حينما يكون العزل إجبارياً
مدينة قلقيلية كنموذج حي
سامح عودة/ فلسطين
شكل العزل الاختياري " الجيتو " حجر الأساس في العقيدة الصهيونية حينما تواجد اليهود كأقلية إثنيه في المجتمعات الأوربية ، حتى أن اللفظ " جيتو " يشير للحي أو عدد من الشوارع لإقامة اليهود، لذلك فقد أصبح يطلق على شكل من أشكال الحياة اليهودية الانعزالية وسط الشعوب التي عاشوا بينها، ولان فلسطين الأرض المقدسة لم تكن يوماً أرضاً يهودية، ولم يشكل شعبها يوما أقلية ..!! فما هو مبرر العزل الذي قام الاحتلال به على ارض لم تعرف يوماً إلا الطهارة والنقاء، تلك الأرض التي صمدت رغم القهر، وشمخت رغم العواصف ، وحافظت على كل شيء نقي فيها رغم الظلم الذي جعلها أسيرةً بين قضبانه، تلك الحالة التي تليق بالوضع الفلسطيني الآن، وهي تصادر أرضها يوماً بعد يوم تحت سنديان الاستيطان ومطرقة جدار الفصل العنصري الذي يتلوى داخل الأرض الفلسطينية كأفعى تقتل بسمها كل شيء..!!
لقد بني جدار الفصل العنصري على مساحات شاسعةٍ من الأرض الفلسطينية، مدمراً بذلك أرضاً نزرعها وزيتوناً سقيناه من دموع المُقلّ، وما هي إلا عدة أعوام وبضعة أشهرٍ منذ العام 2002 حتى وجدت المدن والتجمعات السكانية الفلسطينية داخل معازل اجبارية " جيتوهات " كما يطلق عليها في علم السياسة ..
قلقيلية المدينة الفلسطينية الشامخةُ منذ فجر التاريخ، ومنذ أن عرفت أرضها طعم الحياة كان الإنسان القلقيلي نموذجاً في العمل، فقد حاول وبعزيمةٍ تفوق حدود الخيال وهمةٍ كالأسطورة ان يغرس الغرس ويزرع الزرع، ويسخر كل ما في الطبيعة من إمكانيات كي تكون في خدمته فقد حفر الآبار وزرع الزيتون والبرتقال وقاوم الحصارُ فكان ومازال الصخرة التي ركعت المستحيل..
قلقيلية .. تلك المدينة الفلسطينية الوادعة الواقعة على تله مرتفعة قليلاً عن الساحل الفلسطيني تطل من موقعها على مدن الساحل يافا .. وعكا .. وحيفا ووو وكأنه القدر وهبة الله التي حباها إياها كي تكون حلقة الوصل بين ساحل ٍ من أجمل سواحل الدنيا غرباً وسلاسل جبال تتربعُ على قممها مدن من أقدم مدن الدنيا كالماسات أعلى التاج ..!! هي قلقيلية مكان الراحة وأرض البرتقال الحزين الذي أصبح جزءً كبيراً منه في خبر كان، فقد ابتلعته أسنان الجرفات وسرطان الاستيطان والمعازل التي فرضها الجدار ..
قلقيلية تلك المدينة التي أصبحت محاطةً بأسوار وأسلاك شائكة وجدار احتلال مقيت شاهقُ الارتفاع ، وعلى مدخلها الوحيد يقبع الجند والعسكر، يسجنون داخلها أكثر من خمسين ألف فلسطيني قدرهم أن يكونوا في هذا المكان المعزول إجبارياً، مرابطون حتى قيام الساعة، سجناء لمزاج الجند الواقفين على البوابة ، ففي كل لحظة يتغير مزاجهم ويغلقون الأبواب على العجائز والشيوخ والمرضى وكل الطيبين ممن أرادوا أن يكونوا أوفياء للأرض وللأجيال التي سوف تأتي من بعدهم، هذه هي قلقيلية وهذا هو جدار الفصل العنصري الذي يطوقها كقيد سجان..
لم تكن قلقيلية خبراً عابراً في الذاكرة بل إن تراكمات الأحداث جعلتها تتصدرُ الواجهة بين كل عام وعام ففي النكبة الأولى 1948 م فقدت الجزء الأكبر من أرضها السهلية الزراعية في اتفاقية رودوس، أرض ٌ كانت تعانق طيف البحر وتنتعشُ من نسائمه، ولان الإنسان القلقيلي لا يعرف الكلل ولا الملل مما دفعه لاستصلاح الجبل وحفر في الصخر حكمة القدر، جعلتهم قساوة الظروف كي يحولوا الصخر إلى تراب، والأرض البور مزرعةٌ بكافة الشجر والثمر، لكن الحلم َ لم يدم طويلاً فالاحتلال ُ جاثمٌ على الصدور وما هي الا سنوات قليلة ..!! حتى ألقت حرب 1967 بظلالها التي إستولت إسرائيل على بقية أراضيها و حولوها إلى مستعمرات، و جاءت نكبة قلقيلية الثالثة في العام 2002 م حيث أقامت اسرئيل مرة أخرى الجدار العازل إجبارياً، فعزلت آلاف الأسر وحرمتهم من اتصال مع العالم الخارجي إلا عبر بوابة واحدة تستخدم للدخول والخروج معا تحت رقابة مشددة..
هذه هي الصورة في قلقيلية وما قلقيلية الا نموذج لمدينة من مجموع المدن التي تأن تحت سلاسل العزل ، حينما يكون العزلُ إجبارياً فلا بد من أن تتوجه أنظار العالم الحر والمؤسسات الرعاية والمدافعة عن حقوق الإنسان إلى تلك المعازل التي تقام على الأرض الفلسطينية ، فلا يعقل بعد انهيار جدار برلين، وسقوط سياسة العزل في جنوب إفريقيا أن تعود الجدران والمعازل من جديد لتكون وصمة عار على جبين الضمير الإنساني الذي طالما تغنى بحرية الإنسان وكرامته وحقه في الحياة ..