بأي حال جئت يا عيد.. قصة مواطن سوري
كل ما في الأمر أنه رجل متدين، لكن من غير تذمت ولا تعصب..
برغم أن أحد الأصدقاء أشارعلي بعدم إرسال هذه القصة بحجة أنها قصة شخصية ونشرها قد يجر الموقع إلى الذاتية أكثر من العمومية التي ينتهجها في معالجة القضايا الطارئة....
لكنني وبرغم مشورتك يا سيدي العزيز فإني لا أجد في نشر هذه القصة الواقعية أي ضرر لاسيما وأن أصحاب هذه القصة مازالوا يتجرعون كأس الظلم والاضهاد التي قدمتها لهم يد البطش والاستبداد التي كانت وما تزال تتحكم بمصائر شعبنا البائس الضعيف...
بطل قصتي هو مواطن سوري في الثانية والستين من عمره.. لكنك إن نظرت في وجهه حسبته في الثمانين... وإن تأملته أكثر رأيت صنوفا من ألوان المعاناة والكفاح والتعب.. وتقاطيعا هرمة أكل الزمان عليها وشرب، وحفر تاريخا من الشقاء، والسعي الحثيث من أجل البقاء... إنه بحق مثال عن الرجل العربي بكل ما في الكلمة من معاناة وألم...
رجل طموح ذكي مثقف اجتماعي مجد مرح حليم وحنون...
لكن ظروف الحياة كبتت طموحه واندفاعه، وقيدت تفكيره وذكاءه، وأوقفت اندفاعه وسعيه واجتهاده، ولم تدع له وقتا لقراءة جريدة, ولا فائضا من المال لشراء كتاب أو مجلة, أو دخول إحدى مقاهي الانترنت للتواصل خلالها عبر العالم ومشكلاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. حتى -ونحن في عصر الاتصالات والإعلام والتكنولوجيا- إنه لا يملك في بيته تلفازا ولا ستالايت.. فلا وسيلة لديه لمشاهدة قناة الجزيرة ولا العربية ولا المستقبل ولا حتى التلفزيون السوري....
ولا وسيلة لأولاده لمتابعة برامج الأطفال وسبيستون...
كان لا يُرى إلا لاهثا وراء رغيف الخبز لأولاده الاثني عشر، وزوجه المريضة، هاربا... مسرعا في سباق دائم مع الزمن.. الأيام التي تتواى سراعا معلنة نهاية الشهر التي لا ترحم... واستحقاق دفع أجرة بالغة خمسة عشر ألف ليرة سورية لقاء منزل من غرفتين بالكاد يتسع للعائلة الكبيرة في أحد أكثر أحياء دمشق شعبية وقدما... وفقرا.. ناهيك عن فواتير الماء والكهرباء... والمازوت للتدفئة في أيام الشتاء...
رجل مسالم محايد لا أعداء له ولا أنداد، ولا أعتقد أنه يشكل أو شكل يوما أي خطورة على المجتمع أو أي فرد سوى مساهمته الواضحة في زيادة عدد سكان الكوكب والانفجار السكاني..
كل ما في الأمر أنه رجل متدين، لكن من غير تذمت ولا تعصب..
تغطي وجهه لحية بيضاء خفيفة، ويغطي رأسه الأصلع طاقية المشايخ البيضاء، ويرتدي حينا الكلابية والعباءة, وحينا القميص والبنطال.. حرص على تعليم أبنائه وبناته العلوم الشرعية، وألبس بناته اللباس الشرعي (الحجاب) دون أن يفرض عليهن النقاب أو المنديل.. إذا.. هو رجل معتدل محافظ شأنه كشأن معظم أهل دمشق...
ومما قد يزيد الطين بلة أن بطل قصتنا ورغم أنه طيلة حياته لم يدع بابا للرزق لم يطرقه ولا مجالا للعمل لم يجربه فقد عمل دهانا وحدادا ومنجدا وسمانا وخياطا ومبرمج كمبيوتر وبائعا وسائقا للتاكسي والباص ومديرا وأستاذا... وموظفا حكوميا... رغم أن دراسته الأصلية هي هندسة الكهرباء لكنه وبعد كل تلك المسيرة الحافلة، وبعد يقينه من أن جميع أبواب الرزق مقفلة في وجهه توجه للعمل في المجال الديني.. وبات موظفا لدى وزارة الأوقاف وإماما وخطيبا لأحد مساجد دمشق، لقاء ستة آلاف ليرة في الشهر....
لكنه أخطأ إذ توهم أنه وبهذه المهنة قد يجد الراحة أو الاستقرار.. فكان لا يخرج على الناس يوم الجمعة للخطابة إلا بعد أن يقدم نص الخطبة لأحد عناصر المخابرات للمعاينة والموافقة عليه، وكان كثيرا ما يتم استدعاؤه إلى أحد فروع الأمن لاستجوابه عن أحد المصلين لديه في المسجد، أو صلته بشخص ما، أو فكرة معينة تضمنتها إحدى خطبه، والتأكد من ولائه ومعتقداته، وانتمائه... حتى بات أمرا روتينيا وعاديا أن يأتي عنصر المخابرات إلى منزله أو أن يشاهد في المسجد جالسا يتربص المصلين....
