دول الخليج والفرصة التاريخية

دول الخليج والفرصة التاريخية

محمود المنير

مدير تحرير جريدة الحركة/الكويت

[email protected]

دعت الولايات المتحدة الأمريكية قادة دول الخليج إلي قمة (أمريكية – خليجية ) في منتجع "كامب ديفيد" سيئ الذكر في ذاكرة العرب ، للبحث في مستقبل العلاقات الأمريكية الخليجية بعدما تم التوصل إلى اتفاق إطاري بين أمريكا وإيران بشأن الملف النووي الايراني ، فيما يبدو أن أمريكا أرادت أن تقدم بعض الضمانات الاستراتيجية الأمنية لدول الخليج مع توقعات بنشر منظومة دفاعية أمريكية متطورة في المنطقة بحجة حمايتها من أي اعتداء إيراني ، يواكب ذلك عقد صفقات شراء أسلحة جديدة تضخ سيولة أكبر في عروق الميزانية الأمريكية التي تعاني من عجز متزايد في موازنتها، وتضخم هائل في المديونية العامة للحكومة الفيدرالية والذي بلغ  18 تريليون دولار هذا العام ، أي ما يعادل 103% من الناتج القومي الأمريكي.

صعوبات جمة !!

وتشير الكثير من التقارير إلي أن الحكومة الأمريكية تواجه صعوبات كثيرة على رأسها ضعف الاقتصاد وازدياد معدل البطالة بين الأمريكيين، ويكفي أن يُعلم أن أكثر من 25 مليون أميركي يواجهون البطالة أو عدم امتلاك وظيفة تكفي متطلباتهم . ويؤكد ذلك ما قاله رجل الأعمال الأمريكي هنري فورد: " من حسن الحظ أن الشعب لا يفهم نظامنا المصرفي والمالي، لأنه لو فهم، فستقوم ثورة قبل صباح الغد».

ولقد صرح أوباما نفسه في مقابلة تلفزيونية بأن قوة الولايات المتحدة آخذة في التراخي، وأثارت هذه التصريحات عاصفةً تجاهه من القوى اليمينية من أصحاب التفاؤل المتهور الناشئ عن اليأس، على رغم أن التصريح كان ضمن سياق أن الولايات المتحدة قوى عظمى ولكن بدأت قوتها تتراخى.

كل شيء يتداعى !!

وحقيقةً عندما نستعرض البراهين الدالة على تراجع وانحسار قوة ونفوذ الولايات المتحدة الأمريكية بالفعل نجد أنها آخذة في الازدياد، فأسرع كمبيوتر في العالم يوجد في الصين، عجز هائل في الميزانية، جمود سياسي واقتصادي في معظم المقاييس العالمية للمنافسة، ومثال على ذلك في منتدى الاقتصاد العالمي حلت الولايات المتحدة في المرتبة الخامسة، خلف السويد وسنغافورة وفنلندا وسويسرا، وبحسب الدراسات فالولايات المتحدة تأتي خلف اليابان وجنوب كوريا والسويد في تقنية المعلومات ومراكز البحوث والتطوير، بل تأتي في ذيل قائمة الدول الـ 44 التي سعت لتطوير قدراتها التنافسية خلال العقد الماضي, كما صرح رئيس شركة انتل بقوله :"إنه يمكنه بناء مصنع في أي مكان والحصول على محفزات تصل إلى بليون دولار ولكن ليس هنا".

أمريكا كانت تحتل أعلى نسبة خريجين من الجامعات، والآن تحتل المرتبة التاسعة وهي في انحدار. وقبل عدة أعوام كان عدد خريجي تخصص الهندسة 6% فقط مقارنة بـ 20% لليابان و16% لألمانيا.

علينا أن ندرك أن أمريكا اليوم ليست أمريكا الأمس التي عهدنا نفوذها العالمي في العقود الماضية، فالسنوات الأخيرة حملت تحولاً جذرياً في السياسة الأمريكية الخارجية لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، عنوانه الكبير " كل شئي في أمريكا تداعي رويدا رويدا " يؤكد ذلك الانكفاء العسكري الأمريكي والاكتفاء بالمشاركة الديبلوماسية في القضايا العالقة في المنطقة مثل العراق وسوريا واليمن ، وأخيراً  التفاهمات والتقارب الأمريكي الايراني في المنطقة على حساب دول الخليج ، وعدم حسمها في الملف السوري حماية لأمن اسرائيل .

والأمثلة علي بداية انتهاء القرن الأمريكي علي المستوى الدولي كثيرة ؛ ففي الحالة الأوكرانية مثلا نجد أن روسيا نجحت في استغلال التراجع الأمريكي لصناعة واقع جديد في شرق أوروبا وحوض بحر البلطيق، فقد ضمت روسيا منطقة القرم، وتواصل تدخلها في شرق أوكرانيا، ولم يستطع الأمريكيون ولا الأوروبيون فعل شيء حقيقي لردع روسيا، إلا عقوبات اقتصادية هزيلة بدأت الدول الأوروبية تتملص منها لتأثيرها المباشر على اقتصادياتها المتعثرة أساساً.

مثال آخر ؛ في الفترة الرئاسية الأولي لأوباما حددت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي منطقة حوض الباسيفيك كأولوية رئيسة في السياسة الخارجية الأمريكية وبعد خمسة أعوام فشلت هذه الاستراتيجية ،حيث هيمن الأسطول البحري الصيني على 80% من حزام بحر الصين الجنوبي والشرقي، وهو الحزام الذي تعبر منه نصف التجارة العالمية، بالإضافة إلى التدخل الصيني المتزايد في شؤون الدول المجاورة، و أعلنت الصين من طرف أحادي منطقة جوية خاصة فوق المياه الإقليمية في المنطقة اليابانية الصينية الكورية، بحيث تتحكم في عبور الطائرات والسفن، وتطلب منها تراخيص لعبور هذه المياه.  ولم تستطع أمريكا ثني الصين عن إجراءاتها، مما يشيع حالة من الخوف في تلك الدول، التي لم ينفع تحالفها مع واشنطن من صد الهيمنة الصينية المتزايدة تدريجيا، لدرجة بدأت هذه الدول تنفض عن التعويل على التدخل الأمريكي لحساب التعامل مع الصين كقوة نافذة لا مجال لدفعها.

ومن يتابع السياسة الأمريكية في منطقة الخليج لاسيما فيما يتعلق بالملف الايراني يلمس بوضوح مدى التراجع الأمريكي ، الذى جعل خياراتها في الحسم مع إيران محدودة لم تتعد عقد صفقة سليمة حيال ملفها النووي لأن الخيار العسكري غير قائم وهذا بالطبع ما فتح مجالا أوسع لإيران للمناورة ورفع سقف مكاسبها في المفاوضات ، ومع أن إيران قد وافقت حاليا على وقف تخصيب اليورانيوم، فهذا لا يعني الحد من طموحات إيران الإقليمية، بل قد يكون اعتراف المجتمع الدولي بها ورفع الحصار عنها حافزا لتدخل إيراني أكبر في الإقليم.

أمريكا تتكأ على عصا سليمان

فهل سنظل ننظر إلى أمريكا كنظرة الجن لنبي الله سليمان الذى مات ولم يعلموا بموته و لبثوا في العذاب المهين ، ولم يدلهم علي موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته ، وبعدما خَرَّ علي الأرض لمصداقا لقوله تعالى : ( فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) ) (سورة سبأ ).

الفرصة التاريخية

وبناءً على ما تقدم فثمة فرصة تاريخية أمام العرب وفي مقدمتهم دول الخليج ، وهي ضرورة  الاسراع في تشكيل تحالف استراتيجي يضم دول الخليج بقيادة السعودية مع كل من تركيا وباكستان بهدف تحقيق التوازن والاستقرار في الإقليم. ووقف مسلسل الفوضى والإحتراب، والتغول الطائفي في المنطقة.

تحالف مثل هذا من شأنه أن يضمن للمنطقة استقرارا استراتيجيا على كل المستويات يحافظ على مصالح المنطقة وليس المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، ويبني شراكات وتحالفات مع قوى عالمية مختلفة بما فيها أمريكا وفقا لقواعد المصالح المشتركة.