بين سيادة القانون وسيادة الأوامر والتعاميم
المحامي هيثم المالح*
أصدر السيد وزير الأوقاف "تعميماً" بالنص التالي:
الجمهورية العربية السورية
وزارة الأوقاف
502/4/ك
23/10/2008
تعميم
يطلب إلى كافة السادة مديري الأوقاف والمفتين والخطباء وأئمة المساجد والموظفين الدينيين (الأصلاء والوكلاء) وكافة العاملين في الحقل الديني عدم المشاركة أو الترشيح إلى مجالس إدارة الجمعيات وذلك حرصاً على سلامة العمل الديني وكي يتفرغ المذكورون للعمل الدعوي والتوجيهي.
وزير الأوقاف
عن /الدكتور محمد عبد الستار السيد
(توقيع معاون الوزير)
وقد وقع معاون الوزير السيد لؤي منصور هذا التعميم الذي أرسل إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل.
والواقع فقد لاقى هذا التعميم استجابة سريعة من السيدة وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل فدعت على وجه السرعة كلاً من الجمعيات الخيرية والشرعية التالية: (الفرقان-الفتح- التمدن الإسلامي- الغراء- محمد أحمد كفتارو- أعفاف) وذلك في يوم السبت 25/10/2008 وبشكل طارئ، وما إن استقر المدعوون في مكتبها حتى أخرجت أوراقاً تتعلق بكل جمعية وفيها أسماء مطلوب تغيرها، (وقد يكون موصى بها من جهات أمنية) وطلبت من الحضور الموافقة على تبديل بعض أسماء مجالس الإدارة.
اعتمدت الوزيرة على الكتاب الذي ورد إليها من وزير الأوقاف، ثم أمهلت كل جمعية 10-15 دقيقة في مكتب مجاور لمكتبها لاختيار أسماء جديدة، أو أنها ستعمد لتعيين أشخاص من قبلها كما هددت بحل الجمعية.
هكذا فالسيدة الوزيرة تضرب عرض الحائط بقانون الجمعيات وبانتخابات الهيئات العامة وبكل قواعد الديمقراطية التي تحكم الانتخابات، وعمدت لتفعيل كتاب وزير الأوقاف الذي لا أساس قانوني أو دستوري له، وينطلق أساساً من صيغة "إملاء" فوقية في عبارة يطلب
فالمادة 26 وما بعدها من قانون الجمعيات المعمول به حتى الآن في سورية لا يشترط الشروط التي وردت في كتاب السيد وزير الأوقاف، وبالتالي يكون هذا الكتاب يتعارض مع قانون الجمعيات.
إلا أن اللافت للنظر هو أن تسارع وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل تنفيذ كتاب صادر عن وزارة أخرى لا علاقة لها بالجمعيات وهو "بصريح العبارة "يعتبر تدخلاً في أعمال وزارة أخرى وعمل الجمعيات، ثم أن كتاب وزير الأوقاف يتعارض مع الدستور وخاصة المادة 25 بكافة فقراتها والمادة 26 التي تنص على ما يلي: (لكل مواطن حق الإسهام في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وينظم القانون ذلك).
وعلى هذا فقد نصت المادة 26 آنفة الذكر على أن القانون هو المسؤول عن تنظيم مشاركة المواطنين ولم يشر الدستور من قريب أو بعيد إلى جواز تنظيم مشاركة المواطنين بموجب بلاغات أو تعاميم، ونحن هنا نتساءل هل أضحى التعميم يعلو على الدستور والقانون؟!
مارست السيدة وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل قمعاً على مجالس إدارة الجمعيات التي دعتها للاجتماع وسلمتهم ورقة تلزم كل جمعية بالتوقيع على طلب استبدال الأعضاء الذين طلبت الوزيرة تغييرهم، دون مراعاة انتخابات الهيئات العامة، وهو ما يشي بممارسة القمع على الجمعيات وإساءة لاستعمال السلطة.
يوم السبت 25/10/2008 كان بعض المنتمين للمؤسسة الدينية مدعوون لمؤتمر في ليبيا، ومنهم السادة د. وهبه الزحيلي، الشيخ أبو الخير الشكري، ومحمد شيخاني وبسام عجك، وغادر المذكورون بوابة المطار وركبوا الطائرة التي تحركت بهم على المدرج، إلا أن أمراً صدر للطائرة بالعودة ثم أنزل المذكورون من الطائرة بداعي وجوب حصولهم على إجازة للسفر من وزير الأوقاف؟؟
في خطوة لافتة وغير مسبوقة عمدت وزارة الأوقاف مؤخراً إلى توظيف خطباء المساجد مراقبين على أنفسهم، فوزعت على بعضهم مسجلات صغيرة لتسجيل خطبهم بينما ألزمتهم بتقديم تقرير شهري مختصر عن خطبهم خلال كل شهر تحت طائلة حرمان الخطيب من راتبه إذا تقاعس عن ذلك.
عمدت السلطة إلى منع قبول أي طالب غير سوري للعلوم الشرعية اعتباراً من هذا العالم لأسباب أمنية، والمرجح أن المنع يشمل فقط أبناء العالم الثالث وليس الأول.
مؤخراً حضر عناصر من الأمن وأخرجوا مدرسة مرخصة من مسجد الروضة مع الحضور بداعي أنها تدرس في غير اليوم المخصص لها للتدريس.
