الحرب على غزة:حاجة نفسية صهيونية!

الحرب على غزة:

حاجة نفسية صهيونية!

صلاح حميدة

[email protected]

منذ هزيمة الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان عام 2006 م، وكل السياسيين والإستراتيجيين والعسكريين في هذا الكيان يعيشون أياماً صعبة، ويواجهون أسئلة مصيرية، ففي الكيان العنصري الاستيطاني،  يتبوأ العسكريون مكانة مرموقة على قمة الهرم السياسي باعتباره:( جيشاً له دولة)، وليس دولة ذات جيش كما هو المعتاد، كما أن مثل هذه الكيانات تغرس في بيئات معادية لها بالمطلق ولا يمكن التعايش معها، كونها تقوم على القهر والعدوان لأهل البلاد الأصليين ومن جاورها أيضاً، وتهتم بالتوسع دائماً على حساب حقوق الآخرين.

تمخض عن مأزق الهزيمة هذا، ما عرف حينها بلجنة (فينوجراد)، وأهم واجبات هذه اللجنة، معرفة أسباب الهزيمة، ووضع الحلول اللازمة لترميم قدرات الجيش الذي كان يقال أنه لا يقهر، أو بالأحرى ترميم صورة هذا الجيش لدى حاضنته الشعبية الاستيطانية لتطمئن إلى إمكانية اسنمرار بقائها، وأمام الأعداء من أصحاب البلاد الأصليين لإدامة ردعهم، ولدى الحلفاء الذين غرسوا هذه القاعدة الاستيطانية حتى يستمر الدعم التاج عن الثقة بقدرة الكيان على حماية مصالحهم.

خرجت هذه اللجنة بتوصياتها، ودفع ثمن هذه التوصيات وزير الدفاع ورئيس أركانه وغيرهم، واعتبر أهم قرار أوصت به اللجنة هو ترميم صورة الردع لاسرائيل في المنطقة، فهذه الجملة ترددت على ألسن الكثيرين من الساسة والاعلاميين في هذا الكيان، ومن ثم قام الكيان بعمليات استعراضية في سوريا من قصف واغتيال لترميم هذه الصورة، ولكن عملاً دؤوباً كان يتم على جبهة أخرى لترميم قدرة الردع الإسرائيلية.

كل عناصر الكيان الاستيطاني ومن يدعمهم من الدول الاستعمارية والأنظمة العربية المتحالفة معهم، كانوا مهتمين بترميم هذه الصورة، لأن هذا الجيش ثبت أنه يقهر أمام قوى قليلة التسليح والعدد، ما عرى الأنظمة التي كانت تعتبره لا يقهر، وفي نفس الوقت أصبح أهم مرتكز  للكيان الاستيطاني آيلاً للتفكك لأنه لا يستطيع حماية نفسه ولا المصالح التي أنشئ لتحقيقها، وبالتالي وصل من غرسوا هذا الكيان إلى نتيجة أن ( كلبهم فقد أطقم أنيابه)، ولا يستطيع بنباحه أن يخيف أحداً.

ما الحل؟  هذا هو السؤال الأكبر الذي وقف أمام ساسة الكيان ومن ناصرهم من العرب والعالم؟

أعتقد أن الأمين العام لحزب الله اللبناني وقع في خطأ جسيم عندما أجاب على سؤال لصحافية لبنانية سألته إن كان سيأسر الجنديين لو علم بطبيعة الرد الاسرائيلي؟

فقال لها:-

( لو علمت لما أقدمت على ذلك).

بالتأكيد كانت نواياه سليمة، ولكنه قدم لهؤلاء الساسة ما يريدون، فقد اعتبروا أن التصرف مع أي عدو لهم بما أسموه:( عقيدة الضاحية)؛ أي الإفراط في القتل والتدمير، كافياً لردع أعدائهم عن مقاتلتهم.

ولذلك كان هناك حاجة نفسية لتطبيق ( عقيدة الضاحية) في مكان آخر، حتى يتم تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، واعتبر قطاع غزة( خاصرة رخوة) بالإمكان القضاء على المشاكسين فيها، الذين يرفضون أن يكونوا مطية للأمريكان والإسرائيليين.

اعترف وزير الحرب الصهيوني السابق أن القرار كان بالانقضاض على غزة، بأسلوب التعامل حسب( خاصية الثعلبة) أي الاستئساد على من يعتبرونه الطرف الأضعف، ويضمن لهم نصراً سينمائياً سريعاً يلبي المتطلبات النفسية لجنود وساسة مهزومين.

قرار الترميم النفسي لجيش ومستوطني الكيان كان قراراً جماعياً ومطلباً اعتبروه ضمانة لإطالة أمد وجودهم في المنطقة، ولذلك يلاحظ من خلال متابعة وسائل إعلامهم، أنها كانت وسائل تعبئة و دعاية  حربية، وليست وسائل إعلام.

كما لاحظ كل المتابعين للإجماع الصهيوني  على كل المستويات مدى التواطؤ لإخفاء أعداد القتلى والجرحى، وحجم دمار الصواريخ وأماكن إصابتها، ومدى الأضرار، والسماح فقط بنشر التقارير التي تصور الجنود الإسرائيليين وكأنهم في نزهة في القطاع، وأنهم ( لقنوا الشعب الفلسطيني درساً لن ينساه).

