشكيلاتها ، من انقضاء للتواريخ القانونية وموت واستقالة أعضاء ، وعدم وضوح وحصر أعداد أعضاء مجالسها التمثيلية( الوطني والمركزي)، قررت هذه الأطراف التمترس في ما تبقى من هياكل المنظمة، ومناكفة حركة حماس، ومنعها بأي شكل من الأشكال من دخولها، لأن هذه الأطراف تعتبر أن منظمة التحرير هي حصنها الأخير أمام حماس وقوى المقاومة الفلسطينية.
من خلال متابعة خطاب هذه الاطراف المتمترسة في ما تبقى من هياكل المنظمة ، نلحظ خطابً ا(تتريكياً ) واضحاً، ويتم ذلك في عدة أوجه..
* فهذه الأطراف تعتبر نفسها وصيةً على الشعب والقضية وعلى حركة حماس، وتعتبر أنها هي الوفية لمنظمة التحرير، وأن رؤيتها هي الرؤية الصحيحة وعداها لا يعتد به ، وخال من المسؤولية الوطنية ، وأنه مهما حصل على نتيجة إنتخابية في الإنتخابات التشريعية، فهي نتيجة لا يعتد بها أمام أتاتوركيي منظمة التحرير، ويجب إعادة الإنتخابات على مقاسهم وتزويرها حتى يفوزوا رغم أنف الشعب الفلسطيني الذي لا يريدهم؟!.
* تعتبر هذه الأطراف أن الشعب والمؤسسات والسلطة وكل مقدراتها هي ملك لها، وأن أي فوز في الانتخابات أو حتى توظيف في وظيفة صغيرة، هي خسارة الخسائر لها، وأن معركة الدفاع عن امتلاكها للمؤسسات والمقدرات والوظائف هي أم المعارك ،وتسعى إلى الفصل والتهميش ومنع التوظيف ومنع المنح، وكل ما يتصل بما تعتبره اختراقاً لملكيتها. فهي لا تنظر الى الموقع على أنه مكان لخدمة الشعب، بل تعتبر أن الشعب والمؤسسة في خدمتها وخدمة مصالحها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
* تحتكر هذه الأطراف المؤسسة الأمنية، وتسعى إلى الضرب والتلويح بالضرب للمنافس السياسي إذا اقترب من الخطوط الحمراء التي تعتبرها مساً بأتاتوركيتها وقداستها ،ولذلك فهذه الأطراف لا تتسامح مطلقًا بدخول من يخالف نظرتها لتلك المؤسسة، حتى ولو كان فرداً صغيراً ،فهذه كبيرة ما بعدها كبيرة.
* ترتبط هذه الأطراف عادةً بالإرادة الغربية والإقليمية المعادية لفكرة تحكيم شرع الله في الأرض ، وفكرة أن الاسلام دين ودولة وحضارة ، ولذلك فالتحالف بينهما إستراتيجي بكل ما تعني الكلمة من معنى ، قد يخفت حيناً ويقوى حيناً ، ولكن ديمومته مستمرة ولا تشوبه شائبة .
* تضع هذه الأطراف شروطاً تعجيزية أمام القوى الصاعدة التي تحمل فكرة الإسلام الحضاري ، إذا كانت ترغب بالمشاركة السياسية، فاذا أرادت قوى المقاومة الفلسطينية أن تدخل منظمة التحرير الأتاتوركية فعليها أن تعترف وتقر ببرنامج منظمة التحرير السياسي، القائم على الإعتراف ب(إسرائيل) ، أي التنازل عن حقوق اللاجئين بأرضهم وبالعودة إليها، وبالتالي الإعتذار ل(إسرائيل) على مقاومتنا لها، وعلى أهالي يافا وحيفا ودير ياسين واللد أن يشكروا اليهود على المجازر التي ارتكبوها بحقهم لأنهم كانوا يغتصبون أرض اليهود ، وأجبروهم على قتلهم لاخراجهم من تلك الارض؟!.
وهنا يثور تساؤل مهم ، هل اشترط الشقيري على حركة فتح أن تعترف ب(إسرائيل) إذا أرادت دخول منظمة التحرير؟
وهل اشترطت حركة فتح على فسائل اليسار الفلسطيني أن تعترف ب(إسرائيل) إذا أرادت دخول منظمة التحرير؟!
بالتأكيد لا، ولكن هذا شرط يوضع في وجه حماس لمنعها من ولوج المنظمة، ولأن سقف المنظمة صار أصغر بكثير من أن تدخله حركة كحماس ببرنامجها، فهم بهذه الطريقة، وكأنهم يريدون إجبار شاب في العشرين من عمره ، ملابس لطفل عمره عام واحد؟!.
