سوريا المستقبل بين شبحِ الانتقام ومُعضلةِ العدالة الانتقالية
سوريا المستقبل
بين شبحِ الانتقام ومُعضلةِ العدالة الانتقالية
البراء كحيل
عُرفَ العربُ قبلَ الإسلامِ بثقافةِ الثَّأرِ للشخصِ أو القبيلة، ويُسطِّرُ التاريخُ قصصاً عن الانتقامِ والثَّأر تشيبُ من هوْلها الولدانُ كما في حربِ "بني أصفهان" و حرب "البسوس" وغيرها الكثير، وقد سالتْ في تلكَ الحروبِ أنهارٌ من الدِّماءِ امتدتْ على عقودٍ من الزمنِ بسببِ ثقافةٍ تجذَّرتْ في العقولِ الجاهلةِ حولَ ضرورةِ الثَّأرِ حتّى قالوا في أمثالهم: "الآخذ بثأرِ أبيهِ بعدَ أربعينَ سنةً مستعجل".
وهي منْ ضمنِ العاداتِ السَّيئةِ التي أنكرها الإسلامُ وعملَ على تنقيةِ المجتمعِ منها وكانَ ذلكَ من خلالِ سَنِّ تشريعاتٍ بديلةٍ كالقصاصِ الذي يضمنُ سلامة المجتمعِ من غير إفراطٍ ولا تفريط، ففي القصاصِ تقعُ العقوبة على المجرمِ فحسبْ ولا دخلَ لعائلتهِ أو أقربائهِ مع تشريعِ العفوِ والصفحِ من أولياءِ المجنيِّ عليه بلْ والحثِّ على ذلك، وتشريعِ الدّيةِ والفداءِ كلُّ ذلكَ بهدفِ حفظِ الدِّماءِ لا كما الثَّأر الذي يحضُّ على سفكها بساديّةٍ ووحشيةٍ لا توجدُ حتّى عندَ الحيوانات، كما أنَّ القصاصَ لا يكونُ بيدِ الفردِ أو القبيلةِ بل بيدِ وليِّ الأمرِ أي " السّلطة الحاكمة".
وهذهِ التشريعاتُ الربّانية أو الوضعية ساهمتْ بشكلٍ كبيرٍ في الحدِّ من ظاهرةِ الثَّأرِ والانتقامِ حتّى كادتْ تنقرض، إلاَّ من بعضِ المجتمعاتِ التي مازالتْ تعيشُ حياةً قبليةً بعيدةً عنِ المدنيةِ، ولكن معَ ذلكَ يُمكنُ من خلالِ التعليمِ والتثقيفِ والإعلامِ السيطرةُ على تلكَ العقولِ المُتحجِّرة، وإنْ أصرَّ البعضُ على إبقاءِ عقلهِ في العصورِ الجاهليَّةِ فيمكنُ بسهولةٍ أنْ نُسيطرَ عليهِ بقوّةِ القانون.
لكنْ تكمنُ المشكلة الرئيسةُ في تلكَ الدولِ التي تخرجُ من حربٍ عرقيةٍ أو دينيةٍ أو أهليةٍ أو شبهِ أهليةٍ كما هو الحالُ في سوريا، ففي هذه المجتمعاتِ التي غرقتْ في الدِّماءِ وضاعتْ فيها الحقوقُ وتآمرتِ الدولةُ والسّلطةُ الحاكمةُ معَ فئةٍ أو فصيلٍ من الشعبِ ضدَّ بقيةِ مُكوّناتِ المجتمعِ، هنا يكونُ من العسيرِ تنظيفُ العقولِ من أوساخِ الانتقامِ والثَّأرِ بعدَ الكمِّ الهائلِ الذي وقعَ بها من ظُلمٍ وبغيٍّ وقتلٍ وجرائمَ ضدَّ الإنسانيةِ ناهيكَ عن عددِ الضَّحايا المهولِ الذي من الصَّعبِ أنْ تحصره ندواتٌ فكريةٌ أو اجتماعيةٌ تمسحُ فكرةَ الانتقامِ من رأسه، إضافةً إلى بلدٍ مُدمّرٍ لا إعلامَ ولا تعليمَ فيهِ ولا سُلطة تنفيذية قادرة على منعِ المجنيِّ عليهِ من الانتقامِ من الجاني أو عائلتهِ أو حتّى طائفته، هنا يَجدُ دُعاةُ الصفحِ والعفوِ أو دعاةُ تطبيقِ القانونِ أنفسهم أمامَ مُعضلةٍ يصعبُ حلُّها وفي أرضٍ مجدبةٍ يصعبُ فيها استنباتُ أيِّ عودٍ أخضر، وفي نفسِ الوقتِ إنْ استسلموا لها فهذا يعني أنهاراً من الدّماءِ قد لا تنتهي لعقود.
