الحزب المستحيل .. وفقه الاصطياد 18
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
تتحدث الفصول الثلاثة التي يضمها الباب الأول من برنامج الإخوان المسلمين عن الأسس
والمنطلقات والأهداف والسياسات والاستراتيجيات التي يتبناها الحزب وينطلق منها ؛
وتأتي جميعا في صياغات جيدة وواضحة تناغي وترا حساسا لدي شعب يتوق إلي الإصلاح
بأنواعه كافة ، ويهفو إلي نشر الأخلاق وتعميم المفاهيم الحقيقة لمبادئ الإسلام ،
ويسعي إلي قيام دولة المؤسسات ، واستعادة الدور الرائد لمصر في المحيط الإقليمي
والعربي والإسلامي والدولي وتعزيز الأمن القومي والنهوض الاقتصادي والحياة الكريمة
، والارتقاء بالتعليم والبحث العلمي وتوطين التقنية بوصفها ركيزة البناء والنهضة .
ومن
المؤكد أن الشريعة الإسلامية هي أساس سياسات الحزب وخططه الأساسية ؛ ولذا أفاض
البرنامج في الحديث عن مقاصد الشريعة والمرجعية الأساسية لها ؛ القائمة علي مصدرين
أساسيين هما : القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة الثابتة عن رسول الله - صلي
الله عليه وسلم - ويوضح البرنامج أن النصوص المرجعية للشريعة تنقسم إلي ثلاثة أنواع
:
الأول : نصوص تنظم أمورا ثابتة في الزمان والمكان أي لا تتغير، وتتصل غالبا
بالعقائد والشعائر (الجانب الديني البحت ) ؛ وهذه لا تدخل في برنامج الحزب لأنها
تتعلق بالجانب الدعوي .
الثاني : نصوص تجمع بين تنظيم أمور ثابتة وأخري متغيرة نسبيا ، ولها مبادئ عامة
وتفاصيل ضرورية مثل الأحوال الشخصية والأسس الاجتماعية والأخلاقية وتمثل قواعد بناء
المجتمع المسلم وتشكل هويته .
الثالث : نصوص تنظم العلاقات المدنية ( الاقتصاد السياسة الاجتماع ) فيما بين
الأفراد وبعضهم ، وبين الأفراد والدولة ، وبين الدول وبعضها وهي علاقات متغيرة
غالبا ووضعت لها الشريعة مبادئ عامة مع مرونة كبيرة تتسع للتفاصيل واجتهاد العقل
الإنساني وفقا لصالح الأمة .
ويضع البرنامج مبدأ مهما يقوم علي تطبيق الشريعة الإسلامية بالرؤية التي تتوافق
عليها الأمة من خلال الأغلبية البرلمانية في السلطة التشريعية ؛ المنتخبة انتخابا
حرا بنزاهة وشفافية حقيقية دون تدليس ولا تزوير ولا إكراه بالتدخل الأمني المباشر
أو المستتر ، ويشهد بنزاهة الانتخابات مؤسسات مدنية داخلية وخارجية ، تراقب وترصد
بعيدا عن هيمنة السلطة التنفيذية
إذا
تطبيق الشريعة يتم وفقا لتوافق الأغلبية الحقيقية وليس إملاء من الأقلية أيا كانت ،
وفي هذا إنصاف للأغلبية والأقلية معا في الإطار البرلماني . أما في مجال الأقلية
غير الإسلامية فإنها تخضع لما تقرره الأغلبية البرلمانية في مجال النظام العام
وحركة المجتمع مع احتفاظها بحق العمل طبقا لشريعتها الدينية فيما يخص الأحوال
الشخصية .
ثمة
مشكل أثار جدلا لم يتوقف منذ صدور البرنامج حتى الآن ، وهو ما أشار إليه البرنامج
من ضرورة طلب السلطة التشريعية رأي هيئة من كبار علماء الدين في الأمة عند الأمور
والقضايا التي تقتضي طلب الرأي والمشورة .