سبق أن كتبت مراراً حول تمتع المسؤولين بطروش السيارات وأخيراً شوهدت أربع سيارات ترافق مدير أوقاف دمشق الجديد، بينما منع الأستاذ زياد الأيوبي وزير الأوقاف السابق من الخطابة.
هذه الأخبار القصيرة إنما تؤشر لدخول المجتمع في سورية مرحلة جديدة قديمة تردنا إلى أزمنة القمع وتكميم الأفواه.
التعليق
الوقف كما هو معروف بمعناه العام ومضمونه الواقعي هو وضع أموال وأصول منتجة في معزل عن التصرف الشخصي بأعيانها، وتخصص خيراتها أو منافعها لأهداف خيرية محددة شخصية، أو اجتماعية أو دينية أو عامة.
بهذا المعنى تعتبر مؤسسة الوقف من مؤسسات المجتمع المدني المستقلة عن السلطة تماماً، وإذا أوكل أمر إدارتها إلى جهات حكومية فالإدارة لا تتعدى مفهوم الإدارة ولا يجوز أن يجري السيطرة عليها وإلحاقها بالسلطة بوجه من الوجوه، أو تحت أية ذريعة.
قبل عام 1958 كانت الأوقاف تدار في سورية من قبل إدارة للأوقاف مستقلة عن السلطة بمعنى أنه لم يكن لها وزير للأوقاف إذ أن منصب الوزير هو منصب سياسي وترأسه للأوقاف يقحم هذه المؤسسة في السياسة، وبمعنى آخر في سياسة الدولة وهو ما يخرج مؤسسة الوقف عن غايتها.
دأبت السلطة منذ أمد بعيد على التنديد بتدخل المؤسسة الدينية بالعمل السياسي وعّرضت في أكثر من مناسبة بصورة مباشرة وغير مباشرة زاعمة أن تدخل المؤسسة الدينية في السياسة يخرج الدين عن مفهومه، مما يشي باتخاذ علماء الدين له ستاراً يخفي مأرب أخرى، هكذا رأي السلطة كما سياسيون آخرون، وإن كنا نرى عكس ذلك، إذ أن لكل مواطن الحق بالعمل السياسي سواء كان يحمل فكراً دينياً أم لا وهو ما كفله الدستور بصفة عامة.
ومن هنا نقول إن تدخل السيد وزير الأوقاف بالشكل الذي تم في رسالته المشار إليها في مطلع هذا البحث وكذلك تدخل وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل في كيفية انتخاب أعضاء مجالس إدارة الجمعيات وصفة المنتخبين يعتبر خروجاً عن الضمانات التي كفلها الدستور والقوانين ذات الصلة، إذ أن ما يطبق على الجمعيات هو القانون الخاص بها مستنداً إلى الدستور.
إن ما أقدم عليه السيد وزير الأوقاف والسيدة وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل إنما يندرج تحت باب التطاول على القانون والافتئات على الدستور وعلى حرية عمل الجمعيات ونشاط الأشخاص كل ذلك لا نعرف خدمة لمن ومن الذي أوحى به الآن؟!
ونريد أن نسأل هنا، هل شكى أحد من العاملين في الجمعيات والذين يقومون بتدريس مادة دينية هنا أوهناك، بثقل العمل وإرهاقه وعدم تمكنهم من القيام بواجباتهم، فإذاً يكون الخيار لهم في ترك أي من العملين وليس أن يأتي الإملاء عليهم من فوق فيما يعملون وفيما يتركون، وبالخروج على القوانين والأنظمة تحت اسم المصلحة العامة والتي حتى الآن لا نعرف من يحدد معناها!!
يشغل بعض أعضاء حزب البعث مناصب في مؤسسات المجتمع المدني، فهل هذا يندرج في مفهوم التفرغ للعمل الحزبي، أسوة بالعمل الدعوي؟
ليس بخاف على أحد ما تمارسه إدارة الأوقاف، وبعض فروع الأمن من إملاءات على خطباء مساجد بالكلام في موضوع معين، فهل الكلام في السياسة هنا من على المنبر مسموحاً به طالما يتماهى مع مطالب السلطة وإملاءاتها، ولا يعتبر تدخلاً في السياسة من أحد العاملين في المؤسسة الدينية؟!
لطالما طالبت كما طالب غيري من العاملين في الشأن العام بالانصياع للقانون وجعله يعلو كل الأهواء وكل المناصب والأشخاص، إلا أنني حتى الآن لا أجد من يستمع إلى هذا النداء وفي كل يوم يأتينا التجاوز والافتئات على القانون من هنا وهناك وأضحت أحداث 11 أيلول المشؤومة تسيطر على العقول والنفوس كما أضحت ذريعة لملاحقة العاملين في الحقل الإسلامي والضغط عليهم خوفاً من أن يقال عنا أننا إرهابيون.
منذ إعلان حالة الطوارئ في الثامن من آذار عام 1963 وحتى الآن تم تغييب القانون الذي أضحى على الرف، وحلت الأوامر والبلاغات والتعاميم محل القانون بل باتت تعلو عليه وحتى على الدستور فهل آن الأوان لعودة الدولة إلى حظيرة القانون، وتفعيل سيادته على سائر ما عداه؟ وهو ما يعيد الطمأنينة إلى نفوس المواطنين، ويزيل الاحتقان والضغينة منها.
أسئلة أضعها أمام المسؤولين في قمة هرم السلطة.
* محام سوري، وناشط في مجال حقوق الإنسان – دمشق.