* وإذا كان الإلتزام بالبرنامج السياسي للمنظمة هو شرط دخول حماس لها، وشرط دخولها للإنتخابات القادمة ، فالناخب الفلسطيني لن يجد اختلافاً في الطرح بين الفصائل المختلفة، ولن تتعب المطابع نفسها في طباعة البرامج الإنتخابية للفصائل، فستطبع برنامج منظمة التحرير لحماس بجلدة خضراء ، ولفتح بجلدة صفراء ، ولفسائل اليسار بجلدة حمراء ، وهنا يبرز التساؤل عن سر إصرار تلك الفسائل على الإنتخابات النسبية،فهل هي موعودة أن تضاعف مقاعدها من خمسة إلى خمسين ؟! .
* يدعي أتاتوركيو منظمة التحرير، أنها بيت الفلسطينيين الذي يعترف به العالم أجمع ولذلك لا مكان في الواجهة السياسية الفلسطينية لمن لا يدخلها ، ومن يدخلها يجب عليه الدخول حسب تصنيفات الاتاتوركيين ، فحماس مثلا يحق لها حسب حسبة أحد الأتاتوركيين - على قناة الجزيرة- 6% من أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، وتسابق معه أتاتوركي أحمر آخر في نفس البرنامج في الإستغباء ،بأن تكرم على حماس بعضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وبذلك تصبح حماس كحزب فدا وحزب الشعب في مساهمتها في صنع القرار السياسي الفلسطيني!.
وزاد الأتاتوركيان استهبالهما للمشاهدين، بأن ادعيا أن الفصائل كلها لها تمثيل مماثل في اللجنة التنفيذية والباقي من المستقلين ، وللعبة المستقلين هذه حكاية ظريفة ، فقد كان الرئيس الراحل ياسر عرفات يلعبها مع الفصائل الاخرى فيعين فتحاويين بصفة مستقلين .
يتبين مما سبق أن أبواب المشاركة السياسية والولوج إلى منظمة التحرير الأتاتوركية موصدة أمام حماس ، وأن كافة الأطراف المنضوية تحت سقف هذه المنظمة مضافاً إليها أطرافاً إقليميةً ودوليةً فاعلةً ترفض أن تكون حماس جزءاً من المشهد السياسي الفلسطيني، ولذلك يرى بعض المحللين والمتابعين للشأن السياسي الفلسطيني أن حركة حماس مطالبة بالقيام بخطوات إستراتيجية في مواجهة الأتاتوركيين الفلسطينيين ومن يدعمهم ،فهي مطالبة بالإعلان أنها لا ترغب بالإعتراف الدولي إذا كان يعني أن الفلسطيني مطالب بالتنازل عن حقوقه الثابته حتى ينال هذا الإعتراف، ويدعو هؤلاء حركة حماس إلى الاعلان صراحة وبموقف سياسي واضح أن منظمة التحرير الأتاتوركية، لا تمثل الشعب الفلسطيني ولا تمثل حركة حماس ولا قوى المقاومة الفلسطينية، ويرى هؤلاء أيضاً أن حماس مدعوة لصياغة إستراتيجية توافقية مع كافة قوى المقاومة الفلسطينية، وأن تعلن صراحة أن من أراد الشرعية فعليه الإلتحاق بهذه الإستراتيجية، والتنصل من كافة الإتفاقيات الأمنية والسياسية التي تجرد الفلسطيني من حقوقه الثابته والمشروعة، وصولاً إلى جعله موظفاً أمنياً عند الإحتلال.
ويخلص هؤلاء المحللون أن حماس ملزمة بخطاب إعلامي واضح يسمي الأمور بمسمياتها، فيما يخص العلاقات الداخلية والعلاقات الخارجية ،إضافة لاستراتيجية مقاومة واضحة ، ويرون أن طريق الحوار قد أغلق نهائياً لأن الساحة الفلسطينية في ظل المواقف السياسية للمتحوصلين في منظمة التحرير ، ومن يدعمهم، ويرى هؤلاء المحللون، أن الموقف الأخير لخالد مشعل في الدوحة، والذي أعلن فيه عن العمل على تشكيل مرجعية لقوى المقاومة الفلسطينية، واللاجئين الفلسطينيين في الخارج، يرون أن هذه الإعلان جاء في وقته، وأن هذه الدعوة جاءت بغرض القول إما أن يتم إصلاح المنظمة، وإما أن يتجاوزها الشعب الفلسطيني.