كان هناك حرص شديد منهم لتحاشي القتال الحقيقي مع المقاتلين، خوفاً من القتل ومن الأسر، لدرجة أنهم ألبسوا جنودهم حفاظات أطفال كيلا يخرجوا من الدبابات والعربات، إضافة إلى حرصهم الشديد على قتل وتدمير وحرق كل شيء بلا تمييز، وهذا يكشف ما يشعرون به من عجز وشعور عميق بالهزيمة أمام من يتحاشون قتاله. 

من أول يوم في الحرب قال بن إليعازر:-

( خلال يومين سنحتل غزة)،

فيما قال إيهود باراك:-

( استعادت إسرائيل قوة الردع).

صمود المقاومة الفلسطينية وشراستها، أفقد هؤلاء صوابهم، وبين لهم أن من يتعاملون معهم، لا ترعبهم ( عقيدة الضاحية)، ووقعوا هم ومن دعمهم في مأزق كبير، ولكنهم أصروا جميعاً على منح ( عقيدة الضاحية)  وقتاً أكبر لتنجز الترميم النفسي المطلوب، هذه الفرصة أيضاً ذهبت أدراج الرياح ولم يحصل المطلوب.

هذا المأزق الذي وضعتهم فيه المقاومة الفلسطينية، كان لا بد من الخروج منه بمشهد يحفظ ماء وجه الكيان الاستيطاني وجيشه المهزوم نفسياً وميدانياً، ولذلك كان القرار الاسرائيلي والاقليمي العربي والدولي المساند لهذا الكيان بإخراج صورة نهاية العدوان بطريقة تعزز الترميم النفسي للكيان الصهيوني وجيشه، وتمثل ذلك بعدة محاور:-

* منذ بداية الحرب، تجند لها الإعلام الصهيوني بكافة أشكاله، بل لعب  دور المحرض على الحرب وعلى ارتكاب المجازر، ومارس  دوراً كبيراً في  التعمية على الخسائر الحقيقية في القتلى والجرحى وحجم الدمار والأماكن التي أصابتها الصواريخ الفلسطينية، في حين مجّد المجازر والدمار الذي ألحقه جيشه بالمدنيين الفلسطينيين،  وأظهر هذه المجازر على أنها إنجازات  عسكرية، وعمل على لعب دور الإعلام التعبوي الحربي مصوراً الجندي الإسرائيلي وكأنه (رامبو) الذي يدخل أرض المعركة  وهو مجهز بكل أنواع الأسلحة ويقتل المئات والكمبيوتر على ظهره، وهو الجندي الذي لا ينقص عليه أي شيء في أرض المعركة من ماء وطعام وحتى البيبسي كولا، وهو يلعب بذلك دور الذي يريد ترميم الصورة الداخلية لهذا الجيش، فضلاً عن  النظرة الخارجية له.

* الإعلان عن نهاية الحرب بطريقة احتفالية، يتم إعلان النصر فيها وتحقيق الأهداف، بدون القول ما هي الأهداف وكيف تم تحقيقها، وتساوق الإعلام والشعب والجيش في الكيان مع هذا الطرح وهم يعلمون عكسه.

* خروج الجيش من غزة بشكل احتفالي، كل جندي وكل آلية يحمل علم دولة الكيان، ويخرجون وكأنهم كانوا في نزهة، حتى يقولوا أننا لم نواجه مشكلة في عملنا هناك، في مشهد دعائي فاقع، وبإخراج سينمائي صارخ.

* الحرص الشديد من القادة الصهاينة على القول أنهم ردعوا عدوهم عن مواجهتهم، وأنهم كانوا( بلطجيين) في التعامل مع أهل غزة، في محاولة لترسيخ صورة( أزعر الحارة) في المخيلة العربية.

* استدعاء كل الاحتياطي الدولي والإقليمي الداعم للكيان بطريقة استعراضية، إعلامياً ودبلوماسياً وعسكرياً، لتعزيز صورة النصر المزعوم، كما ظهر في شرم الشيخ، الذي تبعه زيارة الزعماء الأوربيين للكيان، وأيضاً اتفاق رايس- ليفني، واجتماع الكونغرس اليهودي العالمي في القدس تحت شعارات التضامن مع ( إسرائيل)، وسيتوج كل ذلك بالمؤتمر الدولي المزمع عقده في عاصمة أوروبية بغرض منع تهريب السلاح إلى حماس، تعويضاً عن حالة النصر المفقود!!.

* العمل الدؤوب مع المحور الفلسطيني والعربي المساندين، لحرمان المقاومة الفلسطينية من أي إنجاز سياسي مبني على الإنجاز الميداني، ومحاولة امتصاص تداعيات الانتصار الميداني للمقاومة بافتعال قضايا جانبية.

* الهجوم الإعلامي المنسق على المقاومة الفلسطينية، وهذا تم بشكل لم يسبق له مثيل من كل حلفاء هذا الكيان الاستيطاني، وبأقذر الوسائل، في محاولة مستميتة، لإبقاء صورة هذا الجيش بأنه لا يقهر وأن ما تم كان هزيمة للمقاومة وليس انتصاراً.

هذه الحاجة النفسية لمستوطني الكيان على اختلافهم، لا يظهر أنها إُشبعت لدى شعب الكيان، يؤكد ذلك الانعطاف الشديد في جمهور هذا الكيان نحو الأحزاب الأكثر دموية وعداءً للعرب والمسلمين، وهذا يبين أنهم يعلمون في قرارة انفسهم أن  ثلاثي الإجرام( باراك، ليفني،اولمرت)لم يربحوا هذه المعركة.