وفي أحد أيام شهر رمضان المنصرم، وتحديدا في الخامس من رمضان أي قبل حوالي ثلاثة أشهر، تم استدعاؤه كالعادة... فارتدى ثيابه، وقبل أصغر أبنائه البالغ من العمر خمس سنين، ووعده بأنه حين يعود سيحضر له قطعة بسكويت شرط ألا يسبب المتاعب لأمه...
وسأل زوجته ماذا ستطبخ لهم على الإفطار ليحضر لها احتياجاتها في طريق عودته.. ثم توكل عى الله وخرج............
مازال الطفل الصغير ينتظر قطعة البسكويت منذ ذلك اليوم... أما باقي أفراد الأسرة فالله وحده يعلم كيف أمضوا شهر رمضان والعيد وما تلاه من أيام..
خرج رب الأسرة ولم يعد... تم اعتقاله في الخامس من شهر أيلول 2008
كل الاحتمالات مفتوحة، ولا مجال لمعرفة أين ولماذا وقع هذا القدر القاسي، ذهب.. مخلفا وراءه عائلة مؤلفة من أم مريضة جدا تعاني فقرا شديدا بالدم وآلاما مبرحة بسبب الديسك والحصوة في المرارة.. وغيرها من العلل...
إضافة إلى ثمانية من الأطفال أصغرهم في الخامسة من عمره، وثلاثة في المرحلة الابتدائية، وواحد في نهاية الإعدادية يطمح إلى النجاح بالكفاءة لدخول الثانوية العامة، وبنت في البكالوريا تجهد للنجاح ودخول الجامعة... وأكبرهم شاب في الثامنة عشر من عمره أنهى الثانوية العامة بنجاح ودخل جامعة دمشق لدراسة اللغة الفرنسية، ويعمل مساء لدى إحدى المحلات براتب لا بأس به بالنسبة لشاب يعمل على توفير مصاريف دراسته، والآن بات من المأمول منه أن يعيل تلك العائلة التي لا معيل لها بعد أبيه إلا الله...
أما الفرد الثامن فهي إحدى بنات الأسرة المتزوجة من شاب جامعي ضاقت به سبل الحياة بكافة أشكالها في سورية فأودع زوجته وابنه في منزل أهلها وهاجر طلبا للرزق والعيش الكريم...
لكن مصائب الأسرة لم نتنه عند هذا الحد؛ ففي اليوم الحادي والعشرين من شهر رمضان أي بعد ستة عشر يوما من اعتقال الأب وحوالي الساعة الثانية عشر ليلا، استيقظ أفراد الأسرة مذعورين من قرع وحشي على باب المنزل... وبعد جدال مع والدته التي حاولت منعه، قام الشاب ذو الثامنة عشر ربيعا بفتح الباب ليجد عناصر الأمن وقد أشهروا أسلحتهم في وجهه يصرخون ويسألونه عن اسمه ..
تلكك الشاب وبصعوبة خرج الاسم من فمه فما كان من عناصر الأمن إلا أن سحبوه إلى أسفل الدرج... صرخت الأم المفجوعة: ولدي... ولدي.. لكن أحدا لم يكترث لصراخها ونحيبها.. واقتاد اثنان من العناصر الشاب بلباس نومه إلى السيارة المتوقفة عند بوابة البناء..... بينما دخل اثنان آخران وفتشا خزانة الشاب وكتبه، وصادرا جهاز الكمبيوتر الموجود في المنزل، والذي كان يعتمد عليه الأولاد في دراستهم وتسليتهم...
ظلت الأم والبنتان تصرخ وتنتحب، والصغار يبكون من الخوف والفزع..
وخرج العناصر المسلحون من المنزل تاركين أهله في حالة تبكي الحجر... مقتادين الشاب البريء إلى مصير مجهول...
مضت الأيام.. وهاهو العيد على الأبواب، ومازالت الأسرة المفجوعة تنتظر ربها وابنها...
في كل عيد يجلس السوريون في بلاد الغربة يستذكرون الماضي وأيام العيد في الوطن ويحنون إلى المعمول الذي كانت تصنعه أمهاتهم بالفستق أو الجوز أو العجوة، وكعك العيد وما إلى ذلك من أطايب قد لا يكون لها وجود إلا في الوطن..
لكن صدقوني يا سادتي هذا العيد الذي تحنون إليه ربما لم يعد له وجود إلا في ذاكرتكم.. اليوم هناك أسر تستقبل العيد بالدموع والأحزان شوقا إلى مغيب في إحدى الزنزانات أو مهاجر ودع الأحباب والأولاد ومضى سعيا وراء عيد يعود بالبهجة والخير عليه وعلى أسرته...
هذا هو وطني الذي أحن إلى قضاء العيد فيه....
وتلك هي أسرتي التي أحلم باليوم الذي يجتمع فيه شملنا ونودع فيه كل تلك المآسي والآلام التي ألمت بنا...