محرقة غزة.. دلالات وتبعات
د. ياسر سعد
ثلاثة أسابيع من القتل الهمجي والتدمير العشوائي وصب الحمم على البشر والعمران لا تتوقف آثارها ولا تبعاتها بمجرد إعلان المعتدي عن تحقيقه لأهدافه المزعومة وعن وقفه لإطلاق النار من طرف واحد. فأحداث غزة أحدثت زلزالا كبيرا، إقليميا ودوليا، ستكون له تبعاته وتفاعلاته في المستقبل المنظور والبعيد.
وإذا كان العدوان استهدف أساسا المقاومة بفكرها ونهجها وحاول فصلها عن حاضنتها الشعبية، فإن المقاومة خرجت بتجارب ميدانية كبيرة وبتقدير وإعجاب الشارع العربي، وبالتحام شعبي كبير غير مسبوق. كما تهاوت سنوات طويلة من محاولات الحظر والحصار السياسي على المقاومة، حتى أن مجلس الأمن تعامل معها قراره الأخير كطرف سياسي فاعل ومؤثر. كما لم تنجح حماس في المقاومة فحسب، بل ونجحت في إدارة القطاع في ظروف بالغة الصعوبة، مما يزيد من مصداقيتها ويعزز من مكانتها الشعبية.
فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها برغم استخدامها قوة مفرطة وأسلحة فتاكة ومحظورة، أدى إلى مزيد من التدهور في صورة الجيش الإسرائيلي والتي اهتزت في حرب لبنان الأخيرة. الاحتلال وحين استعصت عليه المقاومة أوغل في القتل والتدمير، ليرسل رسائل لخصومه وحلفائه في المنطقة بأن غضبه عارم وأن من يقف أمام أهدافه وأطماعه سيدفع ثمنا باهظا. غير أنه بتصرفاته الهوجاء تلك وضع الأطراف العربية التي تسعى لعقد سلام معه أو إجراء حوارات ثقافية أو دينية في موضع اتهام أمام شعوبهم. كما انكشفت الدولة العبرية على حقيقتها أمام الرأي العام العالمي كقوة احتلال موغلة في الوحشية والهمجية.
تراجع النظام العربي الرسمي وظهوره بمظهر العاجز أو المتواطئ أمام الأحداث الدامية في غزة، أعطى القيادات الإسلامية والعلماء زخما ودورا كبيرا في صياغة الأحداث وصناعتها. فكانت دعوات الشيخ يوسف القرضاوي للجماهير بإظهار غضبها ونصرتها لغزة في أيام الجمع تلقى آذانا صاغية واستجابات واضحة في الدول العربية.
محرقة غزة وضعت إيران وشعاراتها الإسلامية أمام امتحان صعب، فإذا بتهديدات أحمد نجادي بحرق إسرائيل وتدميرها هوائية لا قيمة لها على أرض الواقع، ورأينا نجادي ينضم للمواطن العربي المقهور في مناشدة الأنظمة العربية للتدخل وإغاثة غزة. والأمر بطبيعة الحال ينسحب على حزب الله والذي لم يتردد في استخدام سلاح المقاومة في بيروت بحجة حمايته، في حين ندد علنا باستهداف إسرائيل بالصواريخ من لبنان. ومع التسليم بأن حزب الله محكوم بعوامل محلية، فإنه من الصعب تجاهل ارتباطه بالمصالح والتوجهات الإيرانية. التراجع الإيراني كان لصالح التقدم التركي، فالمواقف التركية الشجاعة والقوية من أحداث غزة مع حفاظها على علاقاتها بإسرائيل، رسخ دور أنقرة كوسيط مقبول وضامن لأي ترتيبات في المنطقة.
المواقف الغربية المساندة للاحتلال والتي بررت جرائمه وصمتت عن استخدامه أسلحة محرمة، عززت من فكر المواجهة ودفعت إليه أعدادا من الشباب المحبط والناقم والذي لا يرى في الغرب سوى الظلم ومناصرته. كما شكلت محرقة غزة شاهدا صارخا على النفاق الغربي وازدواجية معاييره، ففي الوقت الذي يرتفع الصوت الغربي هلعا على ما يجري في دارفور، لا يكتفي الغرب بغض الطرف عن جرائم إسرائيل المروعة، بل ويساندها بالحديث عن حق الدفاع عن النفس وعن حاجاتها الأمنية المشروعة!