إسرائيل من غزة لأوسيتيا الجنوبية

د. أحمد الخميسي. كاتب مصري

[email protected]

الحرب الروسية الجيورجية التي دارت بسبب أوسيتيا الجنوبية استهدفت ما هو أبعد بكثير من حدود تلك المنطقة الصغيرة التي يقطن فيها فقط مائة ألف أوسيتي ، يفصلهم عن إخوانهم في " أوسيتيا الشمالية " خط حدود روسي . أوسيتيا الجنوبية بحد ذاتها لا تعني الكثير، ولا تمثل بالنسبة لروسيا منفذا على بحار أو ثروات ، لكنها مجرد بوابة صغيرة تفضي بروسيا إلي جيورجيا التي تعد قلب القوقاز . جيورجيا هي التي تطل على البحر الأسود ، وهي المرشحة لدخول الناتو ، وهي التي سحبت من أرض روسيا كل خطوط نفط بحر قزوين إلي أرضها . وكانت تلك الخطوط تمر عبر روسيا ، فأقام الأمريكيون خطا جديدا من باكو عبر جيورجيا إلي تركيا حيث يضخ النفط هناك ، بينما تقف روسيا متفرجة. ويعتزم الأمريكيون بناء خط آخر جديد عبر أذريبجان التي رفضت مؤخرا المشاركة فيه بعد أن لمست الحزم الروسي في الحرب الأخيرة . وبالطبع فإن روسيا لا تستريح للوجود العسكري الأمريكي المكثف على حدودها مباشرة ، أي في جيورجيا وأكرانيا وغيرها . ومن ثم فإن الحرب التي اختبرت فيها موسكو قدراتها في مواجهة أمريكا كانت رسائل متبادلة حول قضايا أخرى : مصالح روسيا وحجمها ودورها ومناطق نفوذها . وقد اختلفت مواقف القوى السياسية داخل روسيا من الحرب، ومن قرار موسكو الاعتراف باستقلال أوسيتيا الجنوبية ، فقد اعتبر الديمقراطيون الجدد أن روسيا لم تضع في اعتبارها " أولوية " العلاقة مع الغرب، وأنها زعزعت تلك العلاقة باجراءاتها العسكرية والدبلوماسية . أما القوميون الروس المبتهجون بأن اقتصاد بلادهم صار الخامس في العالم ، فإنهم يروون فيما حدث درسا للغرب من أجل علاقة ينبغي أن تقوم فقط على الاعتراف المتبادل بمصالح كل طرف. الشيوعيون الروس – حسب موقفهم الذي عرضه آليج كوليكوف في جريدة " برافدا " يرفعون سقف التمني إلي ضرورة وضع سياسة مختلفة لحماية الأمن القومي الروسي في العالم. وقد لخص جينادي زوجانوف زعيم الحزب الشيوعي رؤيته بقوله : " لقد ولي زمن العناق، فالقوات المسلحة لحلف الناتو على حدودنا مباشرة ".

وخلافا للحروب الإقليمية الصغيرة التي تختبر فيها الأطراف الدولية قوة خصومها ، فإن ثمة جانبا هاما في تلك الحرب يمسنا نحن العرب مباشرة ، أعني به الدور الإسرائيلي في الحرب الذي يلقي الضوء على طبيعة إسرائيل كقاعدة عسكرية تقفز من ضرب الفلسطينيين إلي قصف الأوسيتيين ، ومن لبنان إلي طهران ، ومن الجولان إلي جنوب السودان، لتؤكد طبيعتها كقاعدة عسكرية لتنفيذ السياسة الاستعمارية أينما تطلبت تلك السياسة خدمات المرتزقة . وربما التبس الأمر من قبل على الرأي العام الأوروبي والروسي فيما يتعلق بدور إسرائيل ، طالما أن عدوانها مرتبط بالمنطقة العربية ، وبأساطير معقدة دينية وسياسية ، وبصراع تاريخي تسربل بالأكاذيب العميقة، لكن ما الذي يدفع إسرائيل للمشاركة في حرب بعيدة كل هذا البعد عن كيانها ؟ إلا إن كانت تلك المشاركة استمرارا لحقيقة دورها الذي لايقتصر على المنطقة ؟ . وقد أدركت النخبة الروسية تلك الحقيقة إلي حد كبير، ونشرت صحيفة إزفستيا في 8 أغسطس أن تل أبيب تلقت شكوى روسية بشأن الطائرات الإسرائيلية التي تعربد في جيورجيا ، وفي 9 أغسطس يكتب فلاديمير باجدانوف في " الجريدة الروسية " أن جيورجيا تعاقدت مع أمريكا وإسرائيل على 24 دبابة ، و 97 مدرعة ، وحوالي مئة ألف قطعة سلاح خفيفة ، وتنشر ازفستيا مرة أخرى في 11 أغسطس صراحة أن إسرائيل تزود جيورجيا بمختلف الأسلحة . أما وسائل الإعلام الإسرائيلية ذاتها فقد كتبت أن تل أبيب زودت جيورجيا ب 23 طائرة تجسس، وبعدد من دبابات " ميركافا" كما أشرف مدربون عسكريون إسرائيليون على تدريب الجيش الجيورجي من بينهم الجنرال إسرائيل زيف. ولا ينكر الجانب الجيورجي الدعم الإسرائيلي ، فقد صرح الرئيس الجيورجي ميخائيل ساكشفيلي لصحيفة " هآرتس " الإسرائيلية بقوله " لدي إسرائيليان اثنان من أعضاء حكومتي ، أحدهما وزير الدفاع دافيد كيزيراشفيلي ، والثاني وزير شئون التكامل الذي يعمل في المفاوضات تيموري يعقوبشفيلي ، وهكذا فإن موضوع الحرب والسلام عندنا هنا في أيدي يهود إسرائيليين " !

  لاشك أن للحرب الروسية الجيورجية أكثر من صدى، وتأثير ، وتحليل ، إقليمي ودولي ، لكن ما يهمنى منها الآن هو أن تلك الحرب توضح طبيعة إسرائيل ، الطبيعة التي تقودها إلي تقديم خدماتها هناك بعيدا عما تدعي أنه حدود مشاكلها ومآسيها.