خطان متوازيان!
إيمان رمزي بدران
عضو رابطة أدباء بيت المقدس
إن من يرى التحركات السياسية المتلاحقة بعد انتهاء العدوان الآثم على غزة قد يغيب عن ذهنه أثناءها بعض التغييرات الجذرية التي حصلت كنتيجة حتمية لهذه الحرب ونتيجة راسخة لصمود المقاومة المنتصرة في غزة ،ولعل أهم هذه التغييرات الجذرية والتي لا يمكن لأحد أن يتجاهل حقيقتها هي تلك الاصطفافات الجديدة عربيا وإسلاميا ودوليا حيث يبدو لمن يتابع ما يجري من مؤتمرات وتصريحات أن هناك على الساحة السياسية معسكرين بارزين فيما يتنافسان فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية عامة والأحوال الراهنة في غزة والضفة بشكل أساس .
وقد رأينا ذلك جليا من خلال قمة الكويت وتداعياتها وكيف كانت الجلسة الأولى عبارة عن تكاشف رهيب لمن يفهم لغة السياسة رغم محاولات بعض زعماء العرب إخفاء ما يكنونه من استراتيجيات وأجندات ... ولعل أكبر ممثلي تيار التسوية البائدة والتي جرت الويلات على شعبنا وأمتنا كانا "محمود عباس" و"حسني مبارك " مع حفظ الألقاب فالأول حاول من خلال خطابه الهزيل أن يحمل المقاومة مسؤولية العدوان حين برره برفض تمديد التهدئة من فصائل المقاومة وهو نفسه عاد لنقض كلامه حين قال أن طبول الحرب قرعت منذ أكثر من سنة على العدوان مما يدل على تخبط وعدم مسؤولية في التعاطي مع دماء الشهداء وسنوات الحصار .
ومن الملفت للنظر في خطابه أنه لم يساند المقاومة مساندة عملية وكان من أشد المدافعين عن المبادرة العربية الميتة واقعا مما يدلنا على الخلفية السياسية "لمحمود عباس" بطل أوسلو وأسد التنسيق الأمني وصاحب التصريحات النارية ضد المقاومة فتارة يصفها بالعبثية وتارة بالحقيرة وأخيرا صاحب نظرية "لا نريد مقاومة تفني الشعب"!
وهنا يتضح لنا لماذا نسب "أبو مازن" الفضل في وقف العدوان لمصر ولم ينسبه إلى صمود "شعبه " ومقاومته على أرضه وثباته فيها ...
أما حسني مبارك الرئيس المصري فلم يكن متوقعا منه أفضل مما قال فمواقفه ونظامه أصبحت معروفة لدى أطفال فلسطين وليس المراقبين وحسب ؛ فهذا النظام هو ذاته من أغلق معبر رفح دون أهل غزة بحجج واهية لا تصلح أن تكون "حجة المفلس" فهل الأولى التمسك بتفاهمات لم تكن مصر طرفا فيها لإعادة الاحتلال إلى معبر رفح أو الأولى دعم السيادة الفلسطينية على المعبر وفي كل مكان ؟
ولعل أغرب ما قال الرئيس حسني مبارك هو مسألة المقاومة ومسؤوليتها في "الإنجازات والدمار" في إشارة ضمنية لتبرئة "إسرائيل" من تبعة الحرب الهمجية وتحميل المقاومة لها؛ وهذا كان دأب الديبلوماسية المصرية التي تتعامل مع فصائل المقومة كظاهرة أمنية وأكبر دليل على ذلك أنها لا تلتقي بقادتها إلى مع وزير المخابرات !
ولعل أهم ما يميز هذه الفتة أنها لم تع دروس الماضي ولم تدرك المتغيرات التي تسير فيها الأمة أو لعلها تدرك ولكن سبق السيف العذل لكي تسترجع كرامتها وقد استمرئت الهزائم فصعب عليها أن تقتنع بحقيقة أن العد التنازلي للصهاينة وحلفائهم قد بدأ ولا بد من تدارك الأمر والميل نحو الكفة الراجحة وهي كفة المقاومة والصمود !
وهناك فئة أخرى بدأت تدرك المعادلة وهي تقف سياسيا موقفا داعما للمقاومة كسوريا وقطر وربما ضمت إليهم موريتانيا حديثا ولا ننسى دولا تبعد عنا آلاف الأميال وما جعلها ربما تقف موقفا قويا نسبيا هو ذلك العداء بينها وبين الإدارة الأمريكية مثل فنزويلا وبوليفيا وأضيف لها وبشكل واضح تزايد النفوذ التركي وبالنفس القديم، فأول مرة نجد الأتراك حكومة وشعبا لهم تلك المواقف القوية رغم اعتقادي الجازم بعدم القدرة التركية على التأثير الحقيقي، ولكن وجودها وحركتها في فلك المقاومة هو تطور لصالحها بكل تأكيد ولعل المقاومة تحاول استغلال ذلك في المفاوضات الجارية بين العواصم العربية والدولية.
والسؤال الآن هل بعد أن وضعت الحرب أوزارها ولو مؤقتا سيكون هناك هدوء أيضا على جبهات التدافع بين هاتين الفئتين ؟
من خلال ما بعد الحرب والعدوان الصهيوني بدا جليا أن المرحلة القادمة بعد الحرب ربما أصعب من سابقاتها قبل الحرب وربما أثناءها رغم التواطؤ الواضح فيهما على الشعب الفلسطيني ومقاومته ذلك الموقف المخزي للمتواطئين على دماء شعبنا بحجة الاتفاقيات الدولية التي لا تساوي ما كتبت عليه من حبر أمام نقطة دم تهدر من بريء !