وحيثُ أنَّ في التاريخِ عبراً ودروساً فقد تعلّمتِ البشريةُ في عصرها الحديثِ من تجاربِ الحروبِ الأهليَّةِ الغابرةِ وتوصّلَ فكرها القشيبُ إلى ما يُسمّى "بالعدالة الانتقاليَّة".
وهي حسبَ توصيفِ الأممِ المتَّحدةِ لها: "تتألفُ العدالةُ الانتقاليّةُ منْ الآلياتِ القضائيّةِ وغيرِ القضائيّةِ على السَّواء، بما في ذلكَ مبادراتُ الملاحقةِ القضائيّةِ والجبرِ وتقصِّي الحقائقِ والإصلاحِ المؤسسي أو مزيجٍ من ذلك." فالعدالةُ الانتقاليّة هي السَّفينةُ التي تنقلُ الشّعوبَ من ماضٍ أليمٍ وعنيفٍ ودامٍ إلى مُستقبلٍ يحلُّ بهِ السَّلامُ والأمانُ والاطمئنان.
والسّؤالُ المطروحُ كيفَ يُمكنُ اقناعُ مئاتِ الألوفِ من الشَّعبِ الذي تَعَرَّضَ للقتلِ والتّشريدِ والسَّجنِ والاغتصابِ أنَّ السّلامةَ للوطنِ وللجميعِ بتطبيقِ العدالة الانتقاليّةِ وليس بالانتقام؟!
في البدايةِ يجبُ أن يعلمَ الجاني والمجنيُّ عليهِ أنَّ العدالة الانتقاليَّة هي المحاسبةُ بعدلٍ معَ التسامحِ وليسَ "عفا الله عمّا سلف"، وهي بالمُصطلحِ الإسلاميِّ فيما يتعلقُ بالنتيجة "القصاص".
ولكي يتمَّ تطبيقُ هذا المبدأ ويؤتي ثمارهُ لا بُدَّ من عملٍ شاقٍ تتضافرُ فيهِ الجهودُ بين السّلطةِ الجديدةِ ومنظماتِ المُجتمعِ المدنيِّ والأحزابِ الوطنيةِ والمُنظَّمات الدوليةِ ناهيكَ عن الدورِ الهامِّ والرئيسِ لرجالِ الدينِ المخلصينَ ذووي الوعي والعلمِ حيثُ يغلبُ على طبيعةِ المجتمع السّوريِّ التَّديُّنُ وهو الوترُ الذي يجبُ على هؤلاءِ العملُ عليهِ من تذكيرِ المكلومينَ بثوابِ البلاءِ وأجرِ الصَّبرِ عليهِ والفوزِ العظيمِ بالدَّرجاتِ العُليا في الجنانِ لمنْ يعفو ويصفح.
وأمّا ما انتهت إليهِ التجاربُ والنَّظرياتُ حولَ عناصرِ العدالة الانتقاليَّة والخطواتِ التي يجبُ العملُ عليها لكي تتحقَّقَ وتعصمَ المجتمعَ من نارِ الثَّأرِ ولهيبِ الانتقامِ فهي تتلخصُ بالآتي:
1- لجانُ الحقيقة : وتكون من طرفٍ ثالثٍ لا ينتمي لا إلى النّظامِ الحاكمِ السابقِ ولا إلى الثَّورة، مُهمتها توثيقُ الانتهاكاتِ والبحثُ عن الحقيقةِ ومعرفة كلِّ من ارتكبَ جرائمَ ضدَّ الإنسانية واصدارِ التقاريرِ عن كلِّ ذلك.