ومع
أن البرنامج اشترط في هيئة علماء الدين التي يطلب رأيها أن تكون منتخبة انتخابا حرا
ومباشرا من علماء الدين ، ومستقلة استقلالا تاما وحقيقيا عن السلطة التنفيذية في كل
شئونها الفنية والمالية والإدارية ، ويعاونها لجان ومستشارون من ذوي الخبرة وأهل
العلم الأكفاء في سائر التخصصات العلمية الدنيوية الموثوق بحيدتهم وأمانتهم ..
مع
هذه الشروط فإن القوم المعارضين لإسلامية الدولة ومرجعية الشريعة ؛ يرون في هذه
الهيئة وصاية دينية تشبه سلطة الكنيسة في العصور الوسطي المظلمة علي الحكومات
الأوربية، وربطوا هيئة العلماء المطلوب رأيها فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا بما
يسمي عند الشيعة ولاية الفقيه وكلا الأمرين لا أساس له من الصحة .
فالهيئة كما ورد شكلها في البرنامج تشبه مجلسا قوميا متخصصا يضم نخبة من خيرة
العقول في شتي التخصصات البشرية بما فيها الشريعة الإسلامية ؛ تقدم الرأي الأصوب
فيما يلتبس علي المجلس التشريعي [ومثله رئيس الجمهورية حين يصدر قرارا بقانون في
غيبة انعقاد هذا المجلس ] ، والمجلس التشريعي عادة يستفتي الآن مجلس الدولة أو
المحكمة الدستورية العليا في الأمور التي تستغلق عليه أو يبدو حولها جدل يصعب حسمه
بالحوار داخل المجلس ، أو تثور حولها الشكوك . والهيئة تشبه مجلس الدولة والمحكمة
الدستورية العليا في الإفتاء حول الأمور المتعلقة بالشريعة .
ولكن القوم لا يصغون لأي توضيح أو تفسير علمي ويرون أن هيئة ذات صبغة إسلامية هي
وصاية دينية وهي ولاية فقيه ، مع أن الإسلام لا توجد فيه وصاية دينية . وولاية
الفقيه غير مطروحة في مصر لأن أهلها من السنة الذين لا يرون عصمة لإمام أو أحد من
الناس مثلما يحدث في إيران علي سبيل المثال .
لقد
كانت هيئة العلماء قائمة بالانتخاب الحر المباشر في الأزهر حتى صدور قرار تطويره
103 لسنة 1961 ، فسميت باسم مجمع البحوث الإسلامية الذي يعين أفراده بمعرفة السلطة.
والهيئة هذه كانت مستقلة تماما عن السلطة التنفيذية ؛ لأن الأزهر أيامها كان مستقلا
بأوقافه وميزانيته فلم يكن للسلطة هيمنة عليه أو علي الهيئة التي كانت تبدي آراءها
في القضايا الملتبسة دون خوف أو محاباة .. بل كانت أحيانا تأخذ موقف المعارضة
للسلطة من أجل الشعب .
وفي
تصوري وقد أشرت إلي ذلك من قبل أن إعادة هذه الهيئة يرتبط بتحرير الأزهر من قبضة
السلطة وإعادة استقلاله وانتخاب شيخه من قبل هيئة العلماء انتخابا حرا مباشرا ففي
ذلك ضمان للشعب بان السلطة ستضع في حسبانها أن فكرة الردع " المعنوي " - علي الأقل
- موجودة لمنع استبدادها وانحرافها .
ويبدو الآن أن هناك شبه إجماع لإلغاء ما يتعلق بهيئة العلماء كما وردت في برنامج
الحزب ولكن ذلك لا يمنع قيام هذه الهيئة من خلال الأزهر حرصا علي استقلاله واستقلال
الفتوى واستقلال الإمام الأكبر ففي ذلك خير كثير للوطن والأمة والإسلام جميعا .