فمن راهن على انكسار الشعب أولا بالحصار ثم بالحرب اليوم يعود ويحاول مرة أخرى في مسألة الإعمار وإعادة البناء باسطوانة الشرعية المشروخة وأغنية الانقلاب الممجوجة؛ وكيف يمكن أن نفهم الشرعية والدستورية في ظل سلطة تحت الاحتلال وفي ظل رئاسة منتهية المدة وسلطة أمر واقع في الضفة بل وفي ظل الحرب المعلنة على المقاومة والتي امتدحها زعماء "إسرائيل" !
وربما من الأجدر التركيز على فرز المواقف على الساحة الفلسطينية أولا قبل فرزها عربيا وإقليميا ودوليا .
فهناك خطان متوازيان في الساحة الفلسطينية أكاد أجزم باستحالة أن يلتقيا إلا بطريقة بهلوانية ما تلبث أن تتكشف عن تربص أقطاب أحدها بالآخر ...
فهناك سلطة حركة فتح وحكومتها في رام الله وبرنامجها السياسي المنزلق إلى حافة الهاوية وطنيا وشعبيا وحتى إداريا سلطة نخرت عظامها ثلة من الفاسدين والمفسدين تستمد قوتها من أجهزة أمنية تتلقى أوامرها من "الجنرال دايتون" فهو الحاكم العسكري للضفة المحتلة بسياسات متفقة وأكثر من متساوقة مع الاحتلال !
تلك السياسات التي جلبت للقضية الفلسطينية كل التبعات الحالية من حواجز وجدار واستيطان وتهويد وتقطيع أوصال بل وفوضى أمنية ووطنية وأخلاقية، وخلال العقود الماضية لم نحصد منها سوى مزيد من القتل والتشريد لشعبنا ومزيد من التعقيدات والصعوبات التي تواجه قضيتنا عدا عن السمعة التي حظيت بها تلك السلطة في نظر الشعوب العربية والمسلمة من فساد وإفساد مارسته أجهزتها من خلال التدخل في الشؤون الداخلية للدول الإسلامية وما تورط فيه عدد كبير من زعمائها من فضائح مالية أودت بالوطن ليصبح عندهم أشبه ببقرة حلوب وفي كل محنة تراهم يعقدون "مواسم الشحدة" على موائد العالم ليصنع مجدهم وقصورهم على أكتاف جراحات شعبنا وأشلاء أطفاله !
وهناك خط مواز لهذه الفئة وهي سلطة المقاومة وعلى رأسها حركة حماس في غزة وهذه الفئة التي تتبنى خيار المقاومة وإن كان عمرها الظاهري في القضية قصيرا ولكن إنجازاتها في هذه الفترة تتحدث عن نفسها فهي التي دحرت المحتل للمرة الأولى عن غزة أيام "شارون" ، وهي التي تمكنت من الحصول على أغلبية في الانتخابات التشريعية الأخيرة واستطاعت أن تشكل ثلاث حكومات فلسطينية تحمل في برنامجها السياسي لأول مرة المقاومة كعنصر أساس على طريق التحرير ؛ وهي التي استطاعت مع شعب غزة الصمود في وجه حصار لم يعرف له التاريخ مثيلا، ثم تصدت لحرب ومحاولة اجتثاث لتخرج من بين الأنقاض مرة أخرى هذا فضلا عما عرفت به شعبيا وعربيا ودوليا من نظافة اليد وصلابة الموقف وحنكة في إدارة الصراع مع "إسرائيل"
وكان الكثير من المراقبين يظنون أن العدوان الأخير على غزة سيقرب المواقف ولكن من الصعوبة بمكان أن يعود من انزلق إلى الحضيض ليتسلق نحو القمة ! كما أنه من الصعوبة بمكان لمن وصل القمة أن يتنازل عنها فقد غدت مكانه الذي لا يمكنه التراجع عنه .
وهنا نلاحظ أن كل من الخطين تمسك بمواقفه أكثر وبدا وبشكل جلي أن هناك صراعا قادما حول الإعمار حيث كل منهما سيحاول أن يمسك بما لديه ليجعل الطرف الآخر يقترب منه × ومع ذلك فالأمر الآن بعد الحرب على غزة قد تغير ولا يمكن أن تعود عقارب الساعة إلى ما قبل العدوان ف"إسرائيل" هزمت في غزة وانتهى الأمر ! وما كان مجرد فرضيات عن المقاومة في فلسطين أصبح واقعا؛ فالردع الصهيوني لفظ أنفاسه على أعتاب غزة، وكل يوم يمضي تزداد فيه المقاومة صلابة ويزداد المتواطئون عليها ضعفا وهزالا...
ولعل حملة التشهير التي يمارسها أفذاذ حركة فتح وحكومتها في رام الله أخيرا هي محاولة يائسة لتشويه صورة الخط الآخر الناصعة البياض في أذهان العرب والمسلمين وللأسف أقول، أو ربما _ لحسن الحظ _ أنهم اختاروا أشخاصا سيئين لهذه المهمة فمن يريد أن يتهم الآخرين عليه أولا أن يبرئ نفسه !
وبرغم فناعتي بصعوبة معركة الإعمار لأن من يشعر بدنو أجله وانتهاء مشروعه سيحاول أن يبدو كمن يرقص "خمسة بلدي" قبل أن يتلاشى كليا من الساحة لصالح خط المقاومة والصمود في قصية شعب لم يزل تحت الاحتلال والطبيعي لمن تحت الاحتلال أن يتبنى مشروع المقاومة بل وواجبه ذلك .