2- الملاحقاتُ القضائيَّة : وتكونُ عن طريقِ محاكم وطنيَّة – محاكم دوليَّة – محاكم وطنيَّة دوليَّة (وطنيَّة تحتَ إشرافِ الأمم المتَّحدة) مُهمتها المحاسبةُ بشكلٍ عادلٍ لكلِّ من يثبتُ إدانته بارتكابِ الجرائمِ في مرحلةِ الحربِ وخاصّةً الرؤوس الكبيرة المسؤولةَ بشكلٍ مباشرٍ عن جميعِ الانتهاكات
3- التعويض: ويكونُ مادياً ومعنوياً لجميعِ المكلومينَ أو أسرهم لجبرِ الضررِ وإصلاحِ النّفوسِ الكسيرةِ وهو ما يُعرفُ في المُصطلحِ الإسلاميِّ "الدّية" وهي طريقٌ جيدٌ لجعلِ النّفوسِ تتقبلُ العفو والصفحَ عمّا سلف، وأمّا التَّعويضُ المعنويُّ كإقامة التماثيلِ للضحايا وتخليدِ ذكراهم وتضمينِ المناهجِ الدراسيةِ قصصهم وتسميةِ الشوارعِ بأسمائهم وغيرها...
4- اصلاحُ المؤسسات الأمنية: وخاصّة مؤسستي الشُّرْطَة والجيش لتعودَ لمهمّتها الرئيسة في خدمةِ المواطنينَ وحمايةِ الوطنِ وليسَ لقمعِ المواطنينَ وتدميرِ الوطنِ ولكي تعود لتُصبحَ تحتَ سُلطة الدولةِ والقانونِ وليسَ تحتَ إشرافِ أشخاصٍ أو جماعاتٍ أو طوائف.
5- التَّسامحُ والغفران: والهدفُ منه غلقُ بابِ الانتقام وفتحُ صفحةٍ جديدةٍ تسودها المحبةُ والعيشُ المشتركُ الذي يُفضي إلى التعاونِ والتكاتفِ بدلَ الانتقام والتباغضِ والانفصال.
ومنَ الأمور الهامّة في سبيلِ تخليصِ الشَّعبِ من رواسبِ الحربِ وآثارها السَّلبيةِ إيجاد مُنظَّمةٍ إعلاميَّةٍ مُحترفةٍ بعيدة عن الطَّائفيةِ تبثُّ خطاباً مدروساً يهدفُ لتهدئةِ النّفوسِ ونشرِ ثقافةِ الصفحِ والعفو والاتِّجاهِ نحو بناءِ الوطن، وليس إعلاماً فاشلاً يُشعلُ نارَ الانتقامِ في القلوبِ كما يحدثُ في بعض بلدانِ الربيع العربيِّ بعد الثَّورة.
ومن المهمِّ جداً ألاَّ يتصدّرَ رجالُ الدولةِ القديمةِ للواجهةِ السِّياسية والقيادية لسوريا المستقبل بعدَ سقوطِ النظامِ حتّى ولو لم يثبتْ تلطّخ أيديهم بالدّماء، فليس من السهلِ أن يرى المكلومُ المسؤولَ بطريقةٍ غيرِ مباشرةٍ عن جراحهِ وعذاباتهِ يعودُ لكي يقودهُ من جديدٍ وهذا ما يدفعه مُجدداً لكي يرفعَ السّلاحَ لأنّه لم ينلْ ما خرجَ في سبيلهِ وضحّى لأجله، نحنُ هنا لا نقولُ بالحرمان السياسيِّ أو قوانينِ الاجتثاثِ كما حدثَ في العراقِ من قانونِ اجتثاثِ البعثِ وتبعاتهِ المرعبة على ذلك البلدِ الجريحِ، وكذلكَ لا نقولُ أن تعودَ السُّلطةُ المعزولةُ بفلولها إلى سُدّةِ الحُكمِ بوجهِ وطريقةٍ أخرى كما حدثَ في كلٍّ من مصرَ وتونس، يجب أن يكونَ الحُكمُ مُستنداً لصندوقِ الاقتراعِ المُصانِ عن المالِ والإعلامِ السِّياسيِّ المُستندِ على تكافؤ الفرص.
وكما هو معروفٌ فالعدالة الانتقاليَّةُ ليستْ بدعةً جديدةً لم تُطبّق قبلَ سوريا، فقد تمَّ تطبيقها ونجاحها في كثيرٍ من الدُّول التي شهدت حرباً أهليَّةً أو تمييزاً عنصرياً وعلى رأسِ هذه الدُّول جنوبُ إفريقيا بزعامةِ نيلسون مانديلا الذي عملَ مع شركائهِ في الوطنِ على تطهيرِ النفوسِ من أحقادِ ثاراتِ الحربِ والتمييزِ العنصريِّ حتّى وصلَ بالبلادِ إلى شاطئ الأمان وبرِّ السَّلامِ بعدَ أن كادتْ تفتكُ بها الحربُ العنصريةُ فباتتْ تعيشُ في نعمةٍ ورحمةٍ في ظلِّ التعايش وقبولِ الآخر والمساواة بين الجميعِ في الحقوقِ والواجبات.
سوريا المستقبل ستكونُ على شَفَا جُرُفٍ هارٍ إنْ لم يتكاتفَ الجميعُ لرأَبِ الصَّدْعِ وتنقيةِ النفوسِ منَ أمراضِ الثَّأرِ بتعويضها ومحاسبةِ المجرمينَ أمام محاكمَ عادلةٍ لحفظِ المجتمعِ من الانجرار لحربٍ لا تُبقي ولا تذر، فحينَ يسقطُ رأسُ الهرمِ من الخطأ والجهلِ أن يستمرَ مُسلسلُ الثَّأر، نحتاجُ لثقافةِ الصَّفحِ وإغلاقِ صفحةِ الماضي لكي نُحوّلَ تلكَ النّفوسَ الغاضبةَ من الهدم إلى البناء، الأمرُ عسيرٌ وليس سهلاً لكنّه يجبُ أن يكون، وإلاَّ فنحن في طريقٍ طويلٍ جداً من الدِّماءِ والدَّمار والخراب، فما حلَّت ثقافة الثَّأرِ في قومٍ إلاَّ جعلتهم كالرميم.
كفى سوريا ما حلَّ بها من دمارٍ ودماءٍ وتشريدٍ، وآن أوانُ العملِ ليبنيَ جيلُ الحربِ مُستقبلاً سالماً مُنعَّماً للأجيالِ القادمةِ ليُخلّدهم التَّاريخُ بنقاءِ قلوبهم وتعاليهم عن حظوظِ النّفس وأهوائها.
وأختم بهذا الاقتباس للأستاذ عصام العطّار:
"نداءٌ من عصام العطَّار إلى الشَّعبِ السّوريِّ عقب اقتحام بيته في مدينة آخن بألمانيا وقتلِ زوجتهِ الشَّهيدة بنان علي الطنطاوي "أم أيمن" رحمها الله تعالى في 17آذار1981م:
إنّني أناشدُ الشَّعبَ السّوريَّ الوفيّ، وأناشد العرب والمسلمين في كلّ مكان: ألاّ يقومَ أحدٌ منهم بأيّ عملٍ انتقاميٍّ لزوجتي الشَّهيدة رحمها الله، فالشَّهيدة العظيمة ليست إلاّ واحدةً من ألوف الشّهداء على ثَرانا الطّهور، ونحن نَنْشُدُ العدالة لا الانتقام، وتخليصَ شعبنا كلّه من القيود والأغلال، ومن الظّلم والهوان، ومن التَّصفية الفرديّة والجماعية".
وجواباً على سؤالِ بعضِ الأوساط السّوريّة والصُّحُف العربيّة والأجنبيّة:
- هل تعتبر العلويين جميعاً مسؤولين عن جريمة اغتيال زوجتك الشَّهيدة؟
قال العطَّار: كيف أعتبرهم جميعاً مسؤولين والله عزَّ وجلَّ يقول: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى"
وقال العطَّار: لقد دافعتُ في الماضي، وسأُدافع في الحاضرِ والمستقبلِ عن كلّ مواطنٍ بريءٍ من العلويين وغير العلويين كما أُدافع عن بنتي هادية وولدي